بعد أن أكل الفيضان الأخضر واليابس.. كيف تستفيد مصر والسودان من غضب نهر النيل؟

عربي بوست
تم النشر: 2020/09/17 الساعة 13:06 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/10/04 الساعة 08:58 بتوقيت غرينتش
ذكرت وكالة أنباء السودان في الساعات الأولى من صباح السبت أن مجلس الأمن والدفاع أعلن حالة الطوارئ في البلاد لمدة ثلاثة أشهر بسبب الفيضانات التي أودت بحياة 99 شخصاً هذا العام كما قرر اعتبار السودان منطقة كوارث طبيعية.

غضبة نهر النيل هذه الأيام، وتدميره لقرى كاملة ومساحات كبيرة من مدن السودان، وإغراقه للزرع والضرع في المناطق الزراعية المجاورة للنيل، وتسببه في تهجير نصف مليون مواطن سوداني تعيد إلى ذاكرتي تجربة شخصية لي وأنا طفل لم يبلغ العاشرة بعد أصحو صباحاً لأجد المياه تحيط بمنزلنا في خريف العام 1988، ومعظم منازل الحي تنهار واحداً تلو الآخر، وغالبية السكان يخرجون حاملين أطفالهم على أكتافهم وما خفّ وزنه وغلا ثمنه فقط. ومنظر الطفلة التي يحملها والدها الذي وصلت مياه النيل إلى كتفيه يذكرني بشقيقتي الصغرى وهي محمولة على كتفي والدي في ذلك اليوم الرهيب، ومنظر الأثاث والسيارات والحيوانات وهي طافية على الماء في ذلك الصباح هو نفس المنظر الذي تعيده علينا الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي هذه الأيام.

أكاد أجزم بأن لغالبية السودانيين الساكنين بجوار النيل قصصاً مثيرة مع الفيضانات التي تأتي كل بضع سنوات، لتثبت للحكومات وللسياسيين أن هناك من هو أعلم منهم، ومن يوزع الرزق ولا ينسى الراعي الوحيد في الخلاء، ناهيك عن بلدان بأكملها. ومن غرائب الصدف أن فيضانات السودان هذه الأيام تأتي بعد أقل من شهر على تناول إعلامي وسياسي مكثف لقضية سد النهضة، يكاد المراقب يحس بأنه مقصود، والهدف منه سياسي بحت. فتصريحات الحكومة الإثيوبية بأنها نفذت المرحلة الأولى من ملء السد، جلبت لها انتقادات مصرية وسودانية، وإجراءات عقابية أمريكية تمثلت في وقف المساعدات الاقتصادية الأمريكية السنوية لأديس أبابا. وكأنَّ المُخطط الأكبر لهذا الكون يريد أن يقول للجميع: "وفي السماء رزقكم وما توعدون". 

ومثلما يختلف الأشخاص ويتخاصمون في الرخاء ويترفعون عن صغائر الأمور في الشدائد والأزمات، تقف الدول بجانب بعضها البعض في الكوارث الطبيعية رغم اختلافاتها السياسية. وقد شاهدنا قبل سنوات قليلة مساعدات إنسانية أمريكية لإيران في كارثة الزلزال التي واجهتها رغم العداء والقطيعة الدبلوماسية الممتدة لعقود بين البلدين، والأمثلة كثيرة في هذا الجانب. والمساعدات الإنسانية المصرية والقطرية والتركية للمتضررين من الفيضانات في السودان -رغم الخلاف مع السودان بسبب موقفه تجاه سد النهضة بالنسبة لمصر- تأتي في هذا السياق الذي تعلو فيه القيم الإنسانية على الخلافات السياسية والدبلوماسية. بالإضافة إلى أنها تضيف رصيداً إضافياً لصالح الدولة المقدمة للمساعدات في خلافها مع الحكومة المستقبلة للمساعدات، وهو جزء من الدبلوماسية الإنسانية وسياسة القوة الناعمة التي تتبعها الدول التي تتميز بسياسة خارجية نشطة وذكية.

الخسائر الكبيرة في الممتلكات التي تسببت فيها فيضانات السودان تُعيد تأكيد منطقية الموقف السوداني الداعم لقيام سد النهضة، لجهة أن السد سيقلل من الفيضانات والسيول القادمة من الهضبة الإثيوبية المعروفة بأمطارها الكثيفة، ويعمل على تنظيم جريان نهر النيل بشكل متوازن طوال العام في السودان، عكس الوضع الحالي الذي يشهد فيضانات مدمرة في الخريف، وإهداراً لكميات ضخمة من المياه تذهب للبحر المتوسط في هذه الفترة، وبين فترة جفاف في أواخر الشتاء من كل عام. هذا بالإضافة لفوائد أخرى مثل استفادة السودان من كامل حصته التي كان يذهب جزء منها لمصر، بسبب هذا الاضطراب في الجريان بين فيضان وجفاف. وستزداد استفادة السودان من المياه لزراعة أراضيه أيضاً نتيجة لهذا التنظيم في الجريان، بجانب الاستفادة منه أيضاً في تنظيم توليد التيار الكهربائي في خزان الروصيرص جنوب شرقي البلاد، الذي تمتلئ بواباته بالطمي في خريف كل عام وتؤثر بالتالي على الإمداد الكهربائي.

