ليس هناك ما هو أخطر على مجال حقوق الإنسان وحقوق الضحايا من أن يقوم طرفٌ سياسيٌّ باستخدام قضاياهم من أجل مكاسب ومطامع سياسية آنية، فحينها تتحول حقوق الضحايا إلى مادة تستخدم في المحافل السياسية كأوراق ضغط من أجل المزايدة والمنافسة حول المكاسب السياسية تحت غطاء حقوق الإنسان.
والأصل أن ينفصل الحقوقي عن السياسي موضوعاً وهدفاً ومنطلقاً، فالمجال الحقوقي ليس "محطةً" مؤقتة في سياق التحالفات السياسية الآنية، وليس أداة للظهور وتحقيق "الحضور" المحلي أو الدولي نكاية في الغرماء على حساب الضحايا، بل هدفه كرامة الإنسان ومصلحة الضحايا دون تفريق وعلى طول الخط، ولا يعني الحقوقي من اللعبة السياسية إلا حفاظ الدولة -وأياً كانت حكومتها- على الحقوق الأساسية للإنسان، وليس السؤال الحقوقي سؤال "مَن" يحكم، ولا سؤال "مَن انقلب على من"، بل سؤال "كيف" يسير الحكم؟
ومع هذا، فالواقع أن مصر شهدت، ولا تزال، نماذج ومراحل سيئة من العمل الحقوقي، حيث تعتبر الفترة التي تلت الثالث من يوليو 2013 واحدة ضمن أصعب الفترات التي مرّت على المجتمع الحقوقي المصري منذ اعتلى مشهد الانتماءات السياسية على الانتماءات الحقوقية، واتخذت العديد من المنظمات التي كانت ملء السمع والبصر في هذا التوقيت خطوة إلى الخلف غامضة بصرها عن الانتهاكات التي تمت من قبل سلطة الانقلاب وقتها بحق "مؤيدي الشرعية"، أو كما كان يطلق عليهم، بل إنني أذكر أن ممثل إحدى المنظمات قال لي شخصياً إنهم لن يوافقوا على أي عمل من أعمال التعريف وفضح الانتهاكات التي تمت قبل فضّ الاعتصام أمام مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة.
الشاهد في هذا الأمر، أنني اقتنعت وقتها بأن العديد من النشطاء والحقوقيين والمنظمات الحقوقية قد أصابها ما أصاب باقي المجتمع من شرخ بسبب انتماءاتهم السياسية أو خلفياتهم الفكرية المخالفة لخلفية جماعة الإخوان وأعوانها.. وأنهم قبلوا ولو "مؤقتاً" بالسكوت على ما تم من جرائم، واتخذوا خطوة للوراء بعد أن وصلتهم رسائل من النظام الانقلابي، أو المجموعة التي شاركت في المشهد المدني الزائف الذي استخدمه نظام السيسي للإيحاء بأن هناك عدالةً انتقالية، واحتراماً للحريات العامة، ووجوداً للمجتمع المدني، وأن هناك أشخاصاً ممثلين للمجتمع المدني سيكونون في دوائر اتخاذ القرار، في نظام 3 يوليو، وغيرها من الأحلام التي ما لبثوا أن أفاقوا منها على وقع أقدام أول ضابط داهم مكاتبهم، وأول مواجهة مع النظام العسكري الجديد، وتشريعاته القمعية.
ورغم مرارة المرحلة، استطاع المجتمع المدني الحقوقي أن يجمع شتاته، وأن يعود مع أواخر عام 2014، ليتسق مع مبادئ حقوق الإنسان ومعاييرها مرّة أخرى، ويلفظ مَن به من "جونجوز" (تعبير يطلق على الحقوقيين والمنظمات الحقوقية التي تنفذ أجندة الأنظمة القمعية)، ويبدأ في مرحلة جديدة من كسب ثقة الضحايا، على اختلاف أيديولوجياتهم وانتماءاتهم السياسية. غير أن المشهد تغير الآن، وأصبح من كانوا بالأمس ضحايا الانحيازات السياسية للعمل الحقوقي أكثر سعياً لاستخدامه في المشهد السياسي بمنطق "وداوني بالتي كانت هي الداء".. ولا أدل علي ذلك من أن تقوم جماعه الإخوان برفع قضايا أمام المحافل الدولية باسم حزب الحرية والعدالة -الذراع السياسي للجماعة- في خطوة لا تفسير لها سوى توظيف الملف الحقوقي من أجل الحضور الدولي واللهث لمكاسب سياسية أقرب للأماني الغادرة.. توظيف لا يعتبر بالفشل سابقاً، ولا طائل منه ولا اعتبار به إلا خسارة الحقوق وخسارة الضحايا أنفسهم.
