أنا من فلسطينيي المهجر وسؤالي لكم أيها المطبعون الجدد: كيف ستواجهون الأجيال القادمة والعار فوق رؤوسكم؟

عربي بوست
تم النشر: 2020/09/18 الساعة 13:23 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/09/18 الساعة 15:12 بتوقيت غرينتش
متى يلتقي بن زايد ونتنياهو؟/ عربي بوست

لا أعرفُ شعور الفلسطينيّ الذي يُولد ويكبر في أرضه، ولا أتخيل حجم المحبة والامتنان الذي يغمر الفلسطينيين وهم يكبرون مشياً على هذه الأرض المباركة.. لكنّي أعرفُ حق المعرفة كيف يشعر الفلسطينيّ حين يُولد في الشتات، يؤذن والده مفطور القلب في أذنه: الله أكبر.. الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهدُ أنّ محمداً رسول الله. ثم يعلن فلسطينته، يُربيه على أنّه عائدٌ لفلسطين لا محالة، يُنشئه على أنّه دَينٌ للبلاد وأهلها وسيرده لها حين تطلبه. ولا أعرف كيف يرث الفلسطينيّ الصبرَ العظيم والجَلدَ المتين من أبويه فيحتمل كل هذا القهر والأسى وهو يكبر بقرب المحتل المغتصب لأرضه.. لكنّي أعرف من وخزة قلبي وغصّته هذه كيف يكبر الفلسطينيّ اللاجئ وفي قلبه حسرةً لا يعرف أين يُصرّفها، وكيف يرثُ الحنين والغضب من أبويه المنكسرين.

أتساءل: كيف يشعر من يصلي في المسجد الأقصى؟ كيف يتسع صدره لقلبه؟ كيف تثبت قدماه على الأرض فلا يطير من سروره؟ 

وأتفهم دمعة كلّ مقدسيّ على باب الأقصى كلّما دخله ليصلي، وأخجل من قهر كلّ مرابطٍ يصرخ في وجه العدو الصهيونيّ على باب الرحمة، ويتلوعُ قلبي ويتصدع أمام كلّ لوعات الفلسطينيين، فأتساءل حقاً: كيف حملوا العار؟ كيف قبلوا به وسارعوا إليه ثم عادوا لأهلهم يحملونه ويرقصون به؟ كيف صار الخائن يقفز فرحاً بين أهل بيته مُقراً بخيانته مفتخراً بأنه لم يقبل التطبيع فحسب بل هو من عرض الفكرة على المحتل؟ كيف احتملت ظهورهم هذا الحمل الشنيع الثقيل؟ 

كبرنا على أغاني العروبة وشعارات القوميّة العربيّة، نضجنا بتعاليم الإسلام ووصايا الرسول الكريم، غنينا في مدارسنا: "بلاد العربُ أوطاني / وكلُّ العرب إخواني" كيف صاروا خذلاني الآن؟

كنّا إذا سألنا أهلنا وكبارنا عن موعد العودة ويوم التحرير أجابونا: حين يتحد العرب. هنيئاً لهم، رحلوا قبل أن يتأكدوا مما تأكدنا نحن أحفادهم منه.

لا يقلقني التطبيع، ولا يسوؤني أن تنكشف الأوراق المخفية، فالمُطبّع لم يكن يوماً أميناً على القضية الفلسطينيّة، والخائن لم يكن حارساً للانتفاضة، وكذلك أذيال السلاطين لم يكونوا أحفادَ صلاح الدين المنتظرين، لكنّ ما يقلقني سؤالٌ واحد: كيف سنجيب أطفالنا حين يسألونا عن يوم العودة وأمل الحرية؟ كيف سأورثهم هذا القهر والأسى؟

كانت كلمةُ فلسطين كلمةً مقدسةً لا ينطقها الواحد منّا إلا في موضعٍ عالٍ مشرّفٍ، وكنّا إذا ما لعبنا لعبة الطفولة "وقعت الحرب بيننا وبين…" نرسم دائرة كبيرة بالطباشير على الأرض في وسطها نكتب كلمة "قف" ويجتمع الأصدقاء من حولنا لنقسّم الدائرة على شكل مثلثات متوازية حسب عددنا، وفي كلّ مثلث نكتب اسم دولة، ويقف كلّ منّا أمام واحدة من الدول المكتوب اسمها في المثلث فيمثلها، يبدأ أحدنا اللعبة فيقول: وقعت الحرب بيننا وبين البلد كذا. وتبدأ الحرب البسيطة حسب اللعبة.

كتبنا اسم كل الدول على مدى سنوات، كنّا من جنسياتٍ مختلفةٍ، سارعنا لكتابة اسم ما تسمى إسرائيل ودُسنا عليها بأحذيتنا حتى انمحت عن الأرض فرضينا، لكن أحداً لم يتجرأ ويهن عليه أن يكتب اسم فلسطين. عيبٌ عليك يا هذا كيف تقع الحرب بيننا وبين فلسطين؟ هي حبيبتنا المسروقة وأختنا الحزينة منّا، كيف تقع الحرب بيننا وبينها؟ بل ستقع الحرب بيننا وبين الصهيونيّ الذي اعتدى عليها.