إن استفادة الدول من الثروات الطبيعية المشتركة تحدث فيها تجاذبات ونزاعات حينما تعتقد إحدى الدول أنها في موقف أقوى من الأخرى، وهذا الأمر ينطبق على الموقف المصري تجاه السودان أو إثيوبيا، وخاصة السودان، الذي اعتادت كل حكوماته السابقة على مسايرة الموقف المصري لعدة أسباب، مثل التحالف بين الحكومتين (سُمي تكاملاً في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي في فترة حكم النميري والسادات)، أو ضعف موقف السودان الخارجي في أواخر تسعينيات القرن الماضي والعشرية الأولى في القرن الحالي، بسبب الحصار الاقتصادي والسياسي. وكانت الدهشة المصرية والعربية عندما وقفت حكومة المخلوع البشير موقفاً مغايراً للموقف المصري في سنواتها الأخيرة، لدرجة أن إحدى الصحف الخليجية وصفت وزير الري السوداني حينها، معتز موسى، بأنه "يتصرف بندية لافتة مع نظرائه في مصر وإثيوبيا"، وهي ملاحظة تعكس النظرة الاستعلائية التي تميز نظرة المواطن المصري البسيط والمسؤول على حد سواء تجاه السودان. والملاحظ لأحاديث المعلقين في الفضائيات والملاسنات في مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام يلاحظ هذا الاستغراب المصري من موقف السودان المساير لمصالحه الوطنية. وكأنه ليس من حق السودان اتباع سياسة مستقلة تنبع من مصالحه الذاتية.

الخلاف حول سد النهضة يذكر بالخلاف المائي بين تركيا وكل من العراق وسوريا، حول نهري دجلة والفرات، كما يذكر بالخلاف حول النفط والغاز بين تركيا واليونان، أو لبنان وإسرائيل. وكلها موارد طبيعية تتنازع حولها الدول، وتستغل الحكومات ضعف الحكومات الأخرى في فترات الفوضى أو الضعف السياسي لتحقيق أهداف جيوسياسية واقتصادية. لكن من الضروري تذكر أن الشعوب لها ذاكرة مثلما أن للأفراد ذاكرة أيضاً، وذاكرة الشعوب لا تنسى استغلال ضعف حكوماتها في فترة ما من قبل جيرانها. ولضرب مثال على ذلك يكفينا النظر إلى قوة الولايات المتحدة العسكرية والدبلوماسية مقارنة ببريطانيا. 

واستحضار التاريخ أيضاً لتذكر أن الثانية كانت تستعمر الأولى قبل أقل من 250 عاماً. أو النظر إلى النزاع التركي- اليوناني واستحضار التاريخ أيضاً لتذكر أن اليونان كانت إحدى المستعمرات الأوروبية للدولة العثمانية قبل 150 عاماً فقط. أو النظر إلى قوة الصين الآن ومقارنتها بحالها قبل أقل من قرن والقوى الأوروبية واليابان تؤكل من أطرافها. وبالنسبة لهذه الشعوب والدول فإن للتاريخ والمواقف التاريخية دور كبير في التعامل السياسي والدبلوماسي بجانب المصالح. 

وعودة إلى موضوع فيضانات السودان نقول إن هذه الكارثة الطبيعية يجب أن تدفع الدول الثلاث المختلفة حول سد النهضة إلى النظر إلى النزاع من زاوية واقعية، وأبعاد المصالح الآنية، سواء كانت سياسية أو انتخابية، أو لأجل تحقيق إجماع وطني حول قضية قومية تلفت الأنظار عن مشاكل سياسية داخلية. كما أن الفيضان يذكر بحقيقة بسيطة وهي أن النيل، مثله مثل بقية الأنهار حول العالم، يفيض كل بضع سنوات بصورة ضخمة لأسباب طبيعية ومناخية بحتة، ما يجعل موضوع الخلاف حول سنوات ملء بحيرة السد مثل الخلاف حول ماذا ستتناول في وجبة الغداء في مثل هذا اليوم من الأسبوع القادم. وهو أمر لا يمكن لأحد أن يتنبأ به، وسيكون من الذكاء السياسي قيام القيادة في مصر بتقديم مساعدات إنسانية للمتأثرين بالفيضانات في إقليم عفر الإثيوبي مثلما فعلت مع السودان، وهو أمر سيصب في خانة تخفيف التصعيد مع إثيوبيا ودبلوماسية المساعدات الإنسانية. وأن تتذكر أن الجيش المصري الذي قام بغزو الحجاز ذات يوم بقيادة إبراهيم باشا كان قبل سنوات قليلة ينتظر هو وشعبه المنح والمساعدات السعودية لتجاوز الأزمات الاقتصادية وانهيار سعر الجنيه المصري مقابل العملات الأجنبية. 

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد زمراوي
كاتب وباحث في العلاقات الدولية
كاتب وباحث في العلاقات الدولية
تحميل المزيد