منذ سنوات ونحن نتوقع مثل هذا التحول الخطير على مسار الصراع العربي الصهيوني، لقد وَثَّقت ذلك خلال مقالات كثيرة كتبتُها منذ تلك السنين، وتوقعت ليس فقط أن تنضم للتطبيع والخيانة دول بعيدة جغرافيا عن دولة الكيان، كدول الخليج مثلاً، بل توقعت أيضاً أنه سيأتي اليوم الذي ستُسَن فيه قوانين تجرّم حتى مَن يدعون على دولة الكيان الصهيوني بالزوال، وتوقعنا الكثير والكثير، توقعنا المزيد من الانقلابات العسكرية، وتوقعنا تفريغ سيناء، وتوقعنا المزيد والمزيد من التطبيع والخيانة.
في الحقيقة أعزائي، ورغم ذلك، فإنني لم أتوقع أن يأتي اليوم الذي تصبح فيه تصفية القضية الفلسطينية يوماً تاريخياً بالنسبة لبعض العرب، لكنني أتساءل: ما هو المقابل؟
المقابل أعزائي شيء وحيد للأسف، وهو الحفاظ على الكراسي، والحفاظ على بقاء العروش المتهاوية وتدعيمها لا أكثر، هذا هو المقابل للأسف الشديد.
وإلى كل الذين يدافعون عن المُطبِّعين في تطبيعهم الأخير، بأن دولاً عربية، ومنظمة التحرير الفلسطينية سبقتهم بذلك، أقول: كثرة الخونة يا عزيزي ليست مبرراً للخيانة أبداً، ثم مَن قال إن مثل هذه الاتفاقيات تندرج أصلاً تحت مسمى اتفاقيات سلام بمعناها الدولي، حسب القوانين الدولية.
اتفاقيات السلام عادة تحدث بين الدول المتحاربة حين تنتهي الحروب بينها، وغالباً ما تكون نِدِّية، أما ما حصل تواً فهو يندرج تحت مسمى بلطجيات تُفرض بـ"الخاوة" والغصب لا أكثر، يا ليتها كانت اتفاقيات بمحض إرادة العرب وأنظمتهم.
محزن ومخزٍ حين يحتفل بعض العرب بهذا الاتفاق، متى كان بيع الأُخُوّة لقتلة الأطفال والنساء إنجازاً للعرب؟ نحن نحذركم، لا تستخفوا بعقول شعوبكم وعقول باقي الشعوب العربية، متى كان بيع كامل فلسطين بقدسِها وأقصاها وشطب كل ثوابت الأمة إنجازاً؟ لا تستخفوا بعقول شعوبكم، حين يحدث مثل هذا التنازل فالشعوب تعلم أن عروشكم باتت مهددة أكثر من أي وقت مضى حتى تنازلتم بهذا الشكل المخزي عن ثوابت الأمة التاريخية والدينية بلا أي سببٍ وجيه، حين يأتي الوقت الذي لن ترحمكم به شعوبكم لن تقف إلى جانبكم لا دولة الكيان الصهيوني ولا أمريكا ترامب، التي لن تدوم لا لترامب هذا ولا كوشنر.
لقد استمعت شعوبكم لبنيامين نتنياهو عشية الاتفاق حين قال إنهم يُطبّعون معنا لأننا أقوياء وهم ضُعفاء، لم يخجل نتنياهو منكم حين قال ذلك، لقد أدار ظهره فوراً لكم، وتوجه بكلماته تلك إلى شعبه كي يُخبره عن مدى انتصاره وعن مدى خِزيكم وضعفكم، فيطمئنهم على مستقبل أبنائهم لسنوات وسنوات قادمة.
قرأنا في التاريخ كيف دفعت الشعوب الضعيفة الجزية للشعوب القوية كي تحمي نفسها وأنظمتها من الهلاك، لكن أن تدفع الأنظمة بأنفسها للأقوياء كي تحمي نفسها من الهلاك فهذه سابقة تاريخية لم تحدث من قبل، شاهدنا جيرانكم كيف دفعوا مئات مليارات الدولارات لأمريكا من مقدرات شعوبهم كجزية لحماية أنفسهم وعروشهم، لكننا لم نتوقع أن يأتي يوم ونرى أنظمة وهي تقدم نفسها جزية مقابل الحماية، ويا ليتها دفعت ذلك لأمريكا بل لدولة الكيان الصهيوني أكثر نظام بلطجي على وجه الأرض، والذي لا يقيم وزناً لأي اتفاق أو ميثاق أو عهد.
عزائنا الوحيد هو الشعوب العربية الحيّة، كل الشعوب العربية حية من المحيط إلى الخليج بلا استثناء، تدرك وتعي أن هذه الاتفاقيات هي اتفاقيات أنظمة خائبة لن تَنفُذ إلى عقول ووجدان شعوبها المقهورة بالمرة. حتى دولة الكيان الصهيوني بزعمائها تعلم ذلك أيضاً، فتجدها لا تقيم أيُّ وزن لمعاهدات السلام تلك، فكانت من داعمي وممولي سد النهضة الإثيوبي كي تعطش الشعب المصري، وهي مَن ستضم غور الأردن كي تذل الشعب الأردني، وهي مَن دمّرت السلطة الوطنية الفلسطينة، عرَّابة التنسيق الأمني والتطبيع.
