قبل سنوات طويلة، لم يكن النقاش الدائر في أي بيت حين يتحدث الأهل عن الحلال والحرام، يتطرق لمسألة الشذوذ الجنسي، لم يكونوا يرونه غالباً، وبالتالي فإنهم لا يذكرونه، ونشأ أبناؤهم على هذا، حتى جاء الدور عليهم لتربية أبنائهم، فكان الوضع مشابهاً، لن يتحدث أحدٌ عن الشذوذ الجنسي، كان آخرنا أن نسأل آباءنا عن قصة قوم لوط، فيقولون "كانوا بيعملوا حاجات وحشة"، لأن شرح الأمر بصورته الجنسية الحقيقية لن يفيد بشيء، إنه من وحي الماضي، قوم كانت تلك عادتهم فخسف الله بهم الأرض، وانتهى، ليست مصيبةً يفعلها نصف المجتمع، فالأفضل أن نمر عليها مرور الكرام، خصوصاً أن أحدنا لم يكن ليقابل واحداً من قوم لوط في أي شارع.
حتى بدأت المساعي الحثيثة منذ سنوات، صوتٌ بدأ يعلو، وأعلام بدأت ترتفع، نتيجةً لأفلامٍ بدأت تحشر في تسلسلها مشاهد لن تغير من الحبكة شيئاً، لكنها ستغير تدريجياً نظرة المشاهد، سيعتاد ذلك المشهد في كل فيلم، حتى يعتقد أنه من تسلسل الحياة نفسها، وأن السينما تعكس الواقع، ولن يفكر بأن السينما كذلك تحاول أن تخلق الواقع لو كان غير موجود، واختلف في ذلك منظّرو السينما على مر العقود، ماذا تفعل السينما بالتحديد؟ هل هي مرآة تعكس الموجود؟ أم معمل يصنّع غير الموجود؟
وشعر العالَم فجأة بأعضاء بدؤوا يبرزون فيه، ينادون بأحقيتهم في التعبير عن "اختلافهم"، وسموْه "اختلافاً"، اختلافاً في التركيب، ثم الذين لم يجدوا في أعضائهم شيئاً غير طبيعي، قالوا إن لدينا اختلافاً في الميول، وماذا يعني ذلك يا سيدي؟ أن الفطرة التي فطر الله الناس عليها حين خلق آدم وحواء زوجين، لا تروق للبعض، فلماذا لم يخلق الله لآدم رجلاً آخر ليكون زوجه؟ وبالتأكيد لن يجيبوا على تساؤلك حول تلك الفرضية، وهو أن الخليقة ستبدأ وتنتهي في أول جيل، فلن ينجب الرجلان شيئاً، سيموتان وتنتهي البشرية، وكذلك إن كانت الفرضية لامرأتين.
سموها اختلافاً، وقالوا إن حقهم أن يميلوا إلى الجنس الذي يحبونه وبالطبع هذا لا يعني أي خلل، إنما هي طبيعة بشرية طبيعية جداً، عادية لأقصى درجة، ما يضيرك لو أحبّت أختك صديقتها؟ وماذا يعيب أخاك لو تزوج صاحبه؟ فنحن في عصر لا مكان به للرجعيين من أمثالك، الذين يخنقون الناس في أخصّ ما يملكونه، وهو أعضاؤهم التناسلية. ولن نأتي على ذِكر الأصل اللغوي الذي يربط تلك الأعضاء بوظيفتها في خلق نسلٍ جديد، وهو ما تعجز عن تأديته في حال الشذوذ.
ومع كل ذلك، مع العالَم الذي يتشكل من جديد خلال هذه السنوات، ستجد شيئاً يصرخ في داخلك، يستغرب ذلك الانقلاب الغاشم على الفطرة، ويستنكر تلك الكارثة التي حلت على رؤوسنا، ويصرخ يا ناس يا هو.. مَن هؤلاء؟ متى نبت في وادينا كل هذا القرف؟ كيف اكتشف العالَم فجأة أن نصفه من الشواذ؟ سيردون عليك بعنف: "نحن مجتمع المثليين، ولسنا شواذاً"، وذلك لأن الألفاظ تشترك بشدة في بناء المعاني، ولأن تخفيف حدة الوصف يقلص حجم المشكلة في الوعي الجمعي.
