“طريق القدس مفتوح أمامكم، فماذا تنتظرون؟!”.. لماذا منع الملك حسين الأردن من المشاركة في حرب أكتوبر؟

عدد القراءات
2,505
عربي بوست
تم النشر: 2020/10/06 الساعة 11:36 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/10/06 الساعة 11:36 بتوقيت غرينتش
ملك الأردن الثالث الحسين بن طلال

في يوم 18 أكتوبر/تشرين الأول، وقف الجندي المصري أحمد حسين على خط الجبهة، يكتب في دفتر يومياته "في تقديري أن هذه هي الساعة التي يجب أن يفتح فيها الملك حسين جبهة الأردن، مهما كانت الظروف".

 وما لم يكن يعلمه حسين ورفاقه وقتها أن هذه الجبهة لن تُفتح أبداً، رغم كل المناشدات العربية بذلك، بسبب مناشدات أخرى طالبت بالعكس.. فما هي القصة؟ ولماذا حرم الملك حسين نفسه من المشاركة في نصر العرب الوحيد على إسرائيل، والذي ما زلنا نتغنّى بأمجاده حتى اليوم؟

 يحكي مصطفى طلاس، وزير الدفاع السوري إبان حرب أكتوبر/تشرين الأول في مذكراته، أنه بتكليفٍ من الرئيس السوري حافظ الأسد، سافر إلى الأردن قبل انطلاق المعركة لبحث إمكانية مُشاركته في أعمال القتال المحتمل اندلاعها قريباً ضد إسرائيل.

في هذه الزيارة كان الملك حسين صريحاً، الرجل يرى أن بلاده غير جاهزة لأي حرب، وأن قواته لن تكون مستعدة للدخول في معركة قبل 18 شهراً، كما أنه بحاجة لدعمٍ مالي من ليبيا والكويت، وهي الرسالة التي عاد بها طلاس إلى الأسد، ومن ثَمّ إلى السادات، لكنَّ الرجلين أمِلا أن يتغيّر موقف الرجل بعد اندلاع القتال.

 وفي مايو/أيار 1973م، كشف تقرير سري لمجلس الأمن القومي الأمريكي عن تصريح لمسؤول عسكري أردني رفيع المستوى، عن بعض كواليس اجتماعات رؤساء هيئات الأركان العرب، بأن الأردن شعر بـ"اليأس والتوجس" نتيجة إصرار مصر على الذهاب إلى الحرب.

نسّق زعيما مصر وسوريا العمل العسكري المُشترك معاً، دون أن يُخطرا الأردن بموعد اندلاع أعمال القتال، لكن الملك حسين اشتمَّ النُّذُر في الأجواء ولمسها من زيارة طلاس، واعتبر أن هذه الأوضاع ستمضي في غير صالِحِه، فهو على قناعة مُطلقة بأنّ أي مواجهة عسكرية ستحدث بين العرب وإسرائيل سيكون النصرُ فيها ساحقاً للأخيرة، وأنه أكثر مَن يتحمّل تبعات الفشل العسكري العربي.

 فالسياسة العربية الانتحارية التي قادها عبدالناصر أودت بالعرب إلى النكسة، وإلى ضياع الضفة الغربية من الأردن، وإن كانت هذه الخسارة المُبينة قد رجّت عرشه في 1967م، فإن أي تهور عسكري غير محسوب في 1973م سيسلبه العرش نهائياً.

 يقول خالد محمد حسن، في كتابه "خفايا الحكام العرب"، إنه بعد النكسة استمر الملك في البحث عن حل سلمي، يستردُّ من خلاله الأراضي التي سُلبت منه، وأجرى مفاوضات سرية مع أبا إيبان، وزير خارجية إسرائيل، أكثر من مرة، لكن إسرائيل لم تُحقق له ما أراد.

 ظلَّ الملك حسين محتفظاً بآمال استرداده أراضيه سلمياً، لذا تمسّك بسياسة الحياد خلال حرب أكتوبر/تشرين الأول، اقتناعاً منه بأن الحل العسكري لن يُعيد له أرضه أبداً، وهو ما حاول تجنّبه، أو تجنّب آثاره بأي ثمن.

 تتقاطع عشرات المصادر التاريخية الإسرائيلية مع حقيقة مُفزعة ذكرها طلاس في أحد لقاءاته التلفزيونية، وهي أن الملك حسين استقلَّ طائرته سرّاً وسافر إلى تل أبيب، وأخطر رئيسة الوزراء غولدا مائير باحتمال نشوب حرب، وهو ما لم تُعِره سيدة إسرائيل الأولى انتباهها، فأتت عليها الصاعقة من حيث لم تحتسب.

وهي ذات الرواية التي كشف عنها الجنرال الياهو زيرا، رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلي، بعدما أضاف إليها معلومة حاسمة، وهي أن الملك حسين وعد بأن بلاده لن تُستخدم للهجوم على أحدٍ، وهو الوعد الذي لو لم يُقطع لربما احتفل الجنود العرب بانتصارهم على إسرائيل في باحات الأقصى.

 وتنقل وثيقة عسكرية إسرائيلية عن مائير، أنها كان يُمكنها إجهاض هذه الحرب مبكراً، بعدما رصدت موقعاً تجمّع فيه كبار الضباط السوريين، وخطَّط جيش إسرائيل لقصفه والقضاء على خيرة عقول الجيش السوري، إلا أن مائير تراجعت بعدما وصلتها معلومات تفيد بأن العاهل الأردني الملك حسين قد يُشارك في هذا الاجتماع!

 وهكذا يكون الملك حسين قد ساهم في نجاح إشعال الحرب دون أن يدري، لكن عندما اشتعل القتال في الجبهتين المصرية والسورية، وحقّقت الجيوش العربية انتصارات ملحمية شغلت العالم بأسره، ودفعته للتساؤل: كيف اكتسب المصريون والسوريون هذا التفوق بعد ضربة النكسة الكاسحة؟ لكن بقي السؤال المهم: متى ينضمُّ الأردنيون؟

 في كتابه "السلام الضائع"، كشف وزير الخارجية المصري الأسبق محمد إبراهيم كامل، أن السادات أخبره أنه طلب من الملك حسين السماح لفريق من الكوماندوز المصريين بالتسلل عبر حدوده، وتنفيذ عمليات في عُمق إسرائيل خلال حرب أكتوبر/تشرين الأول، لكنه رفض.

 وفي حديث للرئيس الأسد في جريدة الأنوار اللبنانية، عام 1974م، كشف عن أنه سعى بكل السُّبُل لإقناع الأردن بفتح جبهة قتال ثالثة.

 كان واثقاً من أن إسرائيل لن تحتمل الصمود في وجه 70 ألف جندي أردني يدخلون الحرب، ويحكي أنه قال للمسؤولين الأردنيين بكل وضوح "طريق القدس مفتوح أمامكم، فماذا تنتظرون؟"، لكنهم رفضوا اقتراحه، واكتفوا بمشاركة رمزية لا تحرمهم شرف تجرّع كأس الانتصار دون مساهمة فعلية في القتال.

 وفي مذكراته عن حرب أكتوبر/تشرين الأول، قال محمد الجمسي، رئيس هيئة العمليات للقوات المسلحة المصرية خلال الحرب ووزير الحربية الراحل، إن عدم اشتراك الأردن في العمليات ترتّب عليه وجود ثغرة استراتيجية تؤثر على الموقف العسكري.

 تعرّض الملك حسين لانتقادات شعبية عربية هائلة، تدعوه لفتح "الجبهة الثالثة"، فزار وزير خارجية العراق عمَّان، وناشد الأردنيين تقديم المساندة في أعمال القتال، كما مارَس القائم بالأعمال السوفييتي في عمان ضغوطاً رهيبة على الملك حسين للاشتراك في المعركة، ووعده بمساندة دبلوماسية من الاتحاد السوفييتي إن فعل ذلك.

 كان العالم كله يعرف هذه الحقيقة الحاسمة، ففي خضمّ انشغال إسرائيل بصدِّ هجمات مصر وسوريا سيكون تدخل الأردنيين منهياً لأي أمل أمريكي/إسرائيل في الصمود، لذا جاهدت واشنطن كثيراً لمنع حدوث ذلك.

 طُرحت "المعضلة الأردنية" على المائدة الأمريكية منذ اندلاع الرصاصة الأولى، ففي يوم 6 أكتوبر/تشرين الأول، كتب وليام كوانت، عضو في مجلس الأمن القومي، مذكرةً إلى القائد العسكري الأمريكي برنت سكوكروفت، دعا فيها إلى "التشاور مع الإسرائيليين والأردنيين حول الخطوات اللازم اتخاذها في حال نشوب الأعمال العدائية، وبوجه خاص، فإننا نريد التأكد من أن الأردن لن ينجر إليها".

 ويحكي كيسنجر في مذكراته، أنه علم "أن السادات يحثُّ الملك حسين على أن يزج بنفسه في المعركة، كما بَلَغه أن الملك حسين يدرس إمكانية إرسال فرقة مدرعة إلى سوريا، متحاشياً بذلك اتخاذ قرار أخطر، مثل فتح جبهة جديدة يهاجم منها على طول شواطئ نهر الأردن، ناشدتُ في الحال الملك حسين تأجيل اتخاذ قراره 48 ساعة على الأقل، ونوهت له في الوقت ذاته على أني سأبذل قصارى جهدي في دبلوماسية سرية لوضع حدٍّ للقتال، وأنا مازلت بحاجة لبعض الوقت ولمعاونته، واتبع توصيتي".

 ويبدو أن كيسنجر تلقّى تطمينات من جهةٍ أردنيةٍ ما، لأنه خلال اجتماعه مع

السفير الإسرائيلي في واشنطن، سيمحا دينيز، طمأنه بأن "الأردن أُقصي من الحرب".

 بعد مرور 4 أيام كاملة على معارك الحديد والنار، أعلن الملك حسين التعبئة العامة لجنوده يوم 10 أكتوبر/تشرين الأول، وهي الخطوة التي استقبلتها مائير بتهديدٍ بيّن، حذّرت الملك حسين بأن قواته لو هاجمت إسرائيل فسوف تُزيحه من على العرش.

 كما منحت مائير الملك حسين رسالة سرية، عبر أمريكا، أكدت له فيها أنه إن انضمَّ إلى الحرب فإن إسرائيل ستكرّس جيشها لتدمير الأردن تماماً، بجيشه وبناه التحتية.

 وفي اليوم ذاته، اتّصل رئيس الوزراء الأردني زيد الرفاعي بمسؤولين أمريكيين، وفقاً لتقرير مركز العمليات في وزارة الخارجية الأمريكية، وأخطرهم بأن الموقف يزداد خطورة، وأنه لا يزال يحاول مقاومة الطلبات المصرية والسورية بأن يدخل الأردن المعركة فوراً، ولكنه يعتقد أن الملك بدأ يضعف.

وتابع أنه لم يستطع رفض طلب سوري عاجل بتوفير ناقلات دبابات لازمة لنقل فرقة مدرعات عراقية إلى الجبهة السورية، وطالب الرفاعي بأن تبذل الولايات المتحدة كل جهدها لتهدئة الموقف خلال ساعات.

 ويكشف التقرير أيضاً أن أمريكا سلّمت الأردن تحذيراً عسكرياً إسرائيلياً جديداً بعدم التدخل في الحرب.

 أتى هذه التهديد رغم أن مائير ربما كانت الوحيدة التي تعلم أن الملك حسين لن يهاجمها أبداً، فبعد هذه التعبئة الشاملة لجيشه اكتفى بإرسال لواءٍ مُدرع إلى الجبهة السورية، لواء حرب حمل أوامر واضحة وهي ألا يُحارب!

 يقول طلاس في مذكراته: إن القوات الأردنية كانت تتعمَّد التباطؤ في كافة تحركاتها، ويحكي أن اللواء المدرّع الأردني بقي 3 أيام حتى وصل إلى القطاع الجنوبي من الجبهة، مع أنه كان متمركزاً في "إربد"، التي لا تبعد عن الموقع المطلوب أن يتمركز فيه أكثر من 90كم، وعندما وصل إلى قاعدة الانطلاق تقاعس عن عملية الزجّ، فطلب إليّ الأسد أن أتصل بالملك حسين.

 أثارت هذه التصرفات غضب الرئيس الأسد، الذي قال لوزير دفاعه "اتركهم، إنشالله عُمرهم ما شاركوا".

 ويعتبر طلاس أن الأردن هو اللغز الأكبر في الحرب.

 لغز لم تتضح معالمه إلا في السنوات الفائتة، عقب الإفراج التدريجي عن الوثائق في الأرشيفين الأمريكي والإسرائيلي.

 بعدما كشف تقرير سري أعدّته وزارة الخارجية الأمريكية أن الأردن فور إعلان قيامه بالتعبئة العامة لجنوده، طمأن واشنطن بأنه لن يُقدم على أي هجوم عسكري، وأن هذه الخطوة مجرد "عمل نفسي".

 والأكثر من ذلك ما كشفه عساف ديفيد، الباحث في العلاقات الدولية في جامعة القدس، في كتابه "حرب يوم الغفران"، أنه بعد أن فحص مئات الوثائق تأكد له أن قرار مساهمة دعم سوريا تمَّ بالتنسيق مع إسرائيل!

 وهو ما استدعى تعليقاً لاذعاً من كيسنجر في مذكراته، بقوله "لا يحدث إلا في الشرق الأوسط أن يطلب طرف في نزاعٍ مُسلح من خصمه الموافقة على المشاركة في حربٍ ضده".

 وقال عساف في كتابه، إن الملك حسين أكد لإسرائيل أنه مضطر للمساهمة في القتال؛ كيلا تتآكل صورته أمام العرب، لكنه تعهّد بأن تتصرّف قواته ببطء خلال القتال.

 الدكتور أساف ديفيد، الخبير في الشؤون الأردنية في جامعة تل أبيب، نشر كتاباً كاملاً حول هذه المسألة، بعدما اطّلع على المئات من وثائق الحرب السرية، أكد في مُؤلَّفِه أن تفاهمات سرية جرت بين الملك حسين وإسرائيل، بأن هذا الصراع "سيبقى رمزياً".

 وأوضح ديفيد أن إرسال لواء أردني إلى سوريا تمَّ بعِلم إسرائيل وموافقتها، لحفظ صورة الملك أمام الرأي العام، وكان من الطبيعي ألا تقبل إسرائيل بهذا الإجراء قديماً، لكنها اعتبرته أهون الشرور.

 كما يمنحنا كتاب أساف المزيد من تفاصيل هذا التنسيق العسكري الفريد من نوعه، بأن ولي العهد الأردني أطلع وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر، ومن ثَمَّ الإسرائيليين، على مواقع القوات الأردنية حتى لا تُركز هجومها عليها!

وهو ذات المنحى الذي اتّخذه الملك حسين في رسالته إلى غولدا مائير، وطالبها بالامتناع عن مهاجمة قواته، وهو ما لم تلتزم به مائير تماماً، فتعرضت بعض الوحدات الأردنية لقصف أوقع خسائر في صفوفها، ربما عن طريق الخطأ!

 وهي الضربات التي مرَّت بلا ردٍّ ولا رغبة في الثأر، حتى أُعلن وقف إطلاق النار يوم 22 أكتوبر/تشرين الأول.

 وفي اليوم التالي مباشرةً، قابلت مائير السفير الأمريكي في إسرائيل، واعتبرت أنه بعد التوصل لوقف إطلاق النار امتلك الملك حسين "سبباً جيداً" يُبرر به سحب دباباته من الجبهة السورية، بعدما منحته مصر الغطاء السياسي لهذا الإجراء، عقب موافقتها على وقف إطلاق النار، وأعربت للسفير عن تفهمها لموقف الملك حسين.

 وكانت أكثر الأشياء إثارةً للدهشة في كل أجواء هذا الصراع ما كتبه الدبلوماسي السوفييتي فيكتور إسرائيليين، في كتابه "داخل الكرملين خلال حرب يوم كيبور"، بأن العاهل الأردني أخبر فينوغراد بأنه قدّم عروضاً متكررة إلى مصر وسوريا ليدخل الحرب معهما، لكن السادات رفض!

المصادر:

  • كتاب "أسرار حرب أكتوبر في الوثائق الأمريكية" لويليام بير، ص150
  • كتاب "مرآة حياتي"، لوزير الدفاع السوري مصطفى طلاس، ص 689
  •  كتاب "حروب مصر في الوئاق الإسرائيلية"، لمحمد البحيري، ص 55
  •  كتاب "خفايا وأسرار الحكام العرب"، لخالد محمد حسن ص 123
  •  كتاب "داخل الكرملين خلال حرب يوم كيبور"، لفيكتور إسرائيليين، ص 68
  •  كتاب "معركة العبور المجيدة" لأحمد حسين، ص 44
  •  مذكرات الجمسي حرب أكتوبر 1973، ص 242
  • مذكرات هنري كيسنجر، الطبعة العربية، ص 345

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد متاريك
باحث في التاريخ وعلوم اللغة
باحث في التاريخ وعلوم اللغة، صحفي مصري، عمل محرراً في عدد من دور النشر.
تحميل المزيد