كيف أجبر السادات الاتحاد السوفييتي على مدّ مصر بالأسلحة في حرب أكتوبر؟ القصة في كتاب هيكل

عدد القراءات
848
عربي بوست
تم النشر: 2020/10/06 الساعة 14:34 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/10/06 الساعة 14:34 بتوقيت غرينتش

تشكل حرب أكتوبر/تشرين الأول يوماً مفصلياً في تاريخ العرب، فقد ظهر فيها -للمرة الوحيدة ربما في تاريخهم الحديث- قدرتهم على أن يتصرفوا كأمة واحدة، وما جلبه ذلك لهم من نصر، كانت تلك هي الحرب الوحيدة التي استطاعت الجيوش العربية الرسمية أن تنتصر فيها على الجيش الإسرائيلي، إذ بعد حرب عام 1967 تضخّمت حكاية الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر، والذي يدرس حجم الهزيمة التي حاقت بالعرب في عام 1967 يستغرب أنها لم تؤدِّ إلى استسلام الشعوب بعد استسلام جيوشها، السيناريوهات العالمية الظاهرة كانت تتوقع أن يصبح الاستسلام العربي كاملاً، بحيث ينتهي إلى أحوال كأحوال اليابان وألمانيا، التي وقّعت شروط إذعان، منعت أن يكون لها جيوش منذ الحرب العالمية الثانية وما زالت، وثبتت مظاهر الاحتلال الأمريكي لها على شكل قواعد وأساطيل أمريكية، لا تزال تُذكّر هذه الدول باستسلامها وهزيمتها، الغريب أن الأمة العربية بعد النصر العظيم الذي حققته في مطلع حرب أكتوبر/تشرين الأول، سرعان ما فقدت إرادة التحدي لتعيش في هزيمة اختارتها لنفسها ولا تزال.

نستطيع أن نقرأ عن صعود الأمة العربية الباهر، ثم هبوطها العجيب بعد ذلك، في أحد كتب محمد حسنين هيكل، كتاب "أكتوبر 73، السلاح والسياسة" فرغم ما يحيط باسم الرجل من تحفظات، فإن كتبه تفرض نفسها، بما تحويه وما تستند إليه من وثائق، تشكل صور الوثائق حوالي سدس صفحات الكتاب التي يزيد على الـ800 صفحة.

وقد تم إنجاز هذا المؤلف بعد عشرين سنة من الحرب، ولذا فقد اعتمد على مذكرات السياسيين التي ظهرت عن الحرب، ومذكرات كيسنجر من أهمها، وكذلك مذكرات قادة عرب ممن صنعوا الأحداث، مثل الفريق عبدالغني الجمصي، قائد عمليات الجيش المصري، واللواء سعد الدين الشاذلي، رئيس أركان حرب الجيش المصري آنذاك، ومذكرات حافظ إسماعيل، مستشار السادات للأمن القومي، يضاف إلى ذلك ما صدر عن الدولة الصهيونية كتقرير لجنة أجرانات التي حققت في هزيمة الجيش الإسرائيلي، ويسع الباحث الجاد أن يعود إلى هذه الوثائق في أماكنها الأصلية.

انتهت حرب 1967 إلى حقيقة مهمة، وهي أن القوات المسلحة المصرية، وعلى فرض أنها كانت قادرة على حمل السلاح، فإنه لم يعد في يدها سلاح قادر على الحرب، ورغم أن معارك حرب الاستنزاف قد حققت انتصارات مهمة لصالح الجيش المصري فإن الحقيقة الماثلة للعيان هي أن الإمكانات المادية المطلوبة للحرب تحتاج سنوات أخرى لتصبح جاهزة.

بعد مرور عام على هزيمة 1967 بدا لمصر أن الاتحاد السوفييتي يتلكأ في تزويدها بالأسلحة، ما وصل من أسلحة حتى هذه اللحظة كان يكفي لإبقاء مصر في حالة دفاعية فقط، والظاهر أن تكاثر الحديث عن حل سلمي، واستبعاد أن يكون هناك حل عسكري يستعيد به العرب أراضيهم كان سبباً للتلكؤ السوفييتي، لكن حقائق التفاوض فرضت نفسها، تساءل المصريون إذا ما كان السوفييت يرون أفقاً لتفاوض يجري بين مصر وإسرائيل، في ظل وجود أراض مصرية تحتلها إسرائيل؟ كانت الحجة المصرية قوية، وافق عليها بريجنيف، واستدعت الارتفاع بمستوى تسليح الجيش المصري، وانعكس هذا على نوعية عمليات حرب الاستنزاف. ففي الأيام الأخيرة من شهر أبريل/نيسان 1969 كانت هناك جبهة تمتد 135 كيلومتراً، ممتدة من رأس العش شمالاً حتى خليج السويس جنوباً، تشتعل بالنار، ودخلت كتيبة مصرية كاملة تحت قيادة المرحوم إبراهيم الرفاعي، قائد عمليات الصاعقة، إلى ممر متلا في سيناء. تلك كانت العملية الثانية في عمق الجبهة الإسرائيلية إذا اعتبرنا أن العملية الأولى كانت إغراق المدمرة الإسرائيلية إيلات. 

استمر القتال على الجبهة حتى شهر يونيو/حزيران، وقد حاولت القوات الإسرائيلية أن تردّ بعملية مفاجئة، قصدت بها أن تحتل الجزيرة الخضراء على قناة السويس، لتثبت قدرتها على مواصلة احتلال أراض في مصر، لكنها اضطرت للتراجع حاملةً معها جثث 24 قتيلاً، و61 جريحاً، ثم جاء هجوم الضفادع البشرية على ميناء إيلات، وفقدت البحرية الإسرائيلية ثلاث قطع بحرية في ليلة واحدة.

 ردّت إسرائيل بنقل هجماتها إلى العمق المصري، معتمدة على تفوقها الجوي، أغارت على منشآت الري في الصعيد، بأن استهدفت جسر نجع حمادي لإغراق مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية، ثم انتقلت لتضرب قريباً من القاهرة، ضربت منشآت في طرة، ومصنعاً في أبو زعبل، وهاجمت مدرسة بحر البقر لتقتل ثلاثين طفلاً. 

وظهر من هذه الغارات أن صواريخ سام2 التي كانت لدى مصر كانت كفيلة بمنع الطائرات ذات الارتفاعات العالية، ولكنها ليست قادرة على التصدي للطيران المنخفض الذي اعتمدته إسرائيل في هجماتها على المنشآت المدنية.

كانت معلومات العسكريين المصريين أن السوفييت لديهم صواريخ سام3 التي تقوم بالتصدي للطيران المنخفض، وهكذا توجه وفد إلى موسكو يطالب بهذه الصواريخ، المشكلة كانت أن مثل هذه الصواريخ بحاجة إلى طاقم متدرب، ومثل هذا التدريب لا بد أن يحصل في روسيا، ما يعني أن مصر بحاجة إلى استقدام فنييها العاملين على صواريخ سام2 لإعادة تدريبهم، وهذا يعني انكشاف الجبهة المصرية أمام الطيران الإسرائيلي لمدة ستة أشهر على الأقل، هنا لم يجد عبدالناصر إلا أن يقترح استقدام خبراء من روسيا، يشغلون صواريخ سام3 لتحمي العمق المصري، كان اقتراحاً مفاجئاً للسوفييت، لأنه قد يضعهم في مواجهة مباشرة لا يرغبونها مع الأمريكان، ولكنهم وافقوا لأن عملهم سيقتصر على حماية العمق المصري، بينما تبقى الجبهة في حماية الفنيين المصريين.

وخلال شهر كانت بطاريات الصواريخ السوفييتية تعمل، في أواسط أبريل/نيسان عام 1970 توقفت إسرائيل عن غاراتها في العمق المصري، بينما استمرت الجبهة تشتعل، وخلال ثلاثة أشهر كانت خسائر الطيران الإسرائيلي في ارتفاع، لدرجة أن أبا إيبان، وزير خارجية إسرائيل، قال في تصريح لجريدة الهيرالد تربيون، إن سلاح الطيران الإسرائيلي يتآكل.

 طرح وليام روجرز، وزير خارجية أمريكا آنذاك، مبادرةً فيها هدنة مؤقتة لثلاثة أشهر، وقد وافقت مصر عليها لأسباب، منها أن قدوم الخبراء الروس إلى مصر قد يتسبب في أزمة بين روسيا وأمريكا، وأن هذه الهدنة تفيد القوات العسكرية في إتمام استعداداتها الحربية بهدوء. وجد السوفييت فرصة لدراسة طائرات الفانتوم الأمريكية التي سقطت في مصر فنياً، فقد كانت فيها أسرار تهم التكنولوجيا الروسية.

 وجاء التغيير المهم بوصول السادات إلى السلطة حاملاً تركة ثقيلة، إسرائيل تكفلت بإفساد جوهر مبادرة روجرز، وعمل كيسنجر من موقعه كمستشار للأمن القومي على إضعافها، ولكن الهدنة المؤقتة طالت بناء على أجندة الحكم الجديد في مصر. وفي الحقيقة فإن ما تضمنته مبادرة روجرز من عرض على العرب، كان أكثر مما أخذته مصر في محادثات السلام التي جرت مباشرة بعد نصر أكتوبر/تشرين الأول.

 كان أمام السادات مجموعة من التحديات، أهمها صراعه مع ما عُرف بمراكز القوى، والذي تمكن من الانتصار فيه، وفي الوقت الذي وقع فيه معاهدة صداقة مع الاتحاد السوفييتي قام بفتح قناة سرية للتواصل مع أمريكا، عبر ممثل المخابرات المركزية الأمريكي والقائم بأعمال السفير في القاهرة. ولحسن الحظ تمكن اللواء صادق، قائد أركان حرب القوات المسلحة من إبقاء الجيش بعيداً عن الصراع، يوم أن كاد وزير الدفاع محمد فوزي يستخدمه ورقة ضد السادات، وكان واضحاً من رد صادق أن الجيش المصري قد نذر نفسه لمعركة التحرير وللدفاع عن شرف الوطن.

 كان السادات مؤمناً بأن الحرب في يد الاتحاد السوفييتي، ولكن الحل بيد أمريكا، وكان رأي الفريق صادق أن التسلح المصري يجب أن يزيد منفرداً دون باقي العرب عن السلاح الإسرائيلي، ولكنه كان يختلف مع السادات في أنه يريد حرباً شاملة، بينما يرى الرئيس أنه ليس من الممكن سوى حرب محدودة، وكلاهما كان حساساً لمسألة وجود الخبراء الروس في مصر، السادات كان يخشى أن يتم توافق روسي مع الأمريكان على حسابه، خاصة أن أحد مؤتمرات القوتين الأعظم قد أشار إلى ضرورة الاسترخاء العسكري في الشرق الأوسط، كما أن نصائح السعودية وإيران تشير إلى أن علاقته مع أمريكا لن تتحسن ما دام الخبراء الروس باقين في مصر، وهنا أقدم السادات على طرد الخبراء السوفييت من مصر، ورغم أن الملك فيصل -كما ذكر ابنه محمد في مذكراته- قد نصحه بمقايضة أمريكا على هذه الخطوة، فإن السادات تصرف منفرداً، وروى إدوار شيهان في كتابه "العرب والإسرائيليون وكيسنجر"، أن كيسنجر كاد يصعق، وقال لمعاونيه لماذا يقدم السادات لنا هذه المكرمة دون يطلب أي تنازلات بالمقابل؟ 

 لم تُحدث المفاجأة الساداتية تأثيراً عند الأمريكان، ولكن تأثيرها كان شديداً على السوفييت، الذين أدركوا أن كل المكاسب التي حققوها في منطقة الشرق الأوسط والبحر الأبيض والأحمر والقرن الإفريقي توشك على الضياع.

 وتردد بين قادته أن الاستراتيجية الدولية لبلدهم أصبحت مكشوفة ومعرضة للخطر، ورأى الكثيرون من رجالات مصر البحث عن علاج، وعليه قام عزيز صدقي، رئيس الوزراء، بزيارة إلى موسكو، لم يكن المصريون يتوقعون الكثير، ولكنهم فوجئوا بحجم ما وافق السوفييت على تزويدهم به من أسلحة، تضمنت طائرات لم تدخل ساحة القتال بعد، ونظم صواريخ متقدمة، وعربات قتال مدرعة، وأنظمة حرب إلكترونية. كاد السادات يظن أن التشجيع السوفييتي له على دخول المعركة كان يهدف إلى توريطه حتى يحتاج لهم أكثر.

 وفي نفس الوقت تزايد الشعور في القاهرة بنفاد صبر الشعب والقوات المسلحة تجاه حالة اللاسلم واللاحرب، وفهم السادات من وزير خارجيته محمد حسن الزيات، الذي أجرى مباحثات مع روجرز ومسؤولين أمريكيين، أنه لا يمكن الوصول لحل نهائي مرة واحدة، وأن البدء بحل مرحلي على أساس فتح قناة السويس للملاحة الدولية هو المقدمة الممكنة لحل نهائي، كما تم فتح قناة سرية بين السادات وكيسنجر، في نوفمبر/تشرين الثاني 1972، وكانت النتيجة غير حاسمة، وأدرك السادات أن الحرب ضرورة، وعليه أصدر أمره إلى وزير دفاعه الجديد أحمد إسماعيل علي، لإتمام الاستعداد لعمل مسلح على الجبهة قريباً جداً، وطالبه الوزير بالتريث قليلاً حتى يتم التنسيق مع سوريا، وقد كان.

توجه وزير الدفاع إلى سوريا، وتم الاتفاق على الخطوط الرئيسية. 

إنها الحرب إذن.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

صالح الشحري
طبيب فلسطيني
طبيب فلسطيني واستشاري أمراض نساء و توليد. مهتم بالشأن الثقفي وقضايا المجتمع وسبق أن كتبت عدة مقالات في موقع huffpost النسخة العربية.
تحميل المزيد