عندما قامت ثورة 25 يناير في مصر لم تكن ثورة، فلا أحد يأخذ للثورات مواعيد مسبقة من وزارة العدل أو الداخلية. بل كانت مجرد احتجاجات صغيرة أقصى أمنياتها أن تتسبب في إقالة وزير الداخلية حينها اللواء حبيب العادلي، وكانت سترضى بتخفيف القبضة الأمنية على البلاد والعباد. تمت هندسة الدعوة للتظاهر ونشرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي ونزل الجماهير الغاضبة وكانت تظاهرات حاشدة انتهت بنهاية اليوم. وبدأت مشاورات لبدء اعتصام بميدان التحرير لم تسفر عن شيء حتى كان أول شهيد بمحافظة السويس.
ترددت جماعة الإخوان المسلمين بالنزول استجابة لدعوات الخامس والعشرين من يناير، وهو أمر متفهم للغاية من جماعة كانت تستطيع "تظبيط وتسليك" أمورها مع نظام مبارك، بدرجة أو بأخرى، وفق قواعد النظام نفسه. والنزول رفقة تلك التظاهرات مقامرة كبيرة، إذ لو فشلت تلك التظاهرات لقضي على الجماعة تماماً. ترددت جماعة الإخوان المسلمين أو تريثت في النزول للشارع من الدعوة الأولى، ولكن تقديراتها الداخلية لوضع الشارع المصري في يوم الخامس والعشرين من يناير كانت توحي وتتنبأ بأن الأمر هذه المرة مختلف تماماً، فالحراك شعبوي شبابي بامتياز وتأخرها عن اللحاق بركبه قد يأتي بنتائج عكسية.
أقول وعند سقوط الشهيد الأول في السويس جاءت دعوات جمعة الغضب والتي أعلنت الجماعة وبشكل رسمي مشاركتها فيها بكامل قوتها. لنكون أمام ثورة شعبية تدعمها جماعة منظمة لها شعبية كبيرة وتستطيع الإبقاء على عناصرها بالشوارع لأيام وأسابيع إن تطلب الأمر.
لم تكن جماعة الإخوان ثورية يوماً، لا في أدبيات مؤسسها الأول حسن البنا ولا كبار منظريها. لذا كان وضع تزعم الجماعة للثورة جديداً ومربكاً.
نجحت الثورة، بعد ذلك، في إسقاط النظام وانتشى التنظيم وفاز بالانتخابات البرلمانية وأوصل مرشحه لكرسي الرئاسة. لكن رافق ذلك تغيير مهم وهو أن التظاهرات والاعتصامات أصبحت وسيلة فعالة لحسم عديد القضايا. وحكمت الجماعة لمدة عام، أو قل جلست في مقاعد الحكم، ثم حدث الانقلاب العسكري بتظاهرات واحتجاجات مرتبة ثم تم قمع الجماعة أعضاء وقيادات، وانتهى بهم الحال بين مقتول أو مسجون أو مطارد أو مهاجر خارج البلاد.
في مقاومتها للانقلاب العسكري استخدمت الجماعة السلاح الذي أطاح بها، فنظمت اعتصام رابعة، وقادت تظاهرات بأعداد ضخمة لأكثر من عامين، ولكنها لم تقدر على خلق تأثير نوعي في مجرى الأحداث وتم قمع الحراك التي سيرته بالقوة.. حتى جاءت لحظة المقاول.
في سبتمبر/أيلول 2019 ظهر على السطح السياسي المقاول الشاب الذي خرج من مصر، بعدما قرر أنه لا يستطيع التماهي أكثر من السلطة ومنظومة الفساد التي خلقها الجيش المصري منذ يوليو/تموز 2013 في مجال عمله، المقاولات. وقرر محمد علي فضح كل ما يمتلك من معلومات تثبت غرق كبار قيادات الجيش المصري في بحر الفساد. معلومات لم يسلم منها رأس النظام عبدالفتاح السيسي وزوجته وكامل الوزير رئيس الهيئة الهندسية السابق ووزير النقل الحالي وغيرهم من كبار قيادات القوات المسلحة المصرية. وكانت تلك هي المرة الأولى التي يتم فيها انتقاد السيسي ونظامه بشكل شعبوي حقيقي قادر على تصدير الأزمة للنظام. على إثر الضجة التي خلقها، دعا محمد علي لاحتجاجات رمزية ليلة الـ19 من سبتمبر/أيلول العام الماضي وفوجئ الجميع حتى النظام نفسه باستجابة واسعة لدعوات الرجل ونزول الناس في عدة ميادين والإطاحة بمعلقات حب الرئيس ودهس صوره. ليتضح للجميع أن هناك ناراً تحت الرماد. فوجئت، مرة أخرى، الجماعة باستجابة الشارع السياسي للرجل وهذه المرة يجب أن تتخذ قراراً سريعاً بالمشاركة من عدمها ولكن شيئاً قد تغير. بدا الأمر وكأن الجماعة لم تعد تمتلك تنظيماً داخل مصر. لم يعد للإخوان زخم يناير من حيث الحشد والتنظيم وإدارة الشارع فالقوم بين مسجون ومطارد ومهاجر خارج البلاد. وهؤلاء هم تنظيم الإخوان المسلمين عملياً، الذين يستطيعون الحشد والتنظيم.
هل نجح النظام إذاً في تفكيك التنظيم؟ هل نجح في سلبه من أهم ملكاته؟ ظني أن النظام قد نجح بالفعل جزئياً في هذا واستطاع القمع والتخويف أن يكسر شوكة أكبر تنظيم في الوطن العربي كله وجعله بلا فائدة في الشارع تقريباً. حتى أصبحت دعوات التظاهر المعتمدة في الأساس على معاناة الناس من قرارات النظام الظالمة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، دعوات يتيمة.
لكن من يعول على انفجار ثورة أو اندلاع شرارة احتجاج في مصر يطلقها الفقراء نتيجة معاناتهم، أعد التفكير مرة أخرى. فحكام هذا الوطن استطاعوا بالفعل احتواء عديد الاحتجاجات. ومع كثرة الدعوات بالنزول التي لا يستجاب لها، يصبح الأمر هزلياً وأصبحت الدعوات ذاتها هزلية ولا معنى لها من أناس يعيشون بالخارج لن يتحملوا نتيجة ذلك الحراك المرجو.
انقسام الجماعة داخلياً بين جبهات مختلفة أثر كثيراً في عزيمة أفرادها وأفقدهم البوصلة السياسية وشل قدرتهم على الحركة في الشارع، حيث أصبح الكثير من أعضاء الجماعة أو محبيها لا يرون بجدوى تلك الدعوات.
أصبحت وسيلة التظاهرات التي يصر عليها محمد علي ومعارضو الخارج لا وزن لها عند النظام ولا يلقي الناس لها بالاً. ولن يجني الداخل المصري غير اشتداد موجات القمع الرهيب والقبض العشوائي في ظل تاييد إقليمي مطلق للنظام وصمت عالمي.والسؤال الآن: هل تقدر التظاهرات على الإطاحة بالنظام الحالي أم على أصحاب تلك الدعوات التفكير في وسائل أخرى؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.