لم تكن كلمات ماكرون، رئيس فرنسا، التي وُصفت بالإساءة للإسلام، هي المرة الأولى التي يُساء فيها للإسلام، فهي إساءات قديمة متجددة، فقد سبقه إليها ساسة ومفكرون وباباوات، وقد امتلأت بهذه التصريحات عشرات بل مئات من الصفحات، بل هناك من المستشرقين غير المنصفين من ألَّف في ذلك كتباً، ولم تقصر السينما العالمية في ذلك فأنتجت عشرات العشرات من الأفلام المسيئة للإسلام. ولعل من أشهر مَن أساؤوا في تصريحاتهم إلى الإسلام هو "بابا الفاتيكان بنديكت السادس عشر"، حيث نقل كلاماً عن إمبراطور بيزنطي مقراً به جاء فيه، حيث قال: "أرني ما الجديد الذي جاء به محمد. لن تجد إلا أشياء شريرة وغير إنسانية مثل أمره بنشر الدين الذي كان يبشر به بحد السيف".
السيسي سبق ماكرون:
والحق أن رجلاً كالسيسي كان له تصريحات نال بها من الإسلام، ولم يقف أحد ليواجهه على إساءته وتطاوله على الإسلام، ففي عام 2017 قال: "العالم كله أصبح خائفاً ومفزوعاً من المسلمين…"، وفي مرة أخرى قال: "ليس معقولاً أن يكون الفكر الذي نقدسه على مئات السنين يدفع الأمة بكاملها للقلق والخطر والقتل والتدمير في الدنيا كلها…. لا يمكن أن يَقتل 1.6 مليار الدنيا كلَّها التي يعيش فيها سبعة مليارات حتى يتمكنوا هم من العيش"، ومرة ثالثة قال: "إن الملحدين اتجهوا إلى هذا الطريق لأنهم لم يتحملوا الإساءة والظلم الذي تعرضوا له في الإسلام…".
إن هذه الإساءة وغيرها أحسب أنها نتجت من سلبية يعيشها حكام العرب والمسلمين فضلاً عن سلبية المؤسسات الإسلامية التي لم تغضب لهذا الكلام، مما جرأ وشجع ماكرون وغيره من النيل من الإسلام والاستخفاف بالمسلمين.
ماكرون (2018) غير ماكرون (2020):
والذي ينظر إلى تصريحات ماكرون في 2018 سيرى العلمانية المحايدة ظاهرة بصورة ما في تصريحاته، فإذا كانت تصريحاته في يوم الجمعة الماضي يقول فيها: "الإسلام يعيش اليوم أزمة في كل مكان بالعالم"، فإنه وفي لقاء صحفي في أبريل/نيسان 2018 أشار إلى أن الإسلام ينتشر بكثرة في فرنسا، ودعا إلى الحفاظ على وحدة المجتمع باحترام الحريات الدينية، وفي ضوء العلمانية الفرنسية قال: إنه يحترم المحجبات ولا يؤيد حظر الحجاب.
لماذا هذا التناقض؟
ويمكن القول إن خلافاً قوياً بين السياسة الفرنسية متمثلة في ماكرون مع السياسة التركية متمثلة في "أردوغان" وكان يمكن لماكرون أن يبقي على عداءه لأردوغان ولن يلومه أحد على ذلك، فإن لكل دولة ولكل رئيس حرية اختيار المواقف التي يرى فيها مصلحة بلاده، لكن أن يخرج ماكرون من خلافه مع "أردوغان" ليسيء إلى دين يتبعه "53" دولة، فضلاً عن أقليات مسلمة تملأ بلاد الدنيا كلها، ليكون مجمل من أساء إليهم ماكرون قرابة مليارين من البشر، يقطن منهم ما يزيد عن 4 ملايين مسلم في فرنسا يمثلون قرابة 8% من سكان فرنسا فهذا هو الجهل بعينه، وهو والجنون سواء.
وأعجب من ذلك أن ماكرون قبل أسابيع اعتبر إعادة صحيفة "شارل إيبدو" المغمورة للرسوم المسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم حرية رأي، فيبدو أن الرجل أصبحت حرية الرأي عنده لا حدود لها.
