تراوحت ردود الفعل حول الاحتجاجات المحدودة التي تشهدها مصر خلال الأسبوعين الماضيين؛ لكنها اتسمت جميعها بعزوفها عن تناول الحدث بالتحليل السياسي لأسبابه ودلالاته وآثاره. فبينما عزف المثقفون العلمانيون عن التعاطي مع الحراك انزعاجاً من تصدّر معارضة الخارج ذات الميل الإسلامي والأداء المبتذل، وكأن شيئاً لا يجري في مصر؛ اتجه مثقفون ذوو ميول إسلامية إلى تبخيس الحراك دون إعطائه حقه من التحليل، استسلاماً للتشاؤم المبتذل واليأس المخيم منذ هزيمة 30 يونيو/حزيران وما تبعها.
أما مؤيدو الحراك، حتى من الأكاديميين، فقد اكتفوا بالتعبئة والحشد بأسلوب شعبي بسيط، دون محاولة إعطاء الحراك زخماً إضافياً باستغلاله في تحليل أزمة السلطة في مصر والتنظير لمواجهتها وإحلال سلطة جديدة محلها. هذا الدور هو ما يحاول هذا المقال أن يقوم به، فهو قراءة في دلالة تلك الاحتجاجات على ما تعانيه السلطة في مصر من أزمة مزمنة لا يسهل عليها حلها رغم وعيها بوجودها، وما يعنيه هذا الوعي المكبّل من دلالة على مستقبل سلطة السيسي في مصر.
أزمة سلطوية السيسي
اتجهت السياسات الاقتصادية للسلطة المصرية، نسخة 30 يونيو، إلى التوسع في الاستثمار في البنية التحتية والعقارات؛ جنباً إلى جنب مع التوسع في "الاستحواذ" على الأنشطة الاقتصادية ذات التأثير السياسي والاجتماعي، وذلك لأسباب أمنية أو اقتصادية. ويتم ذلك من خلال شركات مملوكة للجيش رأساً، كاستحواذ الشركة المتحدة المملوكة لصندوق "إيغل كابيتال" على النشاط الإعلامي بمختلف أشكاله، بعد شراء حصة رجل الأعمال أحمد أبوهشيمة في مجموعة "إعلام المصريين"، المالكة لشبكة قنوات "أون تي في" وعدد كبير من شركات الإعلام المصرية. وكمحاولة للتوسع في سوق الدواء والصيدلة تم إنشاء سلسلة صيدليات "19011" والتي استحوذت على سلسلة صيدليات "رشدي الشهيرة وقبلها سلسلة صيدليات "إيمدج". وهو ما تكرر في سوق محطات الوقود واستحواذ الجيش على سلسلة محطات "الوطنية" و"شيل أوت"، إضافة إلى استحواذ الجيش أيضاً على سوق المحاجر والأسمنت. لكن هذا النمط من الاستثمار الحكومي لم يُدرّ الأرباح المرجوة منه.
بخصوص الاستثمار في البنية التحتية، كان العائد الوحيد المرجو منه هو تقليل تكلفة الإنتاج السلعي والخدمي من خلال تخفيض تكلفة ووقت النقل مثلاً، وبالتالي تشجيع الاستثمار الخاص في القطاعات الإنتاجية والخدمية، إلا أن هذا لم يحدث نظراً لأن توسع الدولة نفسها في الاستثمار الحكومي في البنية التحتية والعقارات أدى إلى توجه رؤوس الأموال إلى تلك القطاعات التي تمثل استثمارات آمنة وسريعة الربحية.
أما في قطاع العقارات، فقد كان المستهدف أن تجذب المدن الحكومية الجديدة كالعاصمة الإدارية، الشرائح العليا من المصريين والمستثمرين الخليجيين للشراء فيها، إلا أن ذلك لم يتحقق نظراً لوفرة المعروض من العقارات الفارهة بعد عقود من توسع الاستثمار الخاص في ذلك القطاع، فضلاً عن أن تلك المشاريع الحكومية، كمشروع العاصمة الإدارية، واجهت صعوبات تمويلية عطلتها، مما ضاعف أزمتها التسويقية.