لم ننطق اسم فلسطين إلا إذا كنّا نرغب بأن نرتفع، لم نناديها إلا إذا كنّا نرغب أنّ يلتفت إلينا كلّ الجمع الحاضر، صغاراً كنّا وما تجرأنا على أن نخون بالحرف، أطفالاً كنّا ولم ننسَ أن الحرب لا تكون مع فلسطين بل لأجلها، كنّا طلابًا في الابتدائيّة وإذا رغبنا بأن يحبّنا الحاضرون ذكرّناهم بفلسطينيتنا البعيدة، نقول: نحن من فلسطين، فيبتسم الحضور ويضحك، يعدّل جلسته ويمدُّ يديه ليصافح الأسى العالق بنا من جذرونا هذه، يهزّ أيدينا علّنا إذا كبرنا تذكرنا ملمس هذا الجلد الأسمر الذي صافحنا لأنّنا فلسطينيون، فتذكرنا أننا ما كنّا في مصابنا هذا وحدنا بل كان لنا أخوةٌ من الأردن ومصر وسوريّا العراق والبحرين و الجزائر والمغرب وتونس وكلّ أوطاننا العربيّة، لنذكر أنّه كان لنا أخوةٌ يوماً.

كنّا نعرف أنّ أنظمتنا تلوك القضية بأنيابها وتظننا نجهل هذا، وكنّا نعرف أن الأوراق تمرر من أسفل الطاولات، وأن الاتصالات بينهم وبين خصومنا كانت مبتسمة بينما تظهر على الإذاعات الوطنيّة صارخةً مستنكرةً. كنّا نعرف فنُطأطئ رؤوسنا ونسخر، كان للشعوب أملٌ بأن هذا الظلم سينجلي، وأن للظالم يومًا سينشق فيه عن أوطاننا فلا تُخان عروبتنا، لكن اليوم تلك الأيدي التي صافحتنا صافحت الصهاينة، وتلك الشفاه قبّلت وجوه المحتل المغتصب، أعلنوا خيانتهم وعارهم وزينوا تطبيعهم وسمّوه بالسلام فصار الشهداء والأسرى والأطفال اليُتّم ومُحاصَرو غزة إرهابيين.. فعلوا هذا حين عرفت الشعوب العربيّة أن كلّ جهودهم تهدر دون نفعٍ، أعلنوه حين علّموا الشعب اليأس وقتلوهم وهم أحياء.

أحمل في صدري أملاً ورجاءً عربياً لا أعرف أين أذهب به، أحتضن في نفسي أسىً وقهراً فلسطينياً يكبرني بسنواتٍ ولا أعرف له دواءَ، أين أذهب بأمنيات الطفولة؟ أين أصرّف أمل الطفولة ولمعة عينيّ مع أغاني العروبة وصوتنا مع أناشيد الانتفاضات؟ كيف سأورث طفلي فلسطينيته دون أن يُكسَر ويحقد على هذا العالم الظالم؟ بل كيف أجلبُ أطفالاً إلى عالمٍ بائسٍ ظالمٍ لهذا الحد؟ كيف أُخبئ هذا التاريخ المُدنَسَ عني؟

كيف أبقي صورة أمل دنقل في غرفتي فلا أذكر: لا تصالح ولو منحوك الذهب. كيف لا يلاحقني صوته يهتف: "لا تُصالحْ!

ولو منحوك الذهب

أترى حين أفقأ عينيك

ثم أثبت جوهرتين مكانهما..

هل ترى؟

هي أشياء لا تشترى.."

كيف شروها يا أمل؟ كيف قدّروا ثمنها؟ كيف بخسوا العروبة ودنسوا التاريخ؟

سيظلّ الطفل في صدري يعاديكم، يلعنكم، ويحفظ حقده عليكم، سيلاحقكم بالغضب، سيظلّ الطفل في صدري محمولًا بالحنين والأسى أمام صور أطفال الحجارة وزقاق القدس، لن يكبر أبداً أمام صور النكبة والنكسة وخيانتكم الأولى في حرب حزيران، سيظلّ يلاحقكم بـ"بُكَج" المُهجرين قسراً، سيذكركم كما يذكر دمعات الجدات وتنهيدة الآباء.. ولن يجد الإجابة أبداً عن سؤاله: كيف حُمّلتُم العار ورضيتم به بل سررتم به؟ كيف شكرتموهم على قبولهم خيانتكم؟ ولن يصرخ هذا الطفل الفلسطينيّ مجدداً: "وين العرب وين؟ وين الملايين" لأنّه صار يعرف أنّهم يرقصون احتفالاً في البيت الأبيض مع القتلة، لن يسألكم حتى عن حال اليمن وما فعلتموه به من جرائم لأنّكم اعترفتم أخيراً أن سلامكم لا يكون إلا مع إسرائيل.

"يا جماهير الأرض المحتلة.." نحن آسفون، كفكفوا دموعكم على محمد الدُّرّة في ذكراه وانزعوا الأمهات الثكالى والصغار اليُتّم عن صدوركم فهناك عربٌ يحتفلون مع حمامة الحرب في ذكرى استشهاد محمد الدُّرّة ويعربدون على دمكم فلا تزعجوا سكينتهم. لا تعذروا قلة حيلتنا، ولا تسامحوا.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

نهاية أبو حميدة
طالبة أردنية فلسطينية بكلية الآداب
كاتبة ومدونة أردنية فلسطينية، وطالبة بكلية الآداب بالجامعة الهاشمية في قسم اللغة العربية وآدابها، وكذلك معلمة لغة عربية متدربة في إحدى مدارس عمّان الخاصّة.
تحميل المزيد