في مسلسل الراحل أسامة أنور عكاشة "ريش على ما فيش" يتقمص توفيق أبوغزالة (الفنان يحيى الفخراني) دور البطل، والذي تخاف منه اللصوص وقطاع الطرق حتى تتكلم عنه الصحف ويصبح شخصية كبيرة في المجتمع. ومع الوقت يصدق توفيق هذه الكذبة، ويعيش في دور البطولة الوهمية، ولكن تتضح الحقيقة بالتدريج، ويقع في أخطاء تكشفه أمام الجمهور والمحيطين به.
و"ريش على ما فيش" ليس في الحقيقة مسلسلاً فقط، إنما هو ريش منفوش على كثير من الشخصيات النرجسية والمريضة، التي تعيش حالة من البطولة الزائفة والعظمة الوهمية والفارغة من كل شيء.
والمصيبة أن يصاب فرد بهذه البطولة الزائفة، ويبتعد عن الواقع، ويعيش في أحلام اليقظة، أما المصيبة الكبرى فهي أن كثيراً من الحكام على مدار التاريخ مصابون بهذه العظمة الكاذبة: النمرود بن كنعان وكيف ادّعى الألوهية وجادل النبي إبراهيم -عليه السلام- وانظر إلى فرعون مع النبي موسى -عليه السلام- وكيف ادّعى الألوهية، وفي النهاية غرق في اليم، وانظر إلى أنه (أي النمرود) يحيي ويميت، أما حكام ورؤساء العصر الحديث فحدّث ولا حرج.
هذه العظمة الكاذبة لا تصيب الحكام الذين يأتون من خلال صناديق الانتخابات، إنما تأتي غالباً للذين ينقلبون على شعوبهم ويحكمونهم بالحديد والنار والقائمة تطول بأسمائهم (معمر القذافي وهتلر وموسيليني وجان بيدل بوكاسا رئيس جمهورية إفريقيا الوسطى الأسبق ونيقولاي تشاوشيسكو رئيس رومانيا الأسبق ووني وين رئيس بورما الأسبق وكيم جونغ أون رئيس كوريا الشمالية وو…).
وحينما يتملك هذا الموهوم بعظمة كاذبة فإنه يعشق ذاته ويتصور أنه الزعيم الأوحد، وفيلسوف الفلاسفة، وملك الملوك، وطبيب يشخص كل حالة، وبالتالي لا يتصور إلا أن الشعب كله معه وفي جيبه، ولا يتصور قط أن تكون له معارضة، وإذا وجدت معارضة فإنه يشيّد السجون العديدة والمعتقلات ويتفنن في ألوان التعذيب لوأد هذه المعارضة في مهدها وينسفها نسفاً بعد ذلك إذا اشتد عودها!
والحاكم المنفوخ بالعظمة الكاذبة يختصر الدولة كلها في ذاته؛ وينحت شعاره الأثير "أنا الدولة"، وينعت المعارضين له بالخيانة والعمل على هدم الدولة، ويخرج صكوكاً بأسمائهم، ويصفهم بالإرهاب، ويستحلّ أعراضهم وأموالهم وكل شيء لهم.
والزعيم الأوحد لا يقرب منه إلا موقدو البخور وأهل الثقة، أما أهل الخبرة فهو عدو لدود لهم! وزعيمنا الهمام هذا لا يأخذ بأي أسباب علمية لحل المشكلات ولا لتقدم الاقتصاد وعجلة الإنتاج، ولا يقترب من أي دراسة جدوى لأي مشروع لأنه (عبقري العباقرة) و(مبعوث العناية الإلهية)؛ ومن ثم تنهار الدولة على يديه، وتزداد صرخات الشعب وأنينهم، والزعيم الأوحد ما برح لا يأبه بذلك كله، بل يزداد شراسة في تشييد كل أفانين الرفاهية له ولحاشيته، وحتى يصل إلى درجة أن يمشي على سجادة يبلغ طولها عدة كيلومترات.
ومع الوقت تزداد قبضة الحاكم بأمره على كل مفاصل الدولة، ويضع دستور الدولة -إن وجد ثمة دستور- في جيبه، يلهو به متى وأنَّى شاء، ويصاحب ذلك شعوره بعظمته غير المسبوقة؛ لأن كل شيء دان له فينسج شعاره الأثير الآخر "أنا مكمل مهما حصل"!
و(مهما حصل) يمكن أن يصل إلى تحكم دول أخرى قوية في بلد يحكمه مثل هذه النوعية من الحكام، وقد يصل الأمر إلى الاحتلال والتحكم في ثروات البلد وكل شيء؛ لأن هذا الحاكم ليس له ظهير شعبي، بالإضافة إلى أن قرارته عادة تتشح بالعشوائية والارتجال.
في نهاية مسلسل "ريش على ما فيش" يحاول توفيق أبوغزالة أن يبحث عن شخصيته الحقيقية، ويشرع في التمثيل بالسينما، ويبدأ في الاشتراك بتمثيل دور ثانوي (كومبارس) في فيلم، بعدما مثل بطولة زائفة في فيلمه "مغامرات توتو"، والذي تركه الجمهور أثناء عرضه الأول ولم يكملوه، وبعد ذلك سقط على أم رأسه.
أما حاكمنا بأمره فلا يعلم أنه مريض ويحتاج للعلاج الناجع لشفائه من عظمته الكاذبة والمتأصلة في جوانب نفسه، ولا يريد أن يقف مع نفسه وقفة شجاعة ليعلم زيفها وعظمتها الكاذبة وفراغها من كل شيء، وطبعاً لا يريد أن يعلم أنه السبب في شقاء وتدمير الشعب والبلد كله، ولا يعلم أنه لا يصلح لأن يدير عزبة، فضلاً عن أن يحكم بلداً!
فما الحل إذن لنتف ريش هذا الحاكم المنفوش ووضعه في حجمه الطبيعي، أو ما الحل لإزاحته عن كرسي الحكم وإنقاذ البلد من الانهيار المدمر؟
الحل عنيف مثل ثورة أو انقلاب؛ لأن هذا الحاكم وأضرابه من المتوقع أن يتشبثوا بكرسي الحكم أكبر وقت ممكن، وما فتئوا يسحقون مَن يقترب منه سحقاً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.