خلال الأيام الأخيرة من شهر سبتمبر/أيلول الماضي، اندلعت معارك بين أذربيجان وأرمينيا حول منطقة متنازع عليها تُسمى منطقة ناغورني قره باغ. وفي حين أدت الاشتباكات الأولية إلى مكاسب صغيرة لأذربيجان، بدا أن جبهات القتال استقرت إلى حد كبير بعد أسبوع. غير أن هذه المعركة شهدت بروز نوع غير مسبوق من القتال: استخدام أذربيجان طائرات مسيّرة مسلحة ضد دبابات ومدفعية ومركبات عسكرية على الجبهة الأرمينية. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لطالما استخدمت الطائرات المسيّرة المسلحة لعقود في حروبها العالمية على الإرهاب، فإن قرار باكو الأخير نشر مئات الأنواع الجديدة من الطائرات المسيّرة بكشف النقاب عن ملمحٍ جديد في مستقبل الحروب. وهو ما يُوجب على الحكومات التي تستخدم الطائرات المسيّرة في قواتها، من واشنطن إلى بكين ومن إسرائيل إلى طهران، أن تنتبه إلى ما قد يحمله المستقبل.
لم تكن تلك المرة الأولى التي تثير فيها الطائرات المسيّرة الأذربيجانية دهشة وانتباه المتابعين. ففي عام 2016، استخدمت الدولة الواقعة جنوب القوقاز والمتاخمة لإيران "طائرة مسيّرة انتحارية" ضد أرمينيا. وكان هذا نوع جديد من الطائرات المسيّرة المصممة للتحليق إلى مواقع العدو، حيث تكون الطائرة نفسها هي الرأس الحربي. وتطلق شركات التصنيع العسكري على هذه الطائرات المسيّرة اسم "الذخائر المتسكّعة". وهذه النوع من الطائرات المسيّرة أصغر حجماً من طائرات بريداتور التي تنتجها الولايات المتحدة، وفي بعض الأحيان تبدو مثل صاروخ "كروز" أكثر من كونها طائرة مسيّرة. ولسنوات طويلة، كانت أذربيجان تحصل على هذه الطائرات من إسرائيل. وخلص "مركز دراسة الطائرات المسيّرة" التابع لـ"كلية بارد"، إلى أن أذربيجان قد حصلت على ذخائر إسرائيلية، تضم طائرات مسيّرة من نوع "هاربي" Harpy، و"هاروب" Harop، وطائرات "أوربيتر" Orbiter 1K.
باكو مولعةٌ بالطائرات المسيّرة الإسرائيلية لدرجة أنها أعدت فيديو موسيقياً لعرضها. ويُظهر مقطع فيديو لموسيقى الروك نشرته أذربيجان رجلاً يغني أمام صف من أربع شاحنات، وتحمل كل شاحنة منها حاويات مستطيلة. هذه هي الحاويات التي تحمل طائرات "هاروب" المسيّرة. ويمكن مشاهدة عدد كبير من الطائرات المسيّرة، مع مقدمتها المخروطية، في مقطع الفيديو. ويبدو أن هذه الشحنات يمكنها حمل ما مجموعه 36 طائرة مسيّرة لإطلاقها في الوقت ذاته. وهذا العدد من الطائرات، إذا أُطلق في وقت واحد، سيكون بمثابة سرب ضخم من الطائرات المسيّرة، ما يتيح للمشغِّ تدمير قافلة من دبابات العدو، أو مهاجمة رادار العدو ومنشآت الدفاع الجوي الخاصة به. وهذا بالضبط ما تقول أذربيجان إن طائراتها المسيّرة قد أنجزته. ويزعم منشور توزعه أذربيجان على جنودها في الميدان أن البلاد دمرت 30 وحدة دفاع جوي أرمينية. فيما قالت وزارة الدفاع الأرمينية إنها أسقطت 107 طائرات مسيّرة أذرية. وهذه هي المرة الأولى في التاريخ التي يُزعم فيها إسقاط هذا العدد الكبير من الطائرات المسيّرة، وربما تكون تلك المعارك قد شهدت أكبر استخدام على الإطلاق لطائرات مسيّرة من قبل دولة.