أذكر أنه في الفترة التي تلت الانقلاب العسكري وحتى الآن لم يصل إلى علمنا أي تحرك دولي ناجح قامت به الجماعة -أو حزب الحرية والعدالة- في الملف الحقوقي أو ملف الملاحقة الجنائية غير "العنتريات" التي ظهرت في بعض القنوات الإذاعية، بل إن العديد من ملفات الملاحقة الجنائية شابها الفشل بسبب عدم المهنية، وعدم وجود رؤية أو استراتيجية واضحة للعمل، ودخول العديد من الشخصيات والجهات في سباق من أجل كسب "التمويل" من الجماعة أو من المقربين منها، تحت زعم "ملاحقة مجرمي الانقلاب"، على حساب المئات من الضحايا.
فمنذ عام 2014، اعتادت الجماعة رفع شكاواها أمام اللجنة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب، وهي جهة تابعة للاتحاد الإفريقي، للمطالبة بوقف تنفيذ أحكام الإعدام الصادرة بحق ضحايا أبرياء، وهو جهد مشكور يأتي في ظل محاولة إيقاف حكم بالإعدام بحق أشخاص لم ينالوا حقوقهم في المحاكمة العادلة، لكن غير المفهوم، أن يصر الساعين لهذا على رفع الدعوى باسم حزب الحرية والعدالة، مع أن هؤلاء المعتقلين -وكما نعرف- لا هم أعضاء في جماعة الإخوان، ولا هم أعضاء في حزب الحرية والعدالة، فلماذا إذن ترفع الدعوى لصالحهم باسم حزب غير موجود؟ وحتى لو كانوا أعضاء في الحزب.. لماذا يقوم الحزب -وهو منحل رسمياً ومفتقر لمقر رسمي في البلد التي تجري بها الانتهاكات- برفع دعوى بأسماء الضحايا أمام جهة حقوقية؟
الغريب في الأمر أن الجهة التي قامت برفع الدعوى هي أحد مكاتب المحاماة في لندن -والذي عرف في أوساط الدوائر الحقوقية القريبة من الجماعة بأنه حصل على مبالغ بمئات الآلاف من الدولارات للقيام برفع قضايا على نظام السيسي وأعوانه- لكن الغريب أن المكتب المعنيّ لم يرفع تلك الدعاوى والقضايا باسمه، بل باسم حزب الحرية والعدالة، فلماذا الدفع باسم حزب لا يوجد له أي واقع في الحياة السياسية سواء بداخل مصر أو في المهجر؟ بل لا يوجد له ذكر في أي تحرك سياسي تم منذ الانقلاب العسكري، خاصة أن الشأن شأنٌ حقوقيٌّ خالص وأمام جهة حقوقية خالصة، لا علاقة لها بالوضع السياسي أو بالانقلاب، جهةٌ تنظر في انتهاك معايير حقوقية واضحة؟
لا توجد إجابة للأسف، سوى أن هذا مرتبط بتوجيه العمل الحقوقي لمكسب سياسي لحزب سياسي لا وجود له، حتى ولو كان الثمن هو حقوق أساسية لضحايا محكومٌ عليهم بالإعدام، وبعضهم شنقوا فعلاً، والآخرون ينتظرون دورهم في تنفيذ الحكم.
المستغرب أيضاً أن القضايا التي رفعت أمام اللجنة الإفريقية تعتمد بشكل كبير في تقديم أدلتها على العمل الذي تقوم به منظمات حقوق الإنسان، وفي مقدمتها هيومان رايتس ووتش، والعفو الدولية، وتستخدمها الجماعة كدلائل على انتهاكات حقوق الإنسان، وكمستندات إثبات. الأمر الذي يثير علامات الاستفهام والتعجب من عدم مقدرة الجماعة -بكل ما فيها من لجان محامين ونشطاء- من تقديم دلائل ذاتية لدعم ملفات القضايا التي يرفعونها. ولا تنحصر هذه المفارقة على الدعاوى المرفوعة أمام اللجنة الإفريقية، بل على سائر القضايا التي تم رفعها تحت الولاية القضائية العالمية، والقضايا الفردية في عدد من البلدان الأوروبية، حيث تكلف الجماعة مكاتب محاماة في باريس ولندن لرفع القضايا، ثم تبدأ رحلة الحج إلى حي الفاتح في مدينة إسطنبول للحصول على المستندات والبيانات والمعلومات.
