رسالة جديدة تتردد أصداؤها في العالم العربي: عليكم النَّيْل من تركيا!

عدد القراءات
1,401
عربي بوست
تم النشر: 2020/09/13 الساعة 11:53 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/09/13 الساعة 12:51 بتوقيت غرينتش
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان (رويترز)

قبل أشهر من الإعلان عن عزم الإمارات العربية المتحدة الاعتراف بإسرائيل، لتُهدم أركان وضعٍ راهنٍ يقول إن التطبيع لن يتحقق قبل قيام دولة الفلسطينيين، تحيّر المحللون بشأن "صفقة القرن" التي عقدها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.

إذ طرح المحللون سؤالاً على أنفسهم يستفهم عن السبب الذي يدفع الرئيس الأمريكي لبذل الكثير من الجهد في صفقة يقاطعها القادة الفلسطينيون، ويرفضها العالم العربي، ولن تشهد فلاحاً أبداً. ولم يردّ إعلان أبوظبي على سؤالهم.

لقد بذل الرئيس ترامب وصهره جاريد كوشنر جهوداً مُضنية من أجل إقناع دولٍ أخرى في المنطقة بتطبيع العلاقات مع إسرائيل.

وحتى وقتنا هذا، لم يلحق بهذا الركب سوى البحرين، وصربيا، جمهورية كوسوفو. أمّا البلدان الكبيرة المكتظّة بالسكان فقد رفضت، إذ لم تقبل المملكة العربية السعودية، أو السودان، أو عمان، أو الكويت، أو الأردن تلك الصفقة.

لن يُموِّه أي تغيير يطرأ على البيت الأبيض خلال الأسبوع المقبل حقيقة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لن يصافح سوى زعيمي دولتين صغيرتين في احتفالية يصفها ترامب بالتاريخية.

ترامب يتراجع أولاً

لو لم يكن الفلسطينيون قَط هم الهدف المقصود من هذه الصفقة، فمن يكون المُستهدف منها إذاً؟ الإجابة هي أن هدف كوشنر ديني قومي يهودي يتمثّل في تأسيس دولة إسرائيل الكبرى كحقيقة دائمة على أرض الواقع.

لكن ضد من يُفترض أن يدافع التحالف الإماراتي الإسرائيلي عن نفسه؟ كانت إسرائيل تقول للدبلوماسيين العرب إنها لم تعد ترى في إيران تهديداً عسكرياً؛ إذ قال يوسي كوهين، رئيس الموساد، للمسؤولين العرب إنه "يتسنّى احتواء إيران".

وقد انخرط ترامب في مجابهة عسكرية مع إيران وجهاً لوجه، وتراجع أولاً.

إذ أطلقت إيران على الملأ وابلاً من الصواريخ على القوات الأمريكية في العراق رداً على الضربة الجوّية التي أودت بحياة القائد العسكري الإيراني قاسم سليماني في بغداد إبان يناير/كانون الثاني.

اختبرت الطائرات الحربية الإسرائيلية تلك النظرية مراراً وتكراراً في سورياً ولبنان، إذ ضربت أهدافاً إيرانية ومقاتلين تدعمهم إيران دون عقاب، ودون رد من طهران، ولم يبد حزب الله سوى استجابة واهية لهجماتها.

وكانت استجابة ترامب هي تفكيك القوة المُهاجمة التي وطّدها في الخليج. حسناً، إن لم تكن إيران الهدف المقصود من هذا التحالف الناشئ، فمن هو الهدف إذاً؟

الأتراك قادمون!

تجلّت الإجابة هذا الأسبوع في سلسلة من التصريحات المُنمّقة الصادرة عن قادة العرب خلال لقائهم بجامعة الدول العربية. إذ تبيّن أن العدو الحقيقي عضو في حلف شمال الأطلسي، ولعقود مديدة، طالما كان حارساً للقنابل النووية الأمريكية المحمولة جوّاً.

إن الغزاة الأجانب الجدد الذين يهددون العالم العربي ليسوا الفُرس، ولا الروس، بل الأتراك في واقع الأمر.

