من المضحك أن يردد البعض أن فرنسا بلد الحريات، لسبب بسيط جداً هو اندلاع الثورة الفرنسية التي وضعت مسودة حقوق الإنسان، كأن فرنسا هي أول بلد في تاريخ البشرية يقدم هذه الخدمة الجليلة للإنسان، مع أننا إذا عدنا قليلاً إلى الوراء نجد أن بريطانيا قد ذهبت بعيداً في إقرار حقوق الإنسان.
ثم حتى أن الثورة الفرنسية لم تكن بتلك الإثارة التي يحاول ماكرون وغير ماكرون الحديث عنها، ولا كانت مصدراً لحق الإنسان، بل إن الثورة لم تتسبب إلا في مزيد من المآسي والأزمات. لقد بدأت حملة الاستبداد المقدس مباشرة بعد نجاح الثورة، فمكسيمليان روبسبير آمن باستبداد الثورة أو استبداد الحرية، هذا الاستبداد الذي صاغه بمعية صديقه سانت-أوجست الذي يؤكد أن "ما من شيء يشابه الفضيلة شبهاً كبيراً كالجريمة الكبرى".
لم تمضِ سنوات إلا وأكلت الثورة أبناءها، فإن كان كثيرون يربطون نجاح الثورة بقائدها روبسبير، فإن هذا الأخير وجد عنقه تحت المقصلة التي وضع عليها آلاف الفرنسيين، هو وصديقه أوجست وغيرهما لقوا حتفهم تحت عجلة الثورة التي يتوقع الجميع أنها مرحلة ما بعد الاستبداد، ليكتشفوا في النهاية أن نهاية الثورة بمفهومها الفرنسي (الحرية لا التحرر) الاستبداد، وقد تعزز هذا الاستبداد بانقلاب نابليون بونابرت 1798، أي بعد مُضي عشر سنوات على نجاح أعظم ثورات الجنس البشري، كما يحلو للبعض تسميتها.
مجلة من القاع
لم تكن هذه المجلة سوى إحدى مجلات الدرجة الأخيرة، تلك المجلات التي لا تعرف لماذا تسمى مجلة، فلم تكن تحقق من المبيعات سوى ما يدفع أجر موظفيها، ولكن هذا كله سيتغير في لحظات.
قررت المجلة أن تضع سورة مسيئة لنبي الرحمة صلى الله عليه وسلم، وحدث ما كانت تسعى إليه، تعالت التنديدات ونُظمت المظاهرات وكتبت المقالات، وخرج بين القوم قوم لا نعرف عنهم إلا أنهم هاجموا مقر المجلة وأطلقوا العنان لرصاصاتهم فوقع ما وقع. وهكذا أضحت المجلة بين ليلة وضحاها حديث العالم؛ وفي وقت وجيز تجاوزت مبيعاتها مليون نسخة؛ وفي الوقت الذي لم يكن باستطاعتها توزيع نسخها في مدينة واحدة باتت النسخ مطلباً إقليمياً ودولياً؛ فالكل في لهفة وشوق لقراءة أعداد هذه المجلة العظيمة التي تجرأت وأعلت من حرية التعبير ونشرت رسومات مسيئة لنبي الإسلام الذي يحترمه مليارا آدمي وملايين المواطنين الفرنسيين، ولكن حرية التعبير فوق كل اعتبار، لا تعترف بالمقدسات والمحرمات، ولا تجد نفسها إلا وهي تقتحم الحصون كل الحصون، إلا بعضها طبعاً ممن إذا حاولت اختراقها اخترقتك، وإذا فكرت في ممارسة حرية تعبيرك ضد مقدساتها جعلت عائلتك تقدس ذكراك إلى أبد الأبدين.
حرية ما بعدها حرية
قبل سنوات، وبالضبط عام 2016، أجبرت شرطة نيس امرأة مسلمة على خلع لباس السباحة الخاص بها والمعروف بـ"البوركيني"، أمام أنظار المصطافين الذين لم يحركوا ساكناً وفضلوا الاستمتاع بمنظر انتهاك سافر لحقوق الإنسان، منظر تقشعر له الأبدان ويندى له الجبين، صورة لعناصر شرطة تقف بكل عجرفة أمام السيدة وهي تخلع لباسها، ولسان حالهم يقول: "فرنسا بلد الحريات".