وبينما نحن على ذلك، ستجد نفسك أنت الشاذ في مجتمع المثليين، فإنهم نفوا الوصف عن أنفسهم ليلصقوه بك، يا عدو الحرية. سيتهمونك بمعاداة الآخرين، والتمييز ضدهم، وعدم احترام الاختلاف الذي بين البشر، ستتعجب أكثر، متى انقلبت الآية؟ فأصبح الأسوياء شواذاً، وأصبح الشواذ هم الأصل، كأن الذي وجدنا عليه آباءنا لم يكن إلا صدفةً من صدَف الزمن العجيبة، حين أحب الرجال النساء، وعشقت النساء الرجال، وتزوج هذا من هذه، وتلك من ذلك.
إن كنتَ ممثلاً، أو كاتباً، أو فناناً، أو سياسياً، أو أي شخصية لها اعتبار في المجتمع، وأنكرت ذلك المنكر المقرف، أجزم أنك ستحاكَم، ربما تُقال من منصبك المهم، وربما تقتاد مقيد اليدين إلى المحكمة لينظروا في أمرك الغريب، كيف تستغرب ذلك؟ وكيف تستنكر على هؤلاء المساكين ما يقومون به؟ وأنا أجزم لنفسي كذلك، أنني لو نظرتُ للطالبة الشاذة في الصف نظرةً واحدةً لم تعجبها، لفُصلت وحُولت إلى التحقيق.
ومع سياسة الإغراق التي تسير وفقها شركات الإنتاج، بدأ العالم يتطبع على ذلك، لا بأس إن رأيت رجلين يتبادلان القبلات، ولا غرابة في ممارسة فتاتين للشذوذ معاً، فأنت في عصر الحريات، يا مَن لا تفهم في السينما، ولا تعرف الفنّ، ولا تؤمن ببوهيمية -لم أقل بهيمية- المخرجين وكتاب السيناريو.
هذا ما تفعله "نتفلكس" بالتحديد، تأتي لك بالمشهد الشاذ وسط تحفةٍ سينمائية فنية، وحينها، كإنسان يشاهد هذا العمل، لا تفوته دون أن تسأل: هل يغير ذلك في السياق؟ هل يؤثر المشهد بالعمل؟ هل يضيف معنى؟ هل يغير من الحبكة؟ هل يصنع بحد ذاته نقلة نوعية أو نقطة نظام في الأحداث؟ فإن لم يكن هناك جواب على كل هذا، وكانت النتيجة واضحةً "لا"، فعليك أن تعرف أن ذلك المشهد خصيصاً هو الذي صُنع من أجله العمل كاملاً، الـ1% الذي تخدم عليه الـ99% الأخرى.
ما الذي سيضيفه مشهدٌ أخير يأتي بالبطل الذي وقعتَ في غرامه كمشاهد، وهو يقبّل رجلاً آخر في مشهد النهاية، لتتقبل بالضرورة ذلك الفعل منه، لأنه بطل، حتى وإن تحفظتَ عليه، فستتغاضى عن تلك المصيبة التي هو فيها. ومثلاً، ستجد في مسلسل عن سرقة البنوك، رجلاً من العصابة يقع في غرام صاحبه، ورجلاً آخر شاذاً بالفعل، وهذا لن يؤثر أبداً بالحبكة، لكن "المنتج عاوز كدا"، وفي مسلسلٍ آخر عن شابة يهودية تتمرد على أهلها المنغلقين، ستسافر وتذهب إلى مجتمع جديد، وستأتي أمها في مشهدٍ ومعها صديقتها، التي قررت أن تعيشا معاً كزوجين، وهذا لن يؤثر بالحبكة، لكن "المنتج عاوز كدا"، وفي ألف مسلسل وفيلم آخر، ستجد من حيث لا تحتسب ذلك "الحشو" غير المنطقي، وهنا يجب أن تنتشل عقلك من لا وعيه، وتحكّم المنطق.
