تحلّ علينا اليوم ذكرى حرب أكتوبر/تشرين الأول العظيمة، وتضحياتها الجليلة لتحرير سيناء من قبضة العدو الصهيوني، وتحتفل الدولة في مصر رسمياً بالحرب، غير أن الاحتفال بها لم يكن أبداً على مستوى الحدث. فكل من لم يحضر حرباً ويعاين أحداثها لا يعرفها ولا يعرف تضحياتها إلا من خلال طرق الاحتفال والاحتفاء بها، وفي هذه المقالة القصيرة نعرض الكيفية التي تم الاحتفال بها بحرب أكتوبر العظيمة على مدى 47 عاماً، ونوضح أننا قصّرنا في الاحتفاء بهذه الحرب، حتى كادت تختفي من أذهان جيل بأكمله من الشباب، فما بالنا بأجيال المستقبل؟
الاحتفاء بحرب ما يعني في المقام الأول الاحتفاء بمن قامت الحرب على أكتافهم. وفي هذه الحال نسأل: كيف احتفت الدولة والمجتمع المدني بأبطال حرب أكتوبر العظام؟ صحيح أن الدولة احتفت بهم لبعض الوقت بعد الحرب مباشرة، ومنحت بعضهم وظائف في القطاع الحكومي، ممن لم تكن لديهم وظائف، ومنحت بعضهم أراضي زراعية، وبعضهم معاشاً شهرياً هزيلاً لم يقوَ على مواجهة التضخم الذي لا يتوقف في المحروسة، إلا أن كثيراً من هؤلاء الأبطال عاشوا شظف العيش، فلم يجدوا من يعالجهم أو يتذكرهم. ونرى هنا أن الدولة والمجتمع المدني قد قَصَّرا كثيراً في رعاية هؤلاء الأبطال الذين بقوا على قيد الحياة، أو رعاية أسر الشهداء.
وهنا، لا مناص من مقارنة رعاية أبطال حرب أكتوبر أو أسرهم بما يحدث في دول أخرى، حيث تقوم جمعيات مدنية بجمع تبرعات لا تتوقف على مدار العام، ولا تختص بموسم دون غيره، وتُخصّص عوائدها لرعاية من شاركوا في الحروب، من خلال علاجهم إن مرضوا، وإعطائهم معاشاً شهرياً يضمن لهم كرامتهم إن احتاجوا، والأهم من ذلك تسجيل الوقائع والأهوال التي عاينوها يوماً بيوم؛ حفظاً لماضٍ مجيد تفخر به الأجيال القادمة، وتوثيقاً لحقائق قد تغيب في كتب التاريخ، التي قد تتشكل بألوان النظم السياسية فتغيب معها الحقيقة.
تلعب هذه الجمعيات دوراً بارزاً، فتحفظ ذاكرة الأمة وتاريخها، وتقف حجر عثرة أمام من يريد طمس دور من شارك في حرب من الحروب، ما يُعطي صورةً لحقيقة الحرب، ويحفظ حقَّ مَن شارك فيها.
صحيح أن شهادات بعض من حاربوا في حرب أكتوبر العظيمة قد سُجلت، وخاصة من قادة الجيش، ولكن الأهم في رأيي هو شهادات الجنود الذين حاربوا ورأوا من الأهوال في ميدان الحرب ما لم يره القادة من مواقع القيادة. شهادات القادة غالباً ما تركز على الظروف والملابسات السياسية، في حين تركز شهادات الجنود على ما رأوا على أرض الواقع وعاينوا من خبرات مؤلمة، ليس أولها ولا آخرها الجوع أو العطش أو الهلع من فقد طرف من أجسامهم، أو الرعب من فقد أرواحهم، أو الحزن على زملائهم الشهداء، أو الحنين لأسرهم، أو الحزن على عدم تمكنهم من حضور عزاء والد أو والدة أو زواج من يحبون من غيرهم، لفقدهم الأمل في عودتهم، إلخ… كل هذه القصص الإنسانية المليئة بعذابات من حضروا الحرب وشجونها هي ما افتقدنا سماعه أو قراءته حتى الآن، ولم تُعط له مساحة عادلة في وسائل الإعلام المسموعة أو المرئية أو حتى المقروءة.