يبدو الخط الساحلي لشرق البحر الأبيض المتوسّط بأكمله، من لبنان إلى مصر -كما لو أن مفتاحاً كهربائياً جماعياً يُدير مواقفه- ظاهرياً في حالة حرب ضد جارته الشمالية تركيا إثر ادّعاءات تزعم طموحات استعادة الحكم العثماني.

تزعّم وزير الخارجية الإماراتي أنور قرقاش توجيه هذا الاتهام إلى تركيا، وصرّح في جامعة الدول العربية بأن "التدخّل التركي في الشؤون الداخلية للدول العربية يعد مثالاً جلياً على تدخّلها السلبي في المنطقة".

جاء التصريح على لسان وزير خارجية بلدٍ أطاح برئيسٍ مصري، وقصفت طائراته طرابلس الليبية في محاولة للإطاحة بحكومة أخرى معترف بها دولياً.

اتّهم قرقاش تركيا بتهديد أمن وسلامة الملاحة في مياه البحر الأبيض المتوسّط، في انتهاك واضح للقوانين والمواثيق الدولية ذات الصلة وفي تعدٍّ بيّن على سيادة الدول.

من هو العدو؟

لحق وزير الخارجية المصري سامح شكري بركب نظيره قرقاش، إذ قال إن التدخّلات التركية في العديد من البلدان العربية تمثّل أوخم تهديد على الأمن القومي العربي.

وأضاف قائلاً: "مصر لن تقف مكتوفة الأيدي في وجه الطموحات التركية التي تتجلّى في شمال العراق، وسوريا، وليبيا على وجه الخصوص".

انعقد هذا الاجتماع برئاسة الوفد الفلسطيني الذي جاء وبِجعبته بيان غاضب يدين الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي.

وقوبل بيان الوفد الفلسطيني بتجاهل المجلس الذي قرر تشكيل لجنة فرعية دائمة لمراقبة العدوان التركي وإطلاعه على المستجدات في كل اجتماع لاحق.

لم يمر ضجيج التصريحات المناهضة لتركيا مرور الكرام في أنقرة.

كما نسب مصدر حكومي تركي كبير جذور تلك التصريحات إلى التحالف الإنجيلي المسيحي – الصهيوني في الولايات المتحدة.

وقال المصدر الذي طلب عدم الكشف عن هويّته إن "الإمارات تنفذ مهمّة عزل تركيا في المستويات التنفيذية، تلك التي تتوسّط المستويات التكتيكية والأهداف الاستراتيجية في الحروب".

وأضاف قائلاً: "إن الإمارات تموّل تلك الاستراتيجية، ولكن ركائزها تتمثّل في إسرائيل وبعض الساسة الأمريكيين المقرّبين من اللوبي المؤيّد لإسرائيل. فلطالما كان هؤلاء جزءاً من أي جهد يؤسس تحالف مناهض لتركيا".

وتابع: "إنهم يقدّمون الدعم للإمارات لصالح التحالف الصهيوني الإنجيلي، لا سيّما قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقرر انعقادها في نوفمبر/تشرين الثاني، والتي قد تجلب دعماً انتخابياً لمناصبهم".

القواعد العسكرية التركية

ثمّة مفارقة في أن لجنة فرعية أخرى تابعة لجامعة الدول العربية تناهض التطبيع مع إسرائيل لا تزال موجودة لدعم مبدأ الأرض مقابل السلام الذي أرسته مبادرة السلام العربية. تلك المبادرة التي أطلقتها المملكة العربية السعودية في عام 2002.

انغضَّ الطرف عن تلك اللجنة. فإن إسرائيل ليست بعدوٍ لجامعة الدول العربية، بل تركيا هي العدو.
نشرت صحيفة Jordan Times، الصوت الرسمي للمملكة الأردنية، مقالاً جاء فيه أن "القوات التركية والميليشيات التي تدعمها أنقرة تنشط في ثلاث دول عربية؛ هي ليبيا، وسوريا، والعراق. وهذا واقع جيوسياسي يتعيّن على العالم العربي، وكذلك المجتمع الدولي، الاعتراف به والرد عليه".

"في الواقع، يعلن كبار القادة الأتراك بمن فيهم الرئيس رجب طيب أردوغان، عن تلك الطموحات التركية الإقليمية، والسياسية، والاقتصادية".

وتابع المقال: "لدى تركيا الآن قواعد عسكرية في ليبيا، والصومