تتضمن دعاية الحزب الجمهوري ضد الحزب الديمقراطي هذا العام في خضم انتخابات الرئاسة الأمريكية 2020 اتهامات متكررة بأن مرشح الحزب الديمقراطي جو بايدن اشتراكي وأن الحزب الديمقراطي سيتبع سياسات اشتراكية من شأنها أن تقوّض الهيمنة الأمريكية على العالم وتضرب الاقتصاد الأمريكي في مقتل وتقلص من عدد الوظائف في أمريكا.
وفي مواجهة دعاية الحزب الجمهوري، انتفض جو بايدن وقادة الحزب الديمقراطي لإثبات أنهم لا يؤمنون بالاشتراكية ولا يريدون تطبيقها. فلماذا اختار الحزب الجمهوري ومرشحه ترامب الاتكاء على نغمة الاشتراكية وكأنها سُبة، كما ظهر جلياً في عنوان مؤتمر العمل السياسي للمحافظين الذي عُقد هذا العام بعنوان "أمريكا في مواجهة الاشتراكية"؟ ولماذا ينظر الديمقراطيون لهذا الزعم على أنه تهمة تستوجب التملّص منها وإثبات أنهم غير اشتراكيين؟ تتضمن هذه الاتهامات من جانب الجمهوريين وهذا الدفاع من جانب الديمقراطيين الكراهيةَ للاشتراكية في أمريكا، ولكن هل تشير للوقوع في غرام الرأسمالية التي يمثلها الحزب الجمهوري أصدق تمثيل؟
قبل محاولتي الإجابة عن الأسئلة السابقة، أظن أنه من باب التأصيل أن أُعرِّف بالفروق بين الاشتراكية والرأسمالية من الناحيتين الاقتصادية والسياسية.
فالاشتراكية هي التحول لاقتصاد تتحكم في مفاصله الدولة من خلال الاستحواذ على الملكيات الخاصة التي تصير ملكاً مشاعاً للجميع، بينما تمثل الرأسمالية الاقتصاد الحر الذي تشيع فيه الملكيات الخاصة متمثلة في شركات تُحَصِّل منها الدولةُ الضرائب. وفي الدول الاشتراكية، غالباً ما تغيب المنافسة لأن الدولة تتحكم في كل شيء وتغيب المنافسة ولا يبقى للزبون فرصة كبيرة في الاختيار فالمنتجات محدودة وغالباً رديئة، في حين تشيع المنافسة بين الشركات في ظل الدول الرأسمالية بل وقد تصير حرباً ضروساً لإنتاج منتجات ترضي العميل الذي يختار الأجود.
وهكذا، تتسم الدول الاشتراكية بقتل روح الإبداع والمنافسة، في حين تنشط المنافسة وتصير عرفاً في الدول الرأسمالية، وهو عرف يمتد من الاقتصاد للسياسة فتتعدد الأحزاب السياسية في الدول الرأسمالية كتعدد الشركات وتصير لها قوى تتنافس فتغلب مرة وتصل لسدة الحكم وتُغلَب مرة فتعود للشارع لتهاجم القوة التي غلبتها. أما في الدول الاشتراكية، فتكاد القوى السياسية تتجمع في يد حزب واحد أوحد يهيمن على الحياة السياسية وربما الإعلام فلا يبق على الساحة غيره ولا يبق مجال لحرية التعبير أو حقوق الإنسان أو التعددية السياسية.
يعني هذا أن الدول الرأسمالية غالباً ما تكون ديمقراطية، في حين تتسم الدول الاشتراكية غالباً بغياب الديمقراطية الحقيقية فيها حتى وإن سمحت بتعدد الأحزاب لأنها غالباً ما تكون أحزاباً كرتونية لا قيمة لها. وما يثبت قولي عن تفوق الدول الرأسمالية حضارياً مقارنة بالدول الاشتراكية إحصائياتٌ عالمية ظاهرة للعيان عن جودة التعليم وحقوق الإنسان وصحة المواطنين وجودة المزروعات وقلة نسب التلوث ورعاية المعاقين والرعاية النفسية، وكل هذه المجالات تتفوق فيها الدول الرأسمالية عن تلك الاشتراكية.
وقد يقول قائل: رغم كل هذه الحقائق، ما زالت الدول الاشتراكية تحمي حقوق العمال أكثر من الدول الرأسمالية عبر قوانين رسمية تعطي العمال معاشاً ثابتاً ووظيفة دائمة ما يشعرهم بالأمان الوظيفي، وهذا صحيح إلى حد ما، غير أن من يقول هذا يتجاهل أن هذه الرعاية قد أورثت العمال والموظفين في هذه الدول بلادة وضعفاً في المهارات، وما هي إلا رشوة مقنعة من الأنظمة الاشتراكية لتضمن بقاءها في السلطة حتى ولو على حساب قتل التقدم والتدافع الحضاري.
وفي ظل هذا التعريف الموجز (وربما المخل) بالفروق بين الرأسمالية والاشتراكية، ندرك لماذا يتهم الجمهوريون الديمقراطيين بالاشتراكية ولماذا يتملص الديمقراطيون من هذه التهمة. فالاشتراكية مفهوم يشمل فيما يشمل تحكم الحكومات في الاقتصاد، وغياب المنافسة، وغياب الديمقراطية، والحكم الشمولي، وقتل روح الإبداع، وانتهاك حقوق الإنسان. وبالنسبة للأمريكيين، تعني الاشتراكية كل هذا إضافة إلى أنها النموذج الاقتصادي الذي ساد في دول عادت الولايات المتحدة لردح من الزمن مثل الاتحاد السوفييتي السابق، أو دول تعاديها الآن مثل كوريا الشمالية أو كوبا، أو ودول تتهمها الولايات المتحدة بانتهاك حقوق الإنسان فيها مثل الصين أو دول ليس لها من التقدم رصيد كبير. وكل هذه الصور الذهنية -حتى وإن كانت صوراً غير حقيقية زرعها الإعلام الأمريكي والسياسيون في نفوس الأمريكيين لمصالح شخصية- قد يكون لها تأثير ما في كراهية الأمريكيين للاشتراكية.
وهنا، يطرأ سؤال مصدره مزايا الرأسمالية التي أشرنا إليها، وهو: لماذا لا يدافع الديمقراطيون عن أنفسهم بقولهم: "نحن حزب رأسمالي، ونتبنى مبادئ الرأسمالية"؟ تكمن الإجابة عن هذا السؤال في نتائج الدراسة التي أجراها مركز بيو للأبحاث عن آراء الأمريكيين في الرأسمالية والاشتراكية عام 2019، وهي النتائج التي أظهرت تفضيل الأمريكيين للرأسمالية بنسبة 55% وللاشتراكية بنسبة 42%. وأزعم أن هذا الفارق (13%) كان ليكون أكثر من 20 أو 30% لو أُجريت الدراسة في 2010 أو ما قبلها؛ ما يعني أن كراهية الأمريكيين للاشتراكية تقل ولا تزيد، فما السبب أيضاً؟ يكمن السبب في أن الرأسمالية التي يقودها ترامب الآن صارت رأسمالية متوحشة أشعرت الشباب بشكل خاص بأن الشركات باتت أقوى من الدولة وأنهم صاروا عبيداً للديون التي لا يستطيعون الفكاك منها ولا يستطيعون أن يؤسسوا بيوتاً كتلك التي أسسها أباؤهم ولا يستطيعون حتى الإنفاق على التأمين الطبي باهظ التكلفة.
ولهذا السبب -ربما- بزغ نجم الحزب الديمقراطي بيرني ساندرز، وهو يساري اشتراكي إلى حد ما لأنه يتبنى سياسات أشبه بالسياسات الاشتراكية مثل دعوته لزيادة الضرائب على الأغنياء وإلغاء ديون الطلاب إضافة لدعمه للعطلات المرضية ومجانية التعليم الجامعي. ومع هذا، لم ينجح ساندرز في أن يقنع قادة الحزب الديمقراطي بأن يكون هو مرشحه الرئاسي بديلاً لبايدن لأن ترشيح ساندرز كان ليكون تأكيداً على تبني الحزب الديمقراطي للسياسات الاشتراكية التي ما زال الشعب الأمريكي رافضاً لها إلى حد ما.
ومحصلة القول هي أن الشعب الأمريكي في حالة من التذبذب بين الاتجاهين الرأسمالي والاشتراكي بشكل غير مسبوق؛ لأنه يريد حماية من الدولة خاصة في ظل أزمة كورونا الراهنة التي أشعرت الأمريكيين بضرورة إنفاق الدولة عليه في ظل توقف عمل الشركات، مع عدم استعدادهم للتضحية بكل مزايا الرأسمالية. ويعني هذا أن الأمريكين لا يريدون اشتراكية كاملة تفقدهم روح المنافسة والتدافع والتعددية والديمقراطية التي جعلت من أمريكا ما هي عليه الآن، ولا يريدون رأسمالية متوحشة تفقدهم الإحساس بالأمان وعدم وجود مظلة اجتماعية عادلة تتمثل في إتاحة التعليم والخدمات الصحية والرعاية الاجتماعية مجاناً، بل يريدون نموذجاً خليطاً بين الاشتراكية والرأسمالية.
ولا عجب في أن هذا النموذج الخليط (الديمقراطي الاشتراكي) هو عينه النموذج الكندي والدنماركي والنرويجي، وهي الدول التي ينعم مواطنوها بالرفاهة الأكبر على مستوى العالم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.