وماذا عن الفن؟ هل احتفى بحرب أكتوبر حقَّ الاحتفاء؟ بمراجعة أغلب، إن لم تكن كل الأعمال الفنية (وأغلبها أفلام)، التي تركزت على حرب أكتوبر نفسها، يتبين أن جميعها لا تُفرد مساحة كبيرة لأحداث الحرب التي تختصرها في مشهد أو مشهدين بإمكانات فنية متواضعة وميزانية متواضعة، كذلك فلا تثير في المشاهد قشعريرة الشعور بمعاناة الجنود قبل الحرب، ولا أحزانهم بسبب تأخر العبور، ولا معاناتهم في عبور خط بارليف، ولا تضحيتهم بأنفسهم حيث وجبت التضحية، مثل جهود رجال الكتيبة 23 صاعقة في سد أنابيب النابلم لأنها كانت كفيلة بحرق كل القوارب المطاطية وإجهاض عبور القناة برمته. ومن الملاحظ أن أحداث هذه الأفلام تدور حبكتها في أجزاء كبيرة منها حول قصص حب بين شاب أو فتاة، أو رغبة في انتقام، وهو ما يُشعِر المشاهدَ بأن حرب أكتوبر مهمشة في هذه الأفلام. قد يقول البعض إن فيلم "العبور" الأخير يجسد الحرب بصدق، وهذا صحيح، إلا أننا نتوقع أعمالاً فنية أضخم وأصدق وأعمق وأفضل إخراجاً بميزانية ضخمة تناسب هذا الحدث الفريد.
دأبت الدولة على منح العمال والموظفين والطلاب عطلةً رسمية يوم السادس من أكتوبر كل عام، تذكيراً بالحرب العظيمة، ولا أدري لماذا لا يُستغَل هذا اليوم في المدارس والجامعات وجميع المؤسسات الحكومية، في عرض تاريخ الحرب وأسبابها ونتائجها بأسلوب مشوق، باستضافة قدامى الجنود إن كان منهم أحياء يُرزقون ليبسطوا شهاداتهم ويرووا لمن لم يعاين الحرب بعضاً من أحداثها العظيمة، أو باستضافة ذوي الشهداء ليرووا عن كيفية استشهاد ذويهم أو جزءاً من معاناتهم في حرب أكتوبر أو ما سبقها في حرب الاستنزاف؟ أليس هذا أفضل من نوم كل من يُمنَح هذه العطلة دون أن يعلم شيئاً عن الحرب ولا أبطالها؟ ولماذا لا تُطبع كتب مصورة مشوقة للأطفال في مرحلتي التعليم الابتدائي والإعدادي على الأقل، لتعطيهم فكرة مبسطة عن الحرب وأحداثها، ولتربطهم وجدانياً بحدث لم يشاهدوه هم ولا أباؤهم، ومن غير الوارد ولا المتوقع أن ينشغل به أباؤهم في ظل ظروف الحياة المتسارعة الآن؟
أغلب أبطال أكتوبر في ذمة الله الآن، والقليل منهم على قيد الحياة، وأقل القليل منهم ما زال بقوة عقلية تمكنه من تذكر أحداث الحرب ومعاناتها وأحزانها وأفراحها، فهل نسرع بتكريم هؤلاء وتسجيل شهاداتهم على قصة عظيمة لم يعشها إلا هم، ولم يدر في حبكتها الواقعية سواهم؟ أتمنى على وزارة الثقافة أن تهتم بالفكرة، وتنشئ أرشيفاً يوثق هذه الشهادات، أو تنشر هذه الشهادات بوسائل متنوعة، إن كانت هناك مشروعات توثيقية لا نعلم عنها شيئاً.
رحم الله شهداء حرب أكتوبر، وجازى الله خير الجزاء من شارك في الحرب وتحرير الأرض.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.