في صباح يوم 20 سبتمبر/أيلول 2020 وقعت مشاجرة في قرية الكداية التابعة لمركز أطفيح جنوب محافظة الجيزة المصرية بين عائلتين من كبار عائلات المنطقة، على إثر ذلك تدخلت قوات الأمن المصري لفض الاشتباك بين العائلتين، لكن التدخل الأمني لم يكن محسوباً أو تم بطريقة أدت إلى اشتعال الموقف أكثر وأكثر، ليقاوم الأهالي قوات الأمن ويحرقوا سيارة شرطة وينسحب الأمن المصري. ولمن ليس له سابق معرفة بالوضع الاجتماعي والأمني في قرى محافظة الجيزة، فإن قرى جنوب محافظة الجيزة كثيراً ما تشهد كراً وفراً بين الأمن والأهالي من جهة، والأمن وتجار المخدرات والسلاح من جهة ثانية، والأمن والعائلات الكبيرة من جهة ثالثة. حتى أن تلك المواجهات تحولت إلى جزء من الروتين اليومي للأطفال والكبار على حد سواء. إذ يستغل الكثير من تجار المخدرات والسلاح والآثار طبيعة المنطقة الجبلية والوعرة للتواجد بداخلها. بالرغم من كل ما سبق عن اعتياد تلك المواجهات بين الأمن والأهالي لأسباب مختلفة، فإن هذه المرة حدثت المواجهة في يوم العشرين من سبتمبر/أيلول، اليوم الذي كان يحشد له من قبل الممثل والمقاول ذائع الصيت محمد علي وقنوات المعارضة المصرية بالخارج ومشاهير اليوتيوب المؤثرين كعبدالله الشريف، وإن كان لم يأمل أصحابها في استجابة واسعة وضخمة، فقد سبقها دعوات في الـ25 من يناير/كانون الثاني السابق ولم تلق صدى واسعاً أو استجابة فعالة، وسط تهكم كبير من الإعلام الموالي للنظام المصري، ولكن حدثت المفاجأة ووقعت المشاجرة واندلعت شرارة مواجهة مع الأمن المصري وتم تصويرها على أنها شرارة للحراك المتوعد. ومن المعلوم أن حركة الشعوب معدية… فتحركت قرية أخرى بجوار قرية الكداية ثم قرية أخرى ثم تحرك مركز الصف بجوار مركز أطفيح ثم مركز العياط المجاور لهما ثم انتقلت العدوى لقرى أخرى في محافظات أخرى ثم أصبحت انتفاضة القرى ثم ثورة الجلاليب. ولكن يبقى سؤال: لماذا تحركت الأطراف ولم يحرك المركز ساكناً؟
من المعلوم أن الطبقة الوسطى المصرية هي من تقطن المراكز الحيوية للبلاد، وهي من حركت مواجهات ثورة يناير الأولى وكانت شرارتها ورافعتها السياسية. تلك الطبقة المتوسطة التي تحظى بتعليم عالٍ نسبياً، كانت تقود حراك يناير بمطالب اقتصادية ومعها مطالب سياسية، إلا أنها غائبة تماماً عن المشهد في السنوات المعدودة الماضية. إذ تم إنهاك تلك الطبقة تماماً بعد استهدافها المباشر من قبل السلطات المصرية على عدة مستويات. فعلى الصعيد الأمني، تم تجريف تلك الطبقة من قوتها السياسية ومحركيها الشبان بالقتل والسجن والإرهاب القانوني، ليهاجر الكثير منها إلى الخارج ويطبق البقية الصمت حفاظاً على حياتهم. واقتصادياً، تم إرهاق تلك الطبقة بالكثير من الأعباء المادية وتدهورت حالتها الاقتصادية حتى اقتربت من الطبقات الفقيرة لولا بعض المدخرات القديمة أو الأصول. لتنشغل وتنزوي تلك الطبقة بكاملها، بمن في ذلك سياسيوها، عن المشهد السياسي والاشتباك معه إلا باليأس والإحباط وعدم تصديق أي أمل في التغيير. إذ لطالما آمنت تلك الطبقة أنها المحرك الرئيسي لأي تغيير سياسي محتمل في البلاد. وهي محقة في ذلك الإيمان لأن محاولة التغيير الحقيقية الوحيدة التي شهدها التاريخ المصري الحديث وقعت على يدها. لكن ابتعادها عن المشهد السياسي والاجتماعي صوّر لها أن حالة الإحباط واليأس من أي تغيير، وأن الشعور بالإنهاك وخوار القوى هو حالة عامة تسود البلاد. وبنفس الفهم والتعاطي مع الوضع السياسي، اطمأنت الدولة كثيراً للوضع القائم، خاصة أن العمود الفقري لجماعة الإخوان المسلمين ينتمي لتلك الطبقة التي تم استهدافها بنجاح.
