لا طروادة ولا ألف طروادة.. الشعب المصري هو الأسطورة

عدد القراءات
889
عربي بوست
تم النشر: 2020/09/26 الساعة 13:46 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/09/26 الساعة 13:47 بتوقيت غرينتش
اشتباكات كوبري قصر النيل في ثورة 25 يناير

لنكن واقعيين، من منا لا تحدثه نفسه بالعظمة، ومن من أبناء جيلي -على الأقل- لم يجرب فوطة سوبرمان، ومن لم ير نفسه عنترة في الشجاعة وقيس في الهيام، لطالما ارتبطنا بأفكار العظمة والمجد، وكما قال الفيلسوف الفرنسي ديكارت "إن السعي نحو الكمال دليل على وجود كمال متناه" ومقولته هذه تعني أننا مفطرون على الرغبة في الوصول للأشياء العظيمة من خلال معايشتها، إما مشاهدتها أو السماع عنها أو قراءتها.

فلنتذكر كيف همّ الدون كيشوت بمحاربة الفرسان الأشرار صانعاً من نفسه أسطورة تتداولها الأجيال، ورغم بدنه النحيل وحصانه الهزيل إلا أن ما قرأه عن عظمة الأبطال حمله على المضي قدماً نحو المجد. وكان ما كان من قصته.

نحن مفطرون دون أدنى شك على التطلع للمجد، إن ما يحرك قلمي هذا غير مشاعر تتضارب وأحاسيس ملت القاع وأبت إلا أن تتفجر ينابيع من الحروف والكلمات؛ رغبة في المجد، وهذا لا يعني أنها مقدمة على تلكم المشاعر والأحاسيس ولكنها متضمنة للكتابة، إني أطمح أن يسجل اسمي في لائحة للأدباء والكتاب تنشر على مستوى العالم، ولمَ لا أجعل اسمي مرادفاً للفكر؛ للتاريخ الإنساني؛ ألست تحلم أنت كذلك بأن يكون لك مكان ضمن المفكرين والأدباء وصناع التاريخ؟

لست منجماً ولكنني موقن أنك تفعل. إن هذه الرغبة الجامحة في أن نصبح أفضل، وفي أن نتميز عن الآخرين هي التي تميزنا عن باقي مكونات الكون، إن الوعي بالوجود هو الذي يتشبث به المؤمنون بالخلق ويحار فيه القائلون بالعدم وبالصدفة.

إننا واعون بأنفسنا ومدركون للملكات التي حبانا بها الله تعالى، وهذا الإدراك بذواتنا ما يحرك تلك الرغبة الجامحة في الترقي نحو الأفضل، طبعاً بالنسبة لذواتنا كأساس، وبالنسبة لجماعتنا (أسرة/قبيلة/أمة…) كجزء لا يتجزأ من كياننا.

بحثاً عن العظمة ولو بالمصائب

نحن الآن في مدينة إفيس الإغريقية في القرن الرابع قبل الميلاد، وذات ليلة تستفيق المدينة على حريق ضخم يلتهم جدران معبد إفيس العظيم، أحد عجائب الدنيا، المعبد الذي شاركت الآلهة في بنائه حسب الميثولوجيا الإغريقية واستمر العمل فيه زهاء العقدين؛ ها هو ذا يحترق فجأة دون سابق إنذار، فماذا حدث يا ترى؟

رجل يدعى "هيروسترات" يمارس كل أنواع المهن، كما يراهن ويقامر من أجل الربح، هذا الرجل يتسلل خفية ويختبئ داخل المعبد، وعند حلول الظلام يفعل فعلته، يقوم بإحراق المعبد، لماذا تفعل ذلك يا هيروسترات؟

فعل ذلك ليحقق الشهرة ولحفر اسمه في التاريخ، فحكم عليه بالإعدام، ولكن الفساد لا يسمح للعدالة بأن تأخذ مجراها، وبحيل غاية في البراعة يشتري الحارس بقطع نقدية، وبواسطة الحارس يضمن لقاء مقامر معروف فيعقد معه صفقة تكسبه المال؛ وشيئاً فشيئاً يبدأ في عقد صفقات مع الكل من الحارس إلى الأميرة إلى الحاكم وهكذا.

في نهاية مسرحية "انسوا هيروسترات" للكاتب الروسي غريغورى غورين يموت البطل ولكنه يخلد اسمه غصباً عن المدينة، والحُكم الذي أقر بنسيانه لم يلبث أن تبخر ونسي، وظل هيروسترات على كل لسان؛ رجل بحث عن المجد والخلود بإحراق المعبد، كالذي يحب أن يذكر ولو باللعن.

وهكذا حال البعض يبحثون عن مجد ولو على حساب ذواتهم ومبادئهم ودينهم وإنسانيتهم، يبيعون الذي فوقهم وتحت أرجلهم من أجل المجد والعظمة، ويغامرون بالعدالة من أجل البقاء في الحكم كحاكم إفيس مدينة هيروسترات، ومن هؤلاء الناس "السيسي".