أما استحواذات الجيش، فإنها بطبيعتها في الخلط بين السياسي والاقتصادي (بمعنى استعمال الميزة السياسية للمستثمر في منافسته لغيره من المستثمرين) أدت إلى إحجام المستثمرين في تلك القطاعات وسقوطهم من المنافسة، وبالتالي ضعف المنافسة التي تسببت جنباً إلى جنب مع ضعف كفاءة الإدارة وفسادها بحجم طبيعتها القائمة على المجاملات السياسية في أن تفشل تلك الاستثمارات في تحقيق أرباح عالية؛ بمعنى أن استحواذات الجيش لم تفشل فقط، بل دمرت تلك الصناعات وأعاقت تطورها.
أدى ذلك الفشل إلى خلق فجوة تمويلية استلزمت من السلطة التوسع في الاستدانة لتتوسع في هذا النمط الاستثماري الذي اختارته، وهذا النمط يعود بدوره فيتسبب في توسيع الفجوة التمويلية.. وهكذا… حاولت السلطة حل تلك المعضلة عبر التوسع في الاستدانة من الخارج التي تفترض أن تمويل الاستثمار الحكومي عبر الاستدانة سيكون كفيلاً بتحقيق أرباح كافية لخدمة ذلك الدين الخارجي. هكذا تضاعف الدين الخارجي لمصر بعد صعود سلطة 30 يونيو من 43 مليار دولار في يونيو/حزيران 2013 ليبلغ حوالي 110 مليارات دولار في سبتمبر/أيلول 2020. بالتالي ارتفع نصيب بند خدمة الدين في الموازنة العامة المصرية من حوالي 25% من الموازنة إلى حوالي 33% من الموازنة، وهي زيادة كبيرة في الحقيقة على خلاف ما قد يبدو للوهلة الأولى.
لتعويض ضعف أرباح الاستثمار الحكومي، بل وربما لتعويض الخسائر، اختارت السلطة التوسع في الجباية الضريبية المباشرة وغير المباشرة، وتعني الجباية غير المباشرة التوسع في فرض الرسوم على الخدمات الحكومية وزيادة أسعارها كما حدث بالنسبة لخدمات الماء والكهرباء، مع فرض الغرامات على المخالفات، جنبا إلى جنب مع سياستها الأساسية في تقليص الإنفاق الحكومي الاجتماعي (تقليص أو إلغاء الدعم، خاصة على الوقود والمحروقات). أما توسع الدولة في الضرائب، فقد جاء كالعادة توسعاً أفقياً لا رأسياً، بمعنى أن الدولة لم تفرض ضرائب تصاعدية أو ضرائب جديدة كضريبة الثروة والأراضي، ولم تحسن رقابتها الضريبية على الشرائح العليا، وإنما توسعت في زيادة ضرائب الدخل والضرائب المركبة على الإنتاج والاستهلاك التي تطال الشرائح المتوسطة والدنيا، مما جعل العائد أقل، والضريبة الاجتماعية على الطبقات الشعبية أشد.
تخلق هذه السياسات الاقتصادية وضعاً غير محتمل، لا يطاق، من قبل الجماهير المتوسطة والدنيا، بغض النظر عن سياسات السلطة الأخرى في الخارج والداخل. لذا يمكننا القول إن "سلطة 30 يونيو" سقطت في شَرَك سياساتها الاقتصادية، بحيث لا يمكنها هي نفسها التراجع عن ذلك النمط من الاستثمار؛ وهي مفارقة تستحق التوقف عندها: فلطالما قيل عن استثمار الدولة في الصناعة والخدمات الضخمة كالنقل إنه استثمار فاشل لأسباب مختلفة. لكن ما تقوله الوقائع اليوم هو أن الاستثمار الحكومي الذي ترك الصناعة والخدمات، وذهب للتوسع في البنية التحتية والعقارات لدفع القطاع الخاص، كان أشد فشلاً من الناحية الاقتصادية، فضلا عن أنه لم يحقق المكاسب الاجتماعية التي يحققها تحسن الصناعة والخدمات، كنقل التكنولوجيا وتحسن التعليم الصناعي وزيادة فرص العمل وتحسن شروطه.
