"ألقت قوات الأمن المصرية القبض على صانع المحتوى (يوتيوبر) أحمد حسن وزوجته زينب، بعد استدعاء النيابة لهما للتحقيق، بشأن بلاغات تتهم كلاً منهما بترهيب طفلتهما وتعريض حياتها للخطر، وذلك في مقطع فيديو نشره الزوجان على حسابهما في موقع يوتيوب". هكذا نُشر الخبر في مواقع إخبارية عديدة.
أوائل العام الجاري، وقبل أن يحتل فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) قائمة الأخبار لشهور أخرى قادمة، غنّى الشابان عمر كمال وحسن شاكوش (اسمه الحقيقي حسن منصور من مواليد 1987) أغنيتهما الشهيرة "بنت الجيران" أوائل فبراير (شباط) الماضي، فخطفا الأضواء في مصر والعالم العربي، وأصبحت الأغنية الجديدة "ترند" على وسائط الميديا الجديدة كاليوتيوب والساوند كلاود (تجاوز عدد مرات مشاهدتها وتشغيلها الملايين خلال أيام قليلة)، كما أشعلت مواقع التواصل الاجتماعي، وباتت الأغنية المفضلة لدى الجميع: طلاب المدارس والجامعات، سائقي "التوك توك" والميكروباصات، فضلاً عن قاعات الأفراح والمناسبات، وبين عشية وضحاها أصبح الشابان اللذان كانا عاطليْن عن العمل حتى وقت قريب، حديث المدينة العربية، تتهافت عليهما القنوات والفضائيات، وتطاردهما الحسناوات، خاصة بعد قرار وقفهما الذي أصدره "نقيب الموسيقيين" المطرب هاني شاكر، والهجوم الذي شنّه عليهما الموسيقار حلمي بكر، الذي اعتبر أن ما يقدمانه كارثة على "الفن والطرب"، حسب تعبيره، ولولا جائحة كورونا لكانت "بنت الجيران" وتوابعها معنا حتى اليوم.
بعد ذلك بأسابيع قليلة، ألقت الشرطة المصرية القبض على حنين حسام، المعروفة بفتاة "التيك توك"، لاتهامها بـ"خدش الحياء العام والاعتداء على مبادئ وقيم أُسرية في المجتمع المصري، وإنشاء وإدارة واستخدام مواقع التواصل الاجتماعي لتسهيل ارتكاب تلك الجريمة" هكذا. ومنذ ذلك الوقت اعتقلت الشرطة الشابة المراهقة منة عبدالعزيز (17 عاماً)، ومودة الأدهم (20 عاماً)، وبسنت محمد (19 عاماً)، واتهامهنّ جميعاً بتهمة "الترويج للفسوق وخدش الحياء العام"، واستغلال وسائل التواصل الاجتماعي من أجل القيام "بإيحاءات لإثارة الغرائز، بقصد جذب المشاهدين وجمع المال، ضاربات بعادات وتقاليد المجتمع عرض الحائط"، حسبما ورد في البلاغات المقدمة ضدهن.
وقبل شهور قليلة انتحرت الناشطة الشابة "سارة حجازي" (31 عاماً) في كندا، التي لجأت إليها هرباً من الملاحقات في مصر، فاشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي انقساماً واختلافاً حول موتها لأنها كانت تدافع عن حقوق المثليين. وما كادت عاصفة "سارة حجازي" تهدأ حتى اندلعت عاصفة جديدة حول التحرش الجنسي في مصر. وانتشرت خلال الأيام الماضية قصص وحكايات من ضحايا التحرش نساء ورجالاً، وذلك بعد أن كان الموضوع من "التابوهات" والموضوعات المحظورة في مصر.