فضل هذا الرجل أن يبيع كل ما بين يديه ويقدمه للآخرين على حساب بلده مصر، وفضل أن يذكر ولو بالسوء والويل، وهدم الدور والمساجد ونكل بالناس في السجون وعذبهم أشد العذاب؛ ونام قرير العين في قصوره والمصري مرمي في الشارع يأكل من فتات الأرض، ويلتحف السماء ودثاره اللاشيء؛ وهكذا انقلبت حال المصريين من سيئ لأسوأ، وعوض أن يفرحوا بثورتهم جاء فحرم عليهم معيشتهم وأذاقهم الويلات حتى أن أشد مؤيديه انقلبوا عليه وندموا على اليوم الذي دافعوا فيه عنه وعن شلته.

سيذكر التاريخ هيروسترات بكونه أحرق معبد إفيس، وسيذكر التاريخ السيسي ولكن كرجل خرب مصر وأهان أهلها وباع أرضها وجزرها وضحى بغازها ومائها ورهن مستقبل أبنائها للبنك الدولي والشركات الأجنبية. بهذا فقط سيذكره وسيذكر كل مستبد وكل طاغية.

شعب عظيم

مازلت مصراً أتم الإصرار على كون المصريين خذلوا ثورتهم وسمحوا للعسكر بالانقلاب عليهم وعلى أصواتهم، لم يتعلموا من التاريخ، ولكني مع ذلك أرفع القبعة لهذا الشعب العظيم وأقول: "هل استفاق هذا الشعب العظيم من سباته الذي طال؟".

ورغم أني لا أتحمس للثورات وخاصة بعد الربيع العربي والانقلاب العسكري في مصر، ولكني لا أخفي إعجابي بهذا الشعب العظيم، كوني درست التاريخ أعي جيداً عظمة مصر ودورها التاريخي في تقدم البشرية، وكونها ركيزة أساس في المنظومة الإسلامية، واليوم أيقنت جيداً لماذا مصر بهذه الأهمية، لماذا هذا الشعب وهذا البلد بتلك العظمة، فهمت لماذا اختار وادي النيل أن يصب أو بالأحرى يموت على تراب هذا البلد وهذه الأرض المباركة، أدركت سر سقوط المغول في معركة عين جالوت 1260 ميلادي، عرفت السر.

بعد أن خرج المصريون مرتين ضد النظام البائس، آخرها ما شهدناه البارحة في جمعة 25 سبتمبر، أقول بملء الفم "الشعب المصري أعظم شعب في العالم". هذا الشعب وهذه الثقافة وهذه الأرض التي أخرجت لنا صلاح الدين والظاهر بيبرس وأحمد عرابي والطهطاوي ورشيد رضا وعبدالرحمن بدوي وطه حسين وفؤاد زكريا وأحمد أمين والقرضاوي ومحمد الغزالي وآخرين لا حصر لهم من العظماء والأجلاء. هذه البلاد وهذا الشعب يصنع التاريخ؛ يقلبه كيفما شاء ويكتب بقلم الحرية وبدماء الشهداء أجمل ملاحم الدنيا فأي طروادة هي تقارن بما يفعله هذا الشعب. لا طروادة ولا ألف طروادة.

الشعب المصري يقدم دروساً مجانية للكل، دروس عن بعد، شاهد بعينك عظمة الإنسان؛ انظر كيف ينتفض ضد الظلم ويقدم حياته مقابل حريته، تعال اقترب وتعلم كيف تربى الكرامة وتدجن الغطرسة. هنا حضارة التي أبت إلا أن تعلم البشرية مرة أخرى، هذه المرة لا تحنيط الميت بل تحنيط الاستبداد السياسي.

لا تحزب، لا سياسة، مصر أولاً

المصريون اليوم سواء نجحت ثورتهم ومظاهراتهم في إسقاط النظام القائم على الانتقام والخطف والاغتيال أم لم تنجح -ونحن على يقين بنجاحها طال الزمن أو قصر فالثورة لم ولن تنتهي-، وسواءً عليهم استثمروا في الثروة أم لم يفعلوا، لا يهم؛ فهذا الشعب العظيم قادر على تصحيح مساره وقتما يشاء ويحب، نعم هذا ما استنتجته من خلال ما حدث، فقط على المصري أن يؤمن بقدرته على تغيير واقعه وأن يدرك قوته الحقيقة، لأن النظام القائم ونظام مبارك -مع فروقات بسيطة لظروف- كلاهما راهن على تحقير المصري  وصناعة ظروف اقتصادية تنسي المصري حقيقته وهذا دأب المستبدين على مر التاريخ.

أيها المصري أقول لك ما قاله الفرنسي إيتيان دو لا بويسي في مقالته "العبودية المختارة":

"يبقى القول بشأن هذا الطاغية وحده، فهو لا يحتاج للمحاربة، وليس ما يدعو للقضاء عليه، فهو مقضي عليه تلقائيًا، بشرط ألا يَقبل البلد أن يكون مستعبَداً له، ليس المقصود انتزاع أي شيء منه بل عدم منحه أي شيء، هي إذا الشعوب التي تستسلم بنفسها لسوء المعاملة، لأنها إذا تخلّت عن خدمته تصبح متحررة".

فجر جديد يناديكم، اتركوا الخلاف جانباً؛ أنتم اليوم أمام أسوأ نظام في العالم؛ فإما أن تقتلعوه من جذوره بوحدتكم وإما أن تتفرقوا وتذهب ريحكم ويبقى هو جاثماً فوق أجسادكم.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علي الرباج
كاتب مغربي
كاتب مغربي
تحميل المزيد