بالتوازي مع سلسلة لقاءات متكررة بين ممثلين عن الشرق الليبي وممثلين عن المجلس الأعلى للدولة وبعض مستشاري حكومة الوفاق في الأردن والمغرب وجنيف، أثارت سلسلة من اللقاءات بين ممثلين عن الفرقاء الليبيين على الأراضي المصرية خلال الشهر الماضي تساؤلات حول ما إذا كان هناك تغيّر في السياسة الخارجية المصرية تجاه الأزمة الليبية الممتدة منذ قرابة عشر سنوات، وما التأثيرات المحتملة لهذا التغيّر على الأوضاع في ليبيا؟
ما التغيرات في الموقف المصري؟
حتى أغسطس/آب 2020، بدت القاهرة كجزء من تحالف دولي وإقليمي داعم للحل العسكري لصالح عملية الكرامة بقيادة خليفة حفتر وبقايا مجلس النواب، الذي انتقل أعضاء منه لمدينة طبرق الليبية بالمخالفة للأعراف الدستورية، التي تقول إن العاصمة هي مقر البرلمان، وبدت القاهرة شديدة الحماس للحل العسكري، عندما أعلنت خطوطاً حمراء تمثّلت في عدم تقدم قوات حكومة الوفاق الوطني المدعومة تركيّاً وقَطريّاً لما بعد مدينتي سرت والجفرة، كما هدّدت القاهرة بتسليح القبائل الليبية.
ووفقاً لخبراء بالشأن الليبي، فإنه ومنذ مطلع سبتمبر/أيلول تكثفت خطوات مصر نحو المساهمة في حل سياسي بليبيا، بالتعاون مع كل الوسطاء الدوليين، حيث تكثفت الزيارات والاتصالات بكل من مالطا والمغرب واليونان، والممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة بشأن ليبيا، للمساهمة في ترتيبات وقف إطلاق النار، كذلك فإن البيان الختامي لاجتماع القاهرة، في 13 سبتمبر/أيلول، جاء أكثر توازناً من الإعلان الذي أطلقته القاهرة لوقف إطلاق النار، في 6 يونيو/حزيران، والذي لم تكن الاستجابات الإقليمية والدولية له على قدر المتوقع، بل أسهم في ترسيخ الصورة المنحازة للنظام المصري، إذ كان بحضور حفتر وعقيلة صالح بمفردهما، وتلاه تصعيدات خطابية وتحركات عسكرية في المنطقة الغربية، تزايدت فيها وتيرة التهديد بتدخل عسكري مباشر لحماية الخطوط الحمراء التي حدّدتها القيادة المصرية، ثم لقاءات مع بعض الرموز القبلية الليبية، فيما أُعلن أنه تفويض لمصر بالتدخل العسكري.
ورغم أنه لا يمكن القول إن الموقف المصري كان سبباً مباشراً في وقف إطلاق النار الذي أُعلن عنه بشكل مفاجئ من الجانبين، في 20 أغسطس/آب الماضي، فإن هذا الإعلان قوبل بترحاب مصري ضمن ترحيبات دولية كثيرة، كما أنه كفى مصر مهمة التصعيد، وفتح أبواباً للحوار بين مكونات من الشرق، ممثلة في فريق عقيلة صالح وبرلمان طبرق، وكذلك أعفى تحركات المجلس الأعلى للدولة بقيادة المشري وشركائه في حكومة الوفاق من حرج التعامل المباشر مع مصر، التي ساهمت التصريحات التصعيدية المتبادلة في توتير الموقف معها.
منذ ذلك التاريخ بدأت تعهدات أممية ودولية لمصر برعاية بعض جولات الحوار، عبر اجتماعات اللجنة العسكرية الليبية المشتركة (5+5)، أو اجتماعات الساسة لمحاولة إيجاد صيغ عملية لضمان استمرار وقف إطلاق النار، والتمهيد للتنسيق الأمني لإدارة المنطقة الوسطى، وعملية استئناف إنتاج وتصدير النفط المتوقف، منذ يناير/كانون الثاني الماضي، وفي هذا السياق أتت اجتماعات القاهرة ما بين 10-13 سبتمبر/أيلول، والتي اعتبرتها تحليلات مصرية بداية لانفراجة حقيقية للأزمة الليبية. ثم كان تنظيم بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا لاجتماعات ضمن صيغة محادثات اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) في مدينة الغردقة المصرية، يومي 28-29 سبتمبر/أيلول، تلك الاجتماعات ضمّت وفوداً أمنية وعسكرية من شرق ليبيا وغربها، ونجم عنها بعض التوصيات باتخاذ التدابير العاجلة لتبادل المحتجزين بسبب العمليات العسكرية، والإسراع في عقد اجتماعات اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) المنبثقة عن اجتماع برلين في يناير/كانون الثاني الماضي، وإيقاف حملات التصعيد الإعلامي وخطاب الكراهية، والإسراع في فتح خطوط المواصلات الجوية والبرية بما يضمن حرية التنقل للمواطنين بين كافة المدن الليبية، وأهمية إحالة موضوع مهام ومسؤوليات حرس المنشآت النفطية إلى اللجنة العسكرية المشتركة.
وتبدو أهم ملامح هذا التغيير في محاولة الاقتراب من دور الوسيط المقبول لمعظم الأطراف، والذي كان يفترض أن يتم تأسيس الموقف المصري عليه منذ البداية، صحيح أنه لا تزال هناك اعتراضات من قِبل الأطراف العسكرية في الغرب الليبي على هذا الوضع، لكن المؤسسات المعترف بها دولياً، والناجمة عن حكومة الوفاق تبدو اليوم أكثر تقبّلاً لهذا الدور عن ذي قبل.
محاولات التواصل المصري التركي في الميزان
رغم التصعيد الإعلامي المصري ضد تركيا فإن الرئاسة التركية أعلنت في أكثر من مناسبة، وعلى أكثر من مستوى للسياسة الخارجية التركية، أن هناك تواصلاً بين أجهزة الاستخبارات في البلدين، للتشاور حول ليبيا وموضوع غاز شرق المتوسط، حيث تشير رسائل استخباراتية متبادلة أن أردوغان أرسل رسالة إلى مصر أواخر سبتمبر/أيلول، مفادها أن الخلافات المعروفة مع السيسي لا تحتّم على مصر تبنّي مثل هذا الموقف، الذي من شأنه أن يضرّ بحقوق المصريين في البحر المتوسط، مشيراً إلى أنهم غير مُجبرين على ذلك، وقد وصلت هذه الرسالة من خلال قنوات تواصل استخباراتية لم تنقطع يوماً.
كما تشير تصريحات ياسين أقطاي، مستشار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى وجود تقارب بين القاهرة وأنقرة فيما يخص الملف الليبي مؤخراً، وأن الخطوات التركية في ليبيا ليست موجَّهة ضدَّ مصر، وأنه لا بد أن يكون هناك تواصل بالفعل بغض النظر عن أي خلافات سياسية بين أردوغان والسيسي، فالحكومتان والشعبان يجب أن يتقاربا. متابعاً: "موقفنا وتواجدنا في ليبيا ليس إلا لإقامة الإصلاح والسلام، وترك ليبيا لليبيين، وهذا ليس احتلالاً بأي صورة من الصور، ونأمل أن تتبنى مصر هذا النهج".
وكذلك تشير تصريحات مساعد وزير الخارجية التركي ياووز سليم قيران، أن بلاده مستعدة لعقد لقاءات مع مصر من أجل التوصل إلى اتفاقية حول المنطقة الاقتصادية في البحر المتوسط، لكن الخارجية المصرية تنفي هذا التقارب، وتطلق تعليقات سلبية، ولا تبدو مرحّبة به، إذ مع كل رسالة من تركيا تثير قضايا خلافية أكبر من ملفي غاز شرق المتوسط والوضع في ليبيا، إلا أن تعدد مستويات صنع وتنفيذ السياسة الخارجية المصرية باشتراك كل من المخابرات الحربية والعامة في هذا الملف قد يحمل موقفاً أقل حدة تجاه تركيا، وأكثر ميلاً لتحقيق تهدئة في ليبيا وفي شرق المتوسط، مع الحفاظ على خطّ عام مناوئ لتركيا، دون تصعيد، كما هو الأمر على مستوى الرئاسة والخارجية. مع ذلك فإن الكثير من التحليلات تشير لبعض الأصوات المناوئة لاتفاق ترسيم الحدود البحرية مع اليونان من داخل النظام المصري، لما قد تنطوي عليه من التنازل عن مساحات بحرية مصرية لصالح اليونان، فقط للمكايدة مع تركيا، وهذه الأصوات تتوافق مع الموقف التركي القائل إن ترسيم الحدود البحرية معها لا مع اليونان هو من صالح الطرفين.
عقبات في طريق التقارب
يبدو الارتباط العضوي بين مصر والمحور الإماراتي السعودي المناوئ للمحور التركي القطري عائقاً أساسياً أمام أية محاولة للتقارب مع ليبيا أو تركيا، أو حتى تفكيك الملفات المتشابكة بغية التوصل لتفاهمات بشأن بعضها. وفي هذا الصدد تستمر مصر في الذهاب في محاور تشكل عليها ما يشبه الفيتو الخليجي السابق على أية محاولة لتطوير علاقتها مع إيران طيلة عهد مبارك وحتى الآن، وهو ما يثير حفيظة الجانب التركي، إلى حد إطلاق مزيد من التصريحات الاستفزازية، لكن لا تستطيع تركيا توفير بديل للنظام عن هذا التحالف، ولا يستطيع النظام المصري بسهولة إعادة تشكيل سياسته الخارجية بعيداً عن هذا المحور.
من ناحية أخرى، قد يجد التقارب التركي المصري بشأن ليبيا أو غاز شرق المتوسط عائقاً آخر، يتمثل في معالجة تواجد بعض رموز تيار وقنوات الإسلام السياسي والمعارضة المصرية، والذين يتخوفون من أن يصبحوا ضحية لهذا التقارب في ظل السياسة الخارجية التركية شديدة البراغماتية، والتأثر بالتحالف مع الأحزاب القومية التي توجّه يد الاتهام في القضايا الداخلية للأجانب، وتنصب العديد من نقاط معارضتها وقوى اليسار التركي على تساهل أردوغان وحزب العدالة والتنمية مع قضية اللجوء والهجرة العربية الواسعة، ومن ذلك تحميل هؤلاء الوافدين ارتفاع مؤشر البطالة بين الأتراك، لكن تقديرات دائرة الهجرة التركية تشير الى أن أعداد المصريين في تركيا محدودة جداً، ولا تتجاوز 25410 أشخاص، وهو رقم ضئيل بالنسبة للمصريين في أي من الدول الأوروبية.
في التحليل الأخير فإن المستفيد الأول من أية تسوية سياسية شاملة في ليبيا هي مصر، وبالتالي عليها الدفع بكافة السبل، والتواصل مع كافة الفاعلين لأجل هذه التسوية، حيث لا سوق يستوعب العمالة المصرية العائدة من الخليج سوى السوق الليبي، الذي لا يتطلب مهارات عالية، وحال استئنافها لعمليات تصدير النفط وبدئها في عمليات بناء أجهزة أمن ومؤسسات دولة موحدة واستقرارها، فإنها ستدخل فوراً في عملية إعادة إعمار لمئات الآلاف من المنازل والمنشآت التي دمرتها الحرب، ربما تستوعب عمالة أكثر مما استوعبته قبل الثورة الليبية.
وإذا كان توجه مصر نحو تبني الحل السلمي للأزمة يعد انفراجة بالنسبة لليبيين على طريق الحل الشامل بالتوازي مع مسارات جنيف والمغرب، لكن لا ينبغي المبالغة والإفراط في التفاؤل وتقدير الخطوات الأخيرة، فالأطراف الليبية التقت في أبوظبي وفي الأردن ومالطا وموسكو وبرلين وعواصم أوروبية كبيرة لعدة مرات، وتوصلت إلى مسودات اتفاق، دون أن يعني ذلك دوراً كبيراً لهذه العواصم في فرض التهدئة واستمرارها، فهي رهينة بتوافقات دولية وإقليمية أكبر من قدرات أي من أطرافها في الداخل والخارج.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.