عليك يا صديقي حينها أن تدرك جيداً ما المراد من كل ذلك، أن تفهم بأنك الهدف الوحيد، أن وعيك -رغم أنفك وذكائك الخارق- سيتأثر إن داومت على المشاهدة، واسرح بخيالك دقيقةً تر نفسك فيها متأففاً لأول مرة من شيء شاهدته، ثم بعد ذلك أصبح مألوفاً رغم أنك ترفضه، ثم قِس على ذلك، واعرف أننا في مرحلة تاريخية ونقلة نوعيةٍ في فنّ السينما، وهو "صناعة الوهم"، ثم إقناع الموهومين أنهم يقفون في عين الحقيقة.
فلذلك، اثبت مكانك، قف أنت على الحقيقة ولا تسمح لأحد بادعائها، وربِّ أبناءك على أن هؤلاء مهما كثروا في المجتمع فإنهم نكرة، ومهما حاولوا تأصيل أفعالهم ستبقى شاذة، ومهما حاولوا التدليل من التاريخ على أصالة بضاعتهم، فإن الدليل الذي نعرفه أن الله خسف بأمثالهم الأرض، ومهما فرضوا تلك المناهج في المدارس وغرسوها في عقول الشباب، فتذكّر أن الله خلق آدم وحواء، ومهما حاولوا تزيين الأمر بشعارات برّاقة، فأكّد عليهم أنه فعل مقزز، يشمئز منه كل إنسان سليم.
وواصل مقاومتك يا سيدي، وواجههم، وقل لهم إن نعتوك بالرجعية والتخلف، إن الأصل يبقى أصلاً مهما حاولوا خلق فروعٍ جديدة وتأصيلها، قل لهم جربوا غرسها في الأرض، واغرس أنت الجذر الذي في يدك، وانظر أيهما سيثمر.
وأعود وأتعجب وأنا أكتب موضوع المقال، هل خلا العالَم من المواضيع المهمة حتى صرنا في ضرورة ملحة للكلام عن هذا؟ هل صار الفقراء أغنياء؟ هل حصل المليار الجائع من البشر على قوت يومه؟ هل أنقذ العالم ناسَه من الموت برداً في مخيمات اللاجئين؟ هل انتهت الحروب وصرنا في رفاهية اختيار الجنس الذي سنميل إليه؟ هل عادت الأرض إلى أهلها وعاد المهجرون إلى أوطانهم؟ هل نحن كعرب نملك تلك الرفاهية الغربية حتى نتحدث حديثهم عن المواضيع المقززة؟ هل تعلم الأميون وارتوى الظمأى؟ هل وصل الصرف الصحي إلى بيوتنا جميعاً حتى؟
لا.. لكن الحديث من باب تعريف البديهيات، لأننا في عصر يستهدفها، ولأن "نتفلكس" لا تستهدفك أنت بالتحديد، فإنك "نفدت بجلدك واللي كان كان"، لكنهم يستهدفون جيلاً يصلون إليه أسرع بكثير مما يصلون إليك، جيل سيحسب أن الأرض منذ خلقها الله وهي تحوي ذلك الاختلاف الموهوم، سيصير لهم صوتٌ أجش يعبرون به عن آرائهم التي لقنتها لهم شركات السينما، ويقولون إنهم يحترمون الحريات، وإن من حق الإنسان أن يختار نوع الإنسان الذي ينام معه، وسيكون طفلك بتلك الفجاجة نعم، إن لم تغرس فيه شيئاً حقيقياً، يصعب على صناع الوهم اقتلاعه.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.