فهل نصدق بعد هذا وغيره من الممارسات أن فرنسا بلد الحرية؟ طبعاً لا؛ لن نفعل ولا ماكرون نفسه يفعل، فهو ابن البلد يعرف جيداً أن الشعارات تبقى حبيسة الأوراق، وأن فرنسا لم تتغير ومازالت فرنسا الاستبداد اللائكي (نموذج من العَلمانية، الصلب غير المتعايش مع الدين)، وهو يعي أن إرث الأنوار يقضي بمحاربة كل أشكال التدين تحت شعار (اشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قِس)، وإذا ما تعلقت بالإسلام ففرنسا يجن جنونها، فالإسلام العدو الأول للائكية كونه ديناً لا يتنازل ولا يخفض الجناح عكس باقي الديانات التي وجدت نفسها بحكم التاريخ ضحية لتعاليم الإنسان.
قبل أسابيع كانت فتاة محجبة تمثل الطلبة تلقي كلمة، فإذا بالنواب ينسحبون نظراً لأن وجود الحجاب داخل البرلمان -حسب قولهم- يهدد اللائكية الفرنسية، الأمر طبعاً لم تتقبله الفتاة ولا تقبلته الجالية الإسلامية كونه بشكل غير مباشر يعني عدم قبول وجودها في فرنسا، مع أنها شريك أساسي في بناء فرنسا.
هل أصيب ماكرون ببعد النظر؟
اليوم يخرج علينا ماكرون بتصريح غريب، يقول: "الإسلام ديانة تمر بأزمة…".
مع أنك قد تعجب من أن الرجل الذي يتحدث هو رئيس بلد يمر بأزمة اقتصادية خانقة لم يعرفها التاريخ، ناهيك عن أزمة اجتماعية تتمثل في ارتفاع معدلات البطالة والشيخوخة، وكذا معدل الانتحار، فقد حاول 7.2٪ من الفرنسيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و75 عاماً إنهاء حياتهم. وينتحر ما يقرب من 18 رجلاً لكل 100.000 نسمة سنوياً، في حين أن هذا المعدل هو 6.5 للنساء -أقل بثلاث مرات تقريباً- وفقاً لأحدث البيانات المتاحة من منظمة الصحة.
يعلق أحد الفرنسيين على الخبر قائلاً:
" أمر سيئ، نحن ننتحر أكثر من البلدان الفقيرة والمجتمعات المتخلفة…"
في الحقيقة الانتحار أو الأزمة الاقتصادية مجرد أمور ثانوية، فالمجتمع الفرنسي والمجتمعات الغربية تعيش أزمة وجودية تتجاوز ما هو مادي ملموس قابل للقياس، وهذه الأزمة بدأت منذ القديم منذ القرن التاسع عشر، وقد تنبأ لها نيتشه، وحذر منها البريطاني توينبي، والألماني شبنجلر فيما بعد.
عن نيتشه يقول هابرماس: "كان نيتشه واحداً من الفلاسفة الألمان الذين فكّروا في الحداثة بشكل جذري وريبي، فالحداثة بالنسبة إليه أنبتت ثقة مطلقة في العقل، لكنّها أفرزت للإنسان العديد من الآلام والمآسي رغم التزامها بتحقيق سعادته ورفاهيّته. لذلك سعى نيتشه إلى تحطيم وتعرية المفاهيم التي جاءت بها الحداثة وبشّرت بها، على غرار مفهوم التطوّر، الإنسانيّة، الهويّة الثقافيّة، الهويّة الألمانية أو الأوروبية".
أما المؤرخ الألماني "شبنجلر"، فهو يربط بين دنوّ نهاية الغرب أو حضارة الغرب، وبين ما يشهده العالم من انتشار للإرهاب والفقر والأمراض الفتاكة. وهذا الرأي يشاطره فيه كثيرون ويعارضه آخرون، وعلى رأسهم المؤرخ "توينبي"، الذي يرى أن رأي الألماني صحيح في كون الحضارة الغربية تعاني اليوم، بل وتحتضر، ولكنها قادرة على أن تنهض وتقف على قدميها من جديد، لكن بشرط مهم، هو بروز فئة مفكرين تجمع بين "العلم والدين".
لهذا كله ولغيره مما لا يمكن ذكره، نتسأل هل أصيب ماكرون ببعد النظر؟
ها هي ذي فرنسا تعاني الأمرين وأوروبا ترزح تحت وطأة التفكك، وماكرون لا يرى سوى الإسلام.
هل الإسلام يعيش أزمة؟
يقول نيتشه: "أن تكون مسلماً يعني أن تكون رجلاً". (انظر: عدو المسيح، نيتشه)
ليس من المصادفة أن يمدح الفيلسوف الألماني نيتشه الدين الإسلامي، فكلنا يعلم أن الألمان أكثر من تعلق من الغربيين بالفكر الإسلامي درساً واطلاعاً، وأمامنا قولة نيتشه، وقبله كلام كانط عن العرب، وكذا أشعار غوته عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
حينما نقارن الأديان من وجهة نظر نيتشه نجده يمدح الدين الإغريقي، والإسلامي، ويحتقر اليهودية والمسيحية، ففي نظره الإغريقي يدعو لحب الدنيا والتمتع بها، والإسلامي يدعو للكرامة والعزة، وكلها أمور تفتقدها العقيدة اليهودية-المسيحية.
وبعيداً عن مقارنة الأديان، وكما سنوضح فيما بعد، وجود الدين أمر مُلح وضروري أكان اختراعاً بشرياً أم شيئاً آخر؛ فما بالك بوجود دين كالدين الإسلامي، دين الحضارة والعلم والتقدم، دين نقل العرب من أمة لا تقرأ إلى أمة "اقرأ"؟! وفي هذا يقول فولتير في كتابه القاموس الفلسفي، مقالة الكتب ما نصه: "وحدهم العرب كانوا يمتلكون الكتب في القرن الثامن الميلادي".
وليومنا هذا مازال هذا الدين يصنع العجائب ويحير الدارسين ويشي بالمستقبل لا بالماضي، في مقال منشور على الغارديان بعنوان "الإسلام سيكون الديانة الأولى في العالم بحلول سنة 2060".
ناهيك عن الحشود التي تدخل في هذا الدين يومياً وفي كل ساعة، أفيمكن أن نتحدث عن أزمة يعيشها الدين الإسلامي؟
ربما ماكرون يتحدث عن انقسام المسلمين إلى جماعات متناحرة، فنقول هذا صنع السياسيين، وعلى رأسهم الرئاسة الفرنسية والأمريكية، فمن الذي يدعم حفتر؟ مَن المسؤول عن الصراع القائم في سوريا واليمن؟ مَن حوَّل العراق إلى بِركة من الدم وقتل الملايين؟
في اليمن كان الشيعي ينعم بالأمن مع السني، وكذلك في العراق؛ وفي عمان الإباضية بمنهجها الخاص تعيش بسلام تام، في السعودية يلتقي في الحج كل مسلمي العالم بفرق المختلفة، هل سمعت عن مواجهة بينهم؟
ليس الصراع سوى مسألة سياسية منذ ظهور الخوارج أول مرة وإلى الصراع الشيعي-السني في العراق بعد الاحتلال الأمريكي.
أزمة العلمانية.. لابدَّ من عودة الدين
ينطلق ماكرون من قواعد عَلمانية ويتكئ البرلمانيون الفرنسيون الذين انسحبوا بعد حضور الطالبة المسلمة على ترسانة تاريخية وضعت أولى لبناتها في قرن فولتر -قرن الإلحاد كما يسميه ويل ديورانت- ولكن كلهما يتجاهل حقيقة ما يدور في ساحة الفكر، وأقصد دعاوى تجاوز العلمانية أو ما يسمى "ما بعد العلمانية" يتزعمه الفيلسوف الألماني هابرماس، سليل مدرسة فرانكفورت.
وهابرماس -كما هو معروف لدى الجميع- كان من المدافعين الشرسين عن العلمانية، وكان واحداً ممن قالوا بأفول نجم الدين في زمن العلم (ماركس ونيتشه وغيرهما)، ولكنه اليوم يرى أن القول باختفاء الدين من الحياة العامة يقف على أرجل من قصب.
وبإرادة الفيلسوف الباحث عن الحقيقة بدأ هابرماس تصحيح نظرته حول الدين وحول دور الدين في المجتمع، وهكذا تصالح الاثنان فنجد أن هابرماس في سنة 2001 يلقي محاضرة بعنوان "الدين والمعرفة"، وبعدها بسنة واحدة يكتب كتاباً بعنوان "الدين والعقلانية"، في 2005 شارك في مؤتمر دولي حول "الفلسفة والدين"… إلخ.
لم يتراجع هابرماس عن كونه شخصاً علمانياً، ولكنه بات الآن يعي دور الدين وجمالية الدين ويصعب عليه التحدث تحييده كما كان يحلو له سابقاً.
في نفس الصدد يقول الدكتور التونسي فتحي المسكيني وهو أحد المنادين بالعلمانية عن دور الدين فيقول: "إنّ الحداثة الأخلاقية قد علمنت القيم، لكنّها قامت بذلك على حساب الفضائل. وإنّ تأسيس قيم من دون فضائل هو إخفاق فلسفي لعصر إنسانوي وفردانيّ يزعم أنّه أرسى العقلانية العلمانية بوصفها منقذاً أخلاقياً من عصور مسحورة. فإذا بالعالم المنزوع السحر -أي الذي صار نصاً معلمناً من دون أيّ حاجة إلى إنقاذ- قد أخذ يعبّر أكثر فأكثر عن حاجة روحية جعلت عودة الديني ليس فقط ممكناً، بل مطلباً مثيراً لأجيال ما بعد الحداثة".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.