ماذا عن الفقراء والمهمشين؟ لماذا انتفضوا؟
للإجابة عن هذا التساؤل، فلنأخذ قرى جنوب الجيزة التي يسكنها عدة ملايين كمثال، تعمل تلك القرى في 3 صناعات حصراً، وهي صناعة الطوب الطفلي الأحمر وتلك القرى هي المورد الرئيسي لأكثر من 90٪ من احتياج السوق المحلية، ويجب التنويه بأن الحكومة أغلقت الكثير من تلك المصانع بحجة بنائها على أراض مخالفة وأيضاً استبدلت الحكومة مشاريعها القومية للطوب الطفلي بالطوب الأسمنتي مما أوقف تلك الصناعة تماماً.
الشريحة الثانية من سكان قرى المحافظة تعمل في مهن المعمار وهم الحدادون والنقاشون وغيرها من المهن المرتبطة بالمعمار وكلهم بلا استثناء تأثروا بشدة من التبعات الاقتصادية لجائحة كورونا ثم بقرار الحكومة وقف البناء لمدة ستة أشهر، مما أجلس هؤلاء في البيوت تماماً دون مصدر دخل أو دعم اقتصادي.
المهنة الثالثة التي يشغلها أبناء القرى هي العمل في المحاجر التي أغلقتها الحكومة المصرية وتسلم إدارتها الجيش والذي يملك عمالته من الجنود المكلفين بالخدمة الإجبارية.
هذا فقط قطاع صغير ممن خرجوا في المظاهرات، شباب يمر بأسوأ أزمة منذ عقود لا يرى له مستقبلاً ولا يرى نوراً في نهاية النفق، فكانت المظاهرات تعبيرا أصيلاً عن رفض تلك السياسات وتتوجه مباشرة لرأس الدولة، لأنه هو من أقر مركزيته وتمحور الأمور والسياسات كلها حوله.
من يحرك الناس؟
يجب أن نعترف بأن إعلام المعارضة المصرية بالخارج، مثل قناة مكملين والشرق، يتمتع بثقة وشعبية كبيرة عند هذا القطاع من المصريين. هذا القطاع من المصريين لا يمتلك باقات إنترنت ضخمة ليقضي وقته على الفيسبوك وتويتر ولا هو يمتلك رفاهية قضاء 4-5 ساعات في تصفح الإنترنت يومياً. وغالبية منازلهم لم يصل إليها الـwifi بعد، لكن كل المنازل بها تلفاز وطبق استقبال فضائي يتيح لهم كل القنوات الفضائية. ليكونوا أمام نوعين من الإعلام؛ نوع يتحدث طول الوقت وبإلحاح عن الإنجازات والإيجابيات وعظمة الجيش وحكمة الرئيس والمعركة والحرب، ونوع آخر يتحدث عن همومهم، هموم البسطاء ومتاعبهم والسياسات التي أرهقت كاهلهم، ويلعب على هذا الوتر طول الوقت. تحول الناس بشكل عام، وتلك الطبقات الفقيرة والمهمشة، إلى تلك القنوات وبكثافة كبيرة، وأصبحت تمثل إزعاجاً كبيراً للنظام. لكن الغريب أن الطبقة المتوسطة ليست الجمهور الأساسي لتلك القنوات ولا تشاهدها بنفس الكثافة. جمهور الطبقة المتوسطة، وإن تدهور اقتصادياً، إلا أنه جمهور ينتمي إلى عالم الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي بعدما هاجر عالم الفضائيات التلفزيونية ولم يعد يدري عن تأثيرها شيئاً. من هنا ينبع تعجب المهتمين بالسياسة من الطبقة المتوسطة من شهرة مذيعي قنوات المعارضة بين البسطاء فتجد فلاحاً يعرف المذيع محمد ناصر تمام المعرفة ويردد مقولاته وحججه، ونجاراً تطرب أذناه لمقدمات معتز مطر ويتابع برنامجه أولاً بأول.
هؤلاء المذيعون وغيرهم كان لهم أثر كبير في هذا الحراك المستمر، ليس الأثر المؤسس بالطبع فالمنشأ للحراك بالأساس هو أوجاع الناس الاقتصادية، التي ولأول مرة تشمل كل مناحي الحياة من مواصلات وتعليم وصحة وطعام وشراب وكهرباء ومياه، وبتغطيتها الحية والمستمرة حافظت قنوات المعارضة على ما يسميه الثوريون الزخم الثوري وانتقال عدوى المظاهرات، وأكدت أن النار لا تزال تحت الرماد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.