التطبيع الأخير.. لماذا سيفشل شعبياً؟
عندما أشاهد على وسائل الإعلام مواطناً إماراتياً أو بحرينياً وهو يرفع علم دولة الاحتلال الصهيوني، فإنني أضحكُ كثيراً صراحة، لأنه فوراً يتبادر إلى ذهني عزيزي القارئ أن هذا فِعل مدفوع وغير منطقي، لأنني أجد هذا الفعل وهو تفوح منه رائحة الصهيونية وأساليبها القذرة، الشعوب العربية كلها بمن فيهم الإماراتيون والبحرينيون مِنَّا وفينا، ووجعنا وجعهم وهمنا همهم، وفوق ذلك كله معظمهم كشعوب غير راضين عن أنظمتهم أو عن غالب قراراتها، ومؤكد أن تلك القرارات لا تمثلهم كشعوب بالمرة، وإن مَثَّلت شيئاً فهي تمثل نسبة شبه صفرية من الشعب.
لم نر مثلاً أردنياً أو مصرياً أو حتى موظفاً من موظفي سلطة محمود عباس بفلسطين المحتلة وهو يرفع علم دولة الاحتلال، لأن هذه الأنظمة مع دولة الاحتلال لم ولن ترقى إلى قبول شعوبها يوماً، لذلك ما شاهدناه من تصرفات لبعض الإمارتيين والبحرينيين من رفع لعلم الاحتلال هو تصرف جديد، ورشة بهار من الصهاينة على الطبخة الشائطة أصلاً لتستسيغها الشعوب العربية ولن تُفلح بذلك، الصهاينة بعد الاتفاقيات الثلاث، الأولى مع مصر، ومنظمة التحرير والأردن، كانوا يُعوِّلونَ عليها بأن تؤثر على الشعوب العربية، لكن كان العكس تماماً بحيث تَعَمَّق العداء والرفض لدولة الكيان والصهيوني مِن قِبَل الشعوب.
لذلك فإن رفع العلم الصهيوني بهذا الشكل الغريب كان خطة جديدة من مسؤولي دولة الكيان، وستفشل كما فشِلت كل مخططاتهم السابقة التي كانت تهدف لغسل أدمغة شعوبنا العربية، لكن لماذا سَتَفشل كسابقاتها؟ ستفشل أعزائي لأن أنظمتنا لم تُقدِّم لنا بديلاً يُعيد لشعوبنا العربية كرامتها، بحيث يتم قبوله ودعمه، وبالتالي نقف خلف قياداتنا حتى في اتفاقياتهم مثل هذه الاتفاقيات مع دولة الكيان، لأنها ستكون حينها تصب في مصلحتنا نحن الشعوب، وليس في مصلحة شخص يحكم نظاماً كاملاً كما هو حاصل الآن.
وأبشركم أعزائي مرة أخرى بأن الاتفاقيات التي وُقّعت بالأمس في البيت الأبيض بين دولة الاحتلال وهذه الأنظمة الخليجية ستأتي بنتائج عكسية، ويعلم الشعب اليهودي ذلك، وحكامه وكتَّابه ومثقفوه وصحفيوه يعلمون أنهم ستنقلب عليهم أخطار ستهدد وجودهم، وستصبح المرحلة القادمة مرحلة عدم استقرار لهم ولحلفائهم من الأنظمة الهشة، لأن هذه الاتفاقيات مجانية، وتخدم فقط مصالح دولة الكيان ومصالح أمريكا، وتخدم مصالح شخصية ضيقة لدى الأنظمة العربية التي وقعتها، لن تخدم شعوب تلك الأنظمة بالمرة، تماماً كاتفاقيات مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية.
لقد وضَعَت تلك الأنظمة نفسها في حلف ضد كل من تركيا وإيران، بقيادة دولة الاحتلال الصهيوني، وستجعلهم الأخيرة رأس حربة في ذلك الصراع، وسيزداد التنسيق بين تركيا وإيران في مواجهة هذا الحلف، الذي سيجلب تعاطف الشعوب العربية تجاههما، وبذلك تزداد شعبيتهما لدى الشعوب العربية كبلدين تاريخيين، الأمر الذي لن يجلب الاستقرار لا لدولة الكيان الصهيوني ولا لتلك الأنظمة الهشة، ولا لِكامل المنطقة، لماذا؟ لأن تركيا ليست محتلاً دخيلاً على المنطقة وننتظر أن يُهزم ويعود مِن حيث أتى، بل الترك إخوتنا، وتربطنا بهم علاقة دم ودين ولغة وتاريخ.
كذلك إيران، حتى لو كانت عدوة لنا، فعدو عدوي عدوي هو أيضاً، إيران جارتنا، وكان الأَوْلى بأن نُحسّن علاقتنا بها، وكان يجب أن يحدث العكس، وهو أن نتحالف معها ضد دولة الكيان الصهيوني، لأن الأخيرة محتلة مغتصِبة دخيلة على منطقتنا، مجرمة عنصرية قاتلة متطرفة، ويحكمها المتطرفون المجرمون الذين ينادون بالقضاء على العرب في سلامهم الوطني، ويدرّسون ذلك لأبنائهم في المدارس، المهم من هذا كله أعزائي أن اليهود والصهاينة داخل دولة الاحتلال شعب وحكام وعسكريون يعلمون ذلك حق المعرفة، وكان ذلك واضحاً مؤخراً من خلال الاستهزاء والسخرية بالاتفاقيات الأخيرة، تلك السخرية التي تابعناها على شاشاتهم ومقالات صحفهم، وحتى الفيديو كليبات الساخرة التي أنتجوها لهذا الأمر.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.