لوهلة، قد لا يبدو أن ثمة رابطاً بين هذه الحوادث والأخبار والحكايات، ولكن بقليل من النظر والتأمل يتضح الخيط الناظم بينها، وهو أن مجتمعاتنا تمور وتتحول بشكل سريع، وذلك بغض النظر عن محتوى هذا التحول ومضمونه وأخلاقياته. وهي تحولات لا يستطيع أحد الإمساك بها أو إيقافها، حتى وإن كانت السلطات المحلية وكأنها أشبه بتيار جارف إن أوقفته في مكان سوف ينحت طريقه في مكان آخر.
كما أنه لا يجب اعتبار ما يجري الآن مجرد تحوّل جيلي أو ظرفي، وإنما على ما يبدو هو أعمق من ذلك بكثير، ويرتبط بمنظومة من القيم وعالم جديد من العلاقات لم تتضح معالمه الكاملة بعد. وكأنه خلق جديد يولد من رحم خلق قديم. وليس ثمة شك في أن الأمر عابر للحدود، ولا يقف عن بلد أو مجتمع معين. كما أن اللافت في الأمر هو أن هذه الظواهر عابرة للطبقات والتراتبية المجتمعية. فهي لا تقف عند طبقة معينة، بل تتقاطع ما بين الطبقات العليا والوسطى والفقيرة، وهو ما يثير التأمل أكثر.
وكعادتها، تتعاطى دوائر السلطة في بلداننا مع هذه الظواهر باعتبارها مسألة "أمنية" يجب وقفها ووأدها في مهدها. ويرى القائمون على هذه السلطة أن ما يفعله هؤلاء الشباب والشابات تهديد لمنظومة القيم، وخروج عن المألوف الذي يجب وقفه. وفي الحقيقة تخشى هذه الجهات أن تكون هذه الظواهر هي بداية لتمرد مجتمعي على سلطتها الأبوية، ما قد يُهدد بقاءها إذا استمرت في الظهور والتأثير. لذا فإن اعتقال السلطات المصرية لفتيات "التيك توك" ليس حلاً، كما أنه لن يردع بقية الشباب والشابات أن يحذوا حذوهن، بل على العكس، سوف تصبح هؤلاء الفتيات بطلات وضحايا حرية التعبير، كما أن وقف كمال وشاكوش عن الغناء لن يقضي على ظاهرة "أغاني المهرجانات" التي أطلقها حمو بيكا وفيجو الدخلاوي وإسلام ساسو قبل أكثر من عقد، وكان الجميع يهرب منها، سواء ازدراء واحتقاراً أو تجاهلاً.
أنتمي لجيل كانت تطرب أذنيه أغاني عبدالحليم وأم كلثوم وفايزة أحمد ونجاة الصغيرة وفيروز، كما تشكّل وعيه الفني مع موجة الأغاني الجديدة (آنذاك) ذات الإيقاع و"الرِّتْم" السريع، التي بدأها على حميدة بأغنيته الشهيرة "لولاكي"، وظهور مدرسة "حميد الشاعري" في الغناء السريع، والتي أطلقت نجوم الثمانينات والتسعينات أمثال عمرو دياب ومحمد فؤاد وسميرة سعيد ومصطفى قمر وهشام عباس ومحمد محيي وجورج وسّوف وحسن الأسمر ووائل كافوري ونوال الزغبي وراغب علامة، إلخ. فإن طلابي ينتمون الآن لجيل بيكو وشاكوش وساسو والدخلاوي. ولربما بعد عقد أو عقدين من الآن سيكون هؤلاء بالنسبة لهم نجوماً كلاسيكيين يُترحم على أغانيهم كما نفعل نحن الآن مع مطربي جيلنا!
وهكذا، بينما تنشغل المنطقة بصراعاتها الكبرى سياسياً واستراتيجياً وطائفياً ومذهبياً… إلخ، فإن مجتمعاتنا تمور بتحولات قيمية ومزاجية وسلوكية وأخلاقية، لا ندري متى وكيف وإلى أي المآلات سوف تأخذنا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.