مَن وراء تصريحات ماكرون؟
ولا شك أن هذه التصريحات البذيئة لم تخرج من بنات أفكار ماكرون فلا هو بالمفكر ولا هو بالفيلسوف، وهذا يعني أن أحداً ما وراء هذه التصريحات؛ ويمكن القول إن وراء هذه التصريحات جهات مختلفة:
1- أحزاب ومؤسسات وكتاب رضعوا التشدد الفكري، ترسخ في هذا ما يعرف بــ"إسلاموفوبيا".
2- دول أو على الأقل دولة تنتمي إلى الإسلام، لكنها تخاف على عروشها من الإسلام ودعاته، ولا شك أن بعض دول الخليج حاضرة وبقوة في التحريض على المراكز الإسلامية في أوروبا وأمريكا.
ولهذا كان اتهام ما يسمى بــ"الإسلام السياسي" حاضراً في كلمة ماكرون.
ما هو خطأ ماكرون بالتحديد؟
إن جرم ماكرون يكمن في وصفه الإسلام كله كدين بأنه "يعيش أزمة" لو أنه وصف أفراداً لكان محقاً، لكن أن ينال من دين فهذا ليس عمله، بل لم يقدم عليه أحد من الساسة في الدول الكبرى من قبل، حيث يحاول ساسة الدول الكبرى كسب ودّ المسلمين نظراً لما لهم من مصالح في كثير من الدول التي تدين بالإسلام. لكن يبدو أن ماكرون تأكد من الحفاظ على مصالحه، ومن العائد الذي يدفعه له بعض حكام العرب كـ"إتاوة" للحفاظ على كراسيهم وعروشهم، مما شجعه على قول ما يشاء.
الإرهاب لا دين له يا ماكرون وقد تؤججه تصريحاتك:
وليعلم ماكرون أن الإسلام بريء من التشدد أو الإرهاب، وإن وجد بعض إرهاب أو تشدد فمن الأفراد لا من الإسلام، ومن الأشخاص لا القرآن، وكان أولى بماكرون أن يرجع إلى بعض المنصفين من المستشرقين ليخبروه برحمة الإسلام وتسامح الإسلام، وماذا قدم الإسلام للغرب، وماذا استفادت فرنسا -بل الغرب كله- من الإسلام، ويكفيه أن يطالع ما كتبته "زيغريد هونكه" في كتابها "شمس العرب تسطع على الغرب" أو "شمس الله تسطع على الغرب".
والحق أن مثل هذه التصريحات غير المدروسة ربما تؤجج روح التشدد والتطرف عند بعض الشباب المتحمس من الطرفين "المسلمين وغير المسلمين"، لذا كان على رأس الدولة الفرنسية أن يراعي 8% من سكان فرنسا، سواء من المهاجرين أو من أبناء فرنسا الأصليين الذين اعتنقوا الإسلام قديماً أو حديثاً.
وأخيراً: فليعلم ماكرون ومن على شاكلته أن الإسلام لم يعِش أزمة في يوم من الأيام، بل كان رائداً في نفع الإنسانية، حيث تعددت إسهامات المسلمين في الحضارة الإنسانية ولم تكن في مجال واحد، لقد ساهمت الحضارة الإسلامية في كل مجالات العلوم، سواء في مجال العقيدة والأخلاق والقيم، أو في مجالات الحقوق والقضاء، أو في مجالات العلوم الدينية والتجريبية. لقد قدم الإسلام بحضارته الراقية نموذجاً رائعاً بين حضارات الأمم، حيث كانت حضارته جامعة بين العلوم الدينية والعلوم الدنيوية، جامعة بين العلوم الشرعية والعلوم التطبيقية، جامعة بين بناء الإنسان وتشييد العمران، جامعة بين متطلبات البدن وأشواق الروح.
هدى الله ماكرون، ومن على شاكلة ماكرون ورد الله المسلمين إلى دينهم رداً جميلاً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.