مثال علي ذلك ما يخص قضايا المعتقلين الصادر في حقهم أحكام بالإعدام، صحيح أن جماعة الإخوان المسلمين ليست الجهة التي قامت بالحكم عليهم وإعدامهم إلا أننا يجب ان نسأل عن الخطوات التي قامت بها الجماعة من أجل تنفيذ أحكام الإعدام باعتبارها جماعة سياسية في المقام الأول و ليست حقوقية، كان يجب عليها أن يكون لديها من الاذرع ومن جبهات الاتصال والتواصل ما تستطيع من خلاله ان تضغط علي النظام من أجل إيقاف أحكام الإعدام أو ردود الأفعال القوية التي تساعد علي إيصال الرسائل لا ان تشرعن أحكام الإعدام ضدهم برفع بلاغات و شكاوي بطرق فاشلة فتكون النتيجة رفض الشكوى و شرعنه حكم بالإعدام فيصير حكم الإعدام حكمين و ليست حكم واحد كما حدث في الشكوى التي تقدم بها حزب الحرية و العدالة ممثلا عن 19 من المعتقلين المحكوم عليهم بالإعدام في عدد من القضايا بعضهم اعدم بالفعل والبعض الاخر في انتظار المشنقة رفضتها اللجنة الافريقية لأنها مرفوعة من كيان غير قانوني.
وقد تطورت تلك الظاهرة فيما بعد انشقاق الجماعة بسبب قيام كل شقٍّ من أطراف الصراع الداخلي باتخاذ خطوات في الملف الحقوقي رغبة في كسب شرعية داخل التنظيم، و/أو إيصال رسائل إلى أهالي المعتقلين والقتلى في مصر فحواها أنهم أفضل من الجهة الأخرى في العمل على ملف انتهاكات المعتقلين. ولا أدل على ذلك مما تم في قضية وفاة الدكتور محمد مرسي، فرغم التفاف المنظمات الحقوقية الدولية والمحلية حول القضية -لعدالتها الواضحة- أبى تنظيما الجماعة إلا مواصلة الشقاق، والتقدم بتوكيلات لمكتبين للمحاماة أحدهما في "لندن" والآخر في "باريس"، وتحضير ملفين للقضية مقدمين إلى نفس الجهة "مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة"، ونفس الشخص المقررة الخاصة المعنية بالقتل خارج إطار القانون، ليطلبا منها نفس الطلب، وأنهما موكلين من الأسرة، فيما قامت الأسرة بتوكيل مكتب محاماة ثالث في "لندن" أيضاً في محاولة للنجاة بالقضية وتحريرها من مزايدات التنظيم داخلياً وخارجياً.
مرت سبع سنوات عجاف على واقعة 3 يوليو 2013، ولا يزال التنظيمان داخل جماعة الإخوان عاجزين عن فصل الحقوقي عن السياسي، لا يعتبران في هذا بكم الخسائر الماضية والحاضرة بسبب الزج بما يسمى حزب الحرية والعدالة في رفع قضايا حقوقية أمام الجهات الدولية، هل آن الأوان لتتعلم الجماعة أن عليها أن تتعلم الخبز، أو أن تعطي "العيش لخبازه"؟ أليس أولى بتلك المئات من الآلاف أن تصرف وتوجه لتقوية شبكات أهالي وأسر الضحايا؟ أليس الأيتام والأرامل أولى بالدعم في مصر وخارجها؟ أليس الأولى بالحديث عن الهموم والانتهاكات هم الضحايا أنفسهم؟ أم ستبقى الجماعة تصر على ربط ألسنتهم والحديث باسمهم في خطوات وكلمات ظاهرها الدعم وباطنها تهديد مصالحهم وحيواتهم؟ يحتاج الضحايا قبل مكاتب "لندن" و"باريس" الباهظة، كيانات حقوقية محلية ومستقلة، وشبكات دعم وعمل ميداني يساعدهم في السعي وفي حماية مصالحهم دون توظيف سياسي ولا وصاية على أحيائهم وأمواتهم، ولعل في رد اللجنة الإفريقية على ملف الدعوى عبرة لمن يعتبر!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.