الأفعى تعض ذيلها إن لم تجد ما تأكله.. لماذا يتعاون أمراء الطوائف في لبنان مع ماكرون؟

عربي بوست
تم النشر: 2020/09/24 الساعة 10:44 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/09/24 الساعة 10:46 بتوقيت غرينتش
reuters

لا بد من وضع المبادرة الفرنسية الحالية لحل الأزمة السياسية والاجتماعية المتفجرة بلبنان في إطارها الصحيح، بعد أن أصبحت أسيرة تخيلات المحللين من رجال الصحافة والإعلام، كلٌّ يغني على طائفته.

فمنهم من يحلل كأنه في حفلة عتابا وميجانا، ومنهم من يشرح ويفند كأنه في مهرجان زجل، حتى أصابت تلك العدوى الصحافة الفرنسية نفسها، والدليل على ذلك أن الرئيس الفرنسي ماكرون وبّخ الصحفي في جريدة لوفيغارو الفرنسية، جورج مالبرونو، على ترويجه أخباراً كاذبة على علاقة بالشأن اللبناني.

لكن بعيداً عن الهرج والمرج في وسائل الإعلام، وحقيقة الأمر أن المسألة بسيطة وواضحة، وأول الغيث هو أن نسأل لماذا تجاوب أمراء الطوائف بتلك السرعة واللين مع مبادرة الرئيس ماكرون؟

تقول الأسطورة إن الأفعى تعض ذيلها إن لم تجد ما تعضه؛ لذلك تعامل الأمراء بمرونة فائقة مع مبادرة الرئيس ماكرون، لكن جل ما فعلوه هو عبارة عن تقديم تنازلات شكلية لا تغني ولا تسمن من جوع. أي أن الأفعى عضت ذيلها لتحمي رأسها، لكن ليس من ساطور الرئيس الفرنسي لأنه بالأساس أتى دون أن يحمل معه حتى شفرة صغيرة، ولكن من سلاح الطوائف نفسها.

يعلم ماكرون جيداً أن كل مَن يتعاطى مع ساسة لبنان سيغرق حتماً في رمالهم المتحركة. وهو على يقين من أن الإصلاح في لبنان هو كلمات أغنية يستحيل على أي مطرب أو سياسي أن يغنيها. 

سمع الرجل القادم من باريس بالتأكيد الكثير عن عظمة الفينيقيين، ورغم ذلك لم يشكلوا دولة واحدة، بل دولة/مدينة متخاصمة، حتى بلغنا عهد الدولة/الطائفة. أي تحول الشقاق بعد أكثر من ألف سنة على أرض لبنان من جغرافي إلى ديمغرافي. وهذا ليس بجديد، ففي زمان ما قبل الميلاد كان يقطن وادي سرغايا، الواقع على الحدود اللبنانية السورية، أناس متمردون على  أية سلطة حاكمة، ويقومون بعمليات التهريب، وما زالت الحالة نفسها في وادي سرغايا حتى يومنا هذا، كأن صوتاً ما يخرج من أعماق الأرض ليقول إن من يسكن الرقعة اللبنانية من المستحيل أن يتغير.

من هنا نرى أن حل الدولة المدنية الذي يتم تسويقه حالياً سيبقى مجرد شعار، لأن أي حل يستمد شرعيته من توازنات طائفية لن يتولّد عنه إلا مواطنة مشوّهة. أما عن الإصلاح فأقصى ما يطمح إليه اللبناني هو أن تتوقف الحكومات "الإصلاحية" المُصمَّمة على عين حكام الطوائف عن التواطؤ مع المصارف التي يملكها حكام الطوائف أنفسهم، وأن تتوقف تلك الحكومة عن التغطية والتستر على عمليات تهريب الأموال إلى الخارج من قبل المودعين الكبار، وأن يوقع رئيس الجمهورية قرار التشكيلات القضائية، حتى وإن لم تُرضِ محاسيبه.

لذلك، نتمنى على من يتناول الوضع اللبناني بتحليلاته أن يكون موضوعياً، لا أن يتماهى مع روايات الأبواق الإعلامية التابعة لطائفته أو مصلحته. الرئيس ماكرون لا يريد فرض انتداب جديد على لبنان، ولم يضع لائحة بأسماء وزراء ولا كتب البيان الوزاري للحكومة القادمة، لأن هذا ليس من أهدافه. ومن جديد ندعو الجميع إلى التعقل ومقاربة الأمور بصدق، لأن الشعب اللبناني يتألم بالفعل، وما يندمل جرح من جراحه إلا ويتبعه جرح جديد. ولا تلوموا على الشعب اللبناني، لأن الغريق يتعلق بأية قشة، فلا تضلّلوه بأن فرنسا أتت لإنقاذه أو لفرض انتدابها عليه. ومن جديد قولوا له إن المبادرة الفرنسية والحماس المستجد تجاه لبنان من طرف الرئيس ماكرون هدفه الحقيقي ليس ما أعلن عنه، بل هو أمر آخر، والأمر الآخر هو أن الرئيس ماكرون استغلّ كارثة مرفأ بيروت ليدخل من الباب الواسع إلى الصراع المحتدم بين دول الحوض الشرقي للبحر المتوسط، حول ملف الطاقة، حيث إن موقع لبنان بالقرب من قبرص واليونان وتركيا يشكل منصة جيدة للفرنسيين للانخراط الفعال في هذا الصراع، والدليل أنه بعد انفجار المرفأ مباشرة وصلت مدمرات الأسطول الفرنسي قبل أية سفينة إنقاذ، وهذا تفسيره أن هناك رغبة فرنسية في استعراض عضلاتها، ليس أمام ضحايا الانفجار، بل على محاذاة منطقة التوتر في شرق المتوسط.
لذلك، يجب أن نتساءل: هل ستُورّط مبادرة الرئيس ماكرون لبنان في صراع إقليمي في شرق المتوسط؟

هذا ما يجب الإجابة عنه، وما الزخم الفرنسي الظاهر سوى سراب يستغل  فترة القيلولة الناتجة عن اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، حيث   لا تزعجهم المبادرة الفرنسية، لأنها نقلت مؤقتاً التناطح الأمريكي الإيراني   إلى حديقة خلفية تُناسب الطرفين الإيراني والأمريكي، في فترة الوقت الضائع، ولا تزعج هذه المبادرة الروس. لكن الدب الروسي الذي أصبح يستحم في مياه المتوسط لن يرضى أبداً أن ينعم لبنان بالاستقرار قبل سوريا.

وفي الختام، نقول إنه من المحتمل أن ينجح الرئيس ماكرون في استغلال موقع لبنان الجغرافي لتحسين حضوره العسكري في شرق المتوسط، لكن من المؤكد أيضاً أن حماسه وحبه للبنان هو مجرد مناورة، وستبقى مشاكل لبنان دون أي حل.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

ناصر الحسيني
كاتب صحفي لبناني مقيم في إفريقيا
مواليد 1958 بلبنان، حائز على ماجستير في الهندسة المدنية من جامعة الصداقة في موسكو سنة 1983 ودبلوم دراسات عليا سنة 1990. مهندس استشاري لدى منظمة الأمم المتحدة للتنمية UNDP، عملت في جريدة الديار قبل عام 2000، وكذلك لي كتابات ومساهمات في جريدة النهار وجريدة البلد، مقيم في إفريقيا منذ 2010 بشكل شبه دائم في غينيا الاستوائية وغينيا بيساو.
تحميل المزيد