لماذا كل ذلك مهم؟ كانت الطائرات المسيّرة موجودة منذ سنوات عديدة، وفي حين أن الولايات المتحدة استخدمتها بالفعل لتنفيذ آلاف من الضربات الجوية، فإنها وحدها لم تكسب الحروب لأصحابها في أفغانستان أو في أي مكان آخر. إنها تمنح المشغِّل القدرة على التحليق فوق الهدف، ومراقبته لأيام، وتوجيه الضربات بدقة عندما يكشف الأعداء أنفسهم. ومع ذلك، فقد كانت الشركات الإسرائيلية هي الرائدة في تطوير ما يُعرف بالذخائر المتسكّعة التي استخدمتها أذربيجان لتحقيق التفوق في ساحة المعركة. فقد اخترعت "شركة صناعات الفضاء الإسرائيلية" طائرتي "هاربي" و"هاروب" للعمل معاً، على سبيل المثال، مع رادار الطائرة "هاربي" للاستطلاع والكشف، والطائرة المسيّرة "هاروب" لقصف وتوجيه الضربات الجوية للمركبات. لتدرك الأمر، فكر في هذه الطائرات المسيّرة على أنها قوة جوية للتدخلات الفورية، دون حاجة إلى المخاطرة بطيارين.
حصلت باكو أيضاً على طائرات مسيّرة أخرى، طائرات "بيرقدار" Bayraktar التركية، وهي تعد بدرجة ما نسخة مصغرة من طائرات "ريبر" المسيرة الأمريكية، مسلحة بصواريخ تركية. كما حصل الأذريون على طائرات "سكاي سترايكر" SkyStriker المسيّرة الإسرائيلية، من شركة Elbit Systems. ونشرت حسابات وسائل التواصل الاجتماعي الموالية لأذربيجان لقطات لما زعموا أنها طائرات مسيّرة إسرائيلية تُدمّر دبابات ومركبات أرمينية. ولم تصدر إسرائيل تعليقاً بخصوص مقاطع الفيديو، لكن محققين على شبكة الإنترنت حدّدوا صورة واحدة لغارة جوية تُظهر طائرة مسيّرة إسرائيلية تحلّق في المقطع. وهذا يعني أن هناك كثيراً من الطائرات المسيّرة في الهواء، بحيث تقوم الطائرات المسيّرة بتصوير بعضها بعضاً. كما نشر الأرمن مقاطع فيديو يزعمون أنها تُظهر إسقاط عددٍ من الطائرات المسيّرة.
وعلى الرغم من أننا قد رأينا إسقاط طائرات مسيّرة من قبل، مثلما حدث عندما أسقطت إيران عملاق المراقبة الأمريكية الطائرة "جلوبال هوك" ذات الـ200 مليون دولار في يونيو/حزيران 2019، فإن الحرب التي جرت في القوقاز تُنبئ بالشكل الجديد الذي ستكون عليه ساحات المعارك المستقبلية. يتضمن هذا المستقبل صفوفاً متعددة من الطائرات المسيّرة، تعمل معاً في نوع من "الأسراب" للتغلب على دفاعات العدو. ولا تستطيع وحدات الدفاع الجوي عادةً تعقب وتحييد عشرات الطائرات المسيّرة في الوقت نفسه. وقد كانت إيران تعلم ذلك عندما أرسلت 25 طائرة مسيّرة وصواريخ كروز لمهاجمة منشآت المملكة النفطية في سبتمبر/أيلول من العام الماضي. كما ساعدت إيران حلفاءها في لبنان واليمن في زيادة ترسانتهم من الطائرات المسيّرة.
يجب أن تراقب قوتا الطائرات المسيّرة البارزتان، واشنطن وبكين، المعارك الجارية بين أذربيجان وأرمينيا، والاطلاع على السبل المثلى لكيفية عمل أسراب الطائرات المسيّرة والذخائر المتسكعة ميدانياً. ومع أننا لم تشهد حتى الآن اشتباكات مباشرة بين قوتين من طائرات مسيّرة، فإن الصراع الأذري الأرميني قد يوضح نجاحات هذا النوع الجديد من طائرات الكاميكازي الانتحارية في ساحة المعركة، وحدود هذا النجاح.
ومن الجدير بالذكر، أن الطائرات المسيّرة بمفردها، بدون طائرات مسيّرة داعمة أخرى وبدون صواريخ وقوات برية على الأرض لدعم هجماتها، لا تكسب الحروب. إنها تمنح المشغِّل عديداً من الإمكانيات، مثل المراقبة اللانهائية والقدرة على تتبع الأعداء بسهولة، وحتى باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي والخوارزميات لتعيين التهديدات، فضلاً على إنقاذ الأرواح على كلا الجانبين بسبب دقتها. كل ذلك يعني أن الجيل القادم من الحروب سيتعيّن عليه أن ينبري للاشتباك مع دروس الحرب الدائرة حالياً في القوقاز والاستفادة منها.
– هذا الموضوع مترجم عن مجلة Newsweek الأمريكية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.