خلال قراءة التقارير والتحليلات السياسية لما يجري من أحداث حولنا في هذا العالم، يبدو لنا أن الأدوات المألوفة والتقليدية في تحليل الأحداث السياسية قد استنفدت قدرتها على فهم وتقييم الصراعات المتنقلة بين الدول بشكل مقنع أو صحيح، لذلك لا بد من الاستعانة بمفاهيم جديدة لمقاربة تلك الأحداث، وأول هذه المفاهيم المعبرة هو مفهوم "العلمانية الصليبية"، التي تنظر إلى الشعوب القديمة، أي الشعوب التي حافظت على هويتها وإرثها الثقافي لآلاف السنين، كأنها شعوب تعيش في متحف ما، لذلك تتعامل معها تلك "العلمانية الصليبية" كما يتعامل عالم الآثار مع المتحجرات والمومياوات، ونقصد برواد العلمانية الصليبية تلك الدول التي نالت قصب السبق في التقدم العلمي والتكنولوجي، ولا فروقات كبيرة بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية أو أوروبا الغربية في ذلك. وأقرب مثال على ما نقول هو ما يجري من حرب حالية بين الأرمن والأذريين. هذه التوترات المنذرة بحربٍ تقتربُ تمتلك عنوانا رئيسياً وهو "حرب الثأر"، وأي حديث عن حصر الصراع الجاري في خارطة مصالح وتغيّرات جيوسياسية محتملة، لا يعدو إلا أن يكون عجزاً عن وضع الإطار التاريخي والثقافي في المعادلة، وما هي إلا كلمات من قاموس سياسي عتيق. وحقيقة الأمر أن الأذريين يريدون استعادة الأرض والثأر لهزيمتهم المدوية التي منوا بها قبل 30 عاماً، أي يريدون استعادة كرامة مهدورة، بينما يصر الأرمن على حق تقرير مصير أرمن ناغورني قره باغ، ويماطلون في الانسحاب من الأراضي الأذربيجانية المحتلة خارج إقليم ناغورني قره باغ، قبل الحصول على ضمانات هم أنفسهم لم يعرفوها بعد. إن موقف أرمينيا من أرمن ناغورني قره باغ هو موقف سلبي، حيث إن جمهورية أرمينيا لم تعترف باستقلال الإقليم المعلن من سكان ناغورني قره باغ، ولم ترض بضم الإقليم إلى أرمينيا حتى الآن، لتكون الأحجية الأولى هي لماذا إذن تورط نفسها من جديد بحرب ضروس، أما الأحجية الثانية فهي في حال افترضنا أن أذربيجان بعد هذه الحرب حررت ناغورني قره باغ سيكون السؤال ممن؟
أغلبية سكان ناغورني قره باغ هم من الأرمن، فإذا لم تحدث أعمال انتقامية وتهجير وتبديل ديموغرافي فستتكبد خزينة أذربيجان أعباء مالية إضافية بعد الحرب وفرض سيادتها على الإقليم، من أجل تنمية وتطوير ناغورني قره باغ، فالمستفيد الوحيد من ذلك سيكون هم أرمن ناغورني قره باغ، أي أن استعادة قره باغ سيضع ضغطاً إضافياً على اقتصاد أذربيجان، وبذلك يتحول الانتصار إلى هزيمة من الناحية المادية.
والسؤال الأساسي الآن: هو هل أرض ناغورني قره باغ أرض أذرية أم هي أرض أرمينية؟
الحقيقة التاريخية تقول إن أرض هذا الإقليم هي أذرية أحياناً وأرمينية أحياناً أخرى، وهذا ليس نتيجة لنزاع أرميني-أذري بل وفقاً للمزاج السائد في روسيا. في زمن الحكم القيصري وخلال الحرب الروسية-الإيرانية، والحرب الروسية-العثمانية تم تجميع الأرمن في المناطق المتاخمة للحدود مع إيران وتركيا، ومن ضمنها إقليم ناغورني قره باغ. وعندما كان ستالين مسؤولاً عن ملف القوميات والأقليات أمر بضم هذا الإقليم ذي الأكثرية الأرمينية إلى سيادة أذربيجان، مع منحه حكماً ذاتياً لفرض التآخي بين شعوب الدول الاشتراكية، ولم يراعِ هذا القرار آنذاك حتى رغبة حكام أذربيجان أنفسهم الذين كانوا قد تنازلوا طوعاً عن هذا الإقليم لصالح أرمينيا، وهذا التنازل موثق، لكن إرادة ستالين كانت هي الأقوى، وبعد الحرب العالمية الثانية تبدلت سياسة ستالين في الضم والفرز والترحيل، حيث أصبحت تهندس تلك السياسات هذه كتدابير انتقامية، وليست بهدف تآخي الشعوب.
ويعتبر الروس القوقاز منذ زمن الحكم القيصري، مروراً بالعهد الاشتراكي، بلوغاً حتى القيصر الجديد بوتين الخاصرة الرخوة لروسيا، لذلك تحاول موسكو دائماً أن تحتكر إدارة هذا الملف، وأن تبقى بمثابة ضابط الإيقاع الوحيد لما يجري هناك. أما الحديث عن رغبة الرئيس أردوغان إحياء الإمبراطورية العثمانية عبر دعمه أذربيجان فيفتقد إلى الموضوعية، لأن تركيا في سنة 2007 كانت تُجري مباحثات مع أرمينيا لتطبيع العلاقات معها. وأحرزت تلك المباحثات تقدماً كبيراً، وحينها اشترطت تركيا على أرمينيا الانسحاب من الأراضي الأذرية، لوضع الرتوش الأخيرة على عملية التطبيع لكن أرمينيا تهرّبت من فعل ذلك، وتهربت من التعهد بحماية المصالح التركية في ملف الطاقة.
وهناك من يقول إن إيران تدعم أرمينيا لتكون حاجزاً منيعاً أمام التوسع التركي، وهذا أيضاً مخالف للواقع، لأن العلاقات الإيرانية-التركية مستقرة حالياً، حتى إن إيران من الممكن أن ترحب بزيادة النفوذ التركي وإن لم تعلن عن ذلك صراحة، لسبب بسيط، هو أن زيادة النفوذ التركي في أذربيجان من المحتمل أن يضعف العلاقة القائمة بين قيادة أذربيجان وإسرائيل، التي صدرت إلى الأولى أسلحة بقيمة 5 مليارات دولار في السنوات القليلة الماضية.
لكن يرجع سبب العلاقة الجيدة بين إيران وأرمينيا إلى تبادل المصالح الاقتصادية في وقت الحصار الأمريكي على طهران. لكن الحقيقة هي أن العديد من مشاكل إيران سببها روسيا، التي تستحوذ على ثروات بحر قزوين والمنطقة المحيطة به، بعدما تنصلت روسيا الاتحادية من الاتفاقيات التي وقعت بين إيران والاتحاد السوفييتي. وتسعى روسيا بقيادة بوتين جاهدة إلى فرض مبادئ وقواعد جديدة تخفض من حصة إيران من تلك الثروات.
من هنا نستنتج أن معظم الأطراف المشاركة في هذا الصراع لا تمتلك أوراقاً قوية تحسم بها المسألة، بل سيبقى تدخلها حذراً للخطوط الحمراء الروسية، خاصة أن الولايات المتحدة تتصرف وكأن شيئاً لا يحدث في ناغورني قره باغ.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.