في ظل تلك السياسات الاقتصادية ذات الجذور السياسية، تعجز سلطة عبدالفتاح السيسي عن اتخاذ خطوات اقتصادية واجتماعية لتهدئة واستيعاب الحنق الشعبي المتصاعد يوماً بعد يوم. هذا الحنق الشعبي في تلك الحالة ليس مدفوعاً بتحريض إعلامي، ويمكن بالتالي تفريغه حال توقف هذا التحريض كما يتخيل بعض المحللين، بل هو حنق أصيل معاش يوميا لا تملك الأغلبية الكاسحة من المواطنين، بما في ذلك الطبقة الوسطى العليا، رفاهية أن تتحاشاه.
اعتادت السلطويات عندما تواجه مآزق اقتصادية مستعصية من ذلك النوع أن تتجه إلى إفساح مجال للمشاركة السياسية. تهدف السلطة من خلال ذلك الإصلاح السياسي المحدود إلى تفريغ الحنق الشعبي عبر تصوير أن تلك الوضعية لم تتسبب السلطة في خلقها وإنما فرضت على الجماعة الوطنية التي تتشارك الآن صناعة القرار. لكن طبيعة سلطوية 30 يونيو أنها سلطوية أمنية لا سياسية، بمعنى أن قيادة السلطة تقع في أيدي كبار قادة الأجهزة الأمنية والاستخبارية، بينما يتراجع دور الساسة المحيطين بشخص الزعيم. في هذا النوع من السلطويات، تعجز السلطة نفسها عن اتخاذ خطوات سياسية وإن أرادت، لأن منطقها الأمني يجعل خطواتها السياسية شديدة البلادة والرداءة. هذه السلطويات الأمنية بقدر ما تبدو عليه من قوة وتماسك، كونها لا تتيح أي ثغرة تنفذ منها المعارضة إلى السلطة، بقدر ما تجعل السلطة في حالة هشة بسبب عدم قدرتها على المناورة سياسياً عندما تقع في مشكلات اقتصادية أو تصطدم بالجماهير لأي سبب.
بكلمة: بقدر ما يبدو السيسي قوياً، بقدر ما هو في الحقيقة عاجز.
هل معنى ذلك أن السيسي سيسقط؟
إن التحليل السياسي لا يهدف إلى إعطاء نبوءات حاسمة عن المستقبل كما يتصوره القراء. كما أن قول إن الاحتجاجات لا يمكنها أن تسقط النظام ليست سوى إمعان في السطحية. ذلك أن تحليل الاحتجاجات لا يتعلق بمدى ما يمكنها إنجازه فحسب، أو بمنطق المحرضين عليها، وإنما بما تدل عليه تلك الاحتجاجات وما تساعدنا فيه من فهم الجاري نفسه: لماذا يجري؟ وما هي الخيارات المتاحة لكل طرف في المعادلة؟ لماذا يعجز أحد الأطراف عن اتخاذ خطوة إصلاحية رغم إدراكه أحياناً أنه يحتاج إليها؟
لا تسقط السلطة لأنها فشلت، وإنما تسقط بفعل فاعل، لأن هناك من أسقطها، والمعضلة السياسية الأساسية في مصر اليوم هو أن انهيار الإخوان المسلمين وتردي أحوال النخب الثقافية والسياسية بعد هزيمة 30 يونيو، ترك الساحة السياسية فارغة.
إذن، ما يقوله هذا التحليل فقط هو أن "سلطة 30 يونيو" تعاني، وستظل تعاني بسبب سياساتها نفسها إلى أن تتغير تلك السياسات لسبب أو لآخر (أنقذت حرب الخليج في 1990 السلطة في مصر من وضع مشابه، عندما تسببت في إلغاء بعض الديون على مصر، فضلاً عما تلقته من معونات اقتصادية مقابل خدماتها السياسية)، أو إلى أن تتولد قوى من المعارضة، أو حتى من داخل السلطة نفسها، قادرة على استغلال معاناة السلطة في إزاحتها عن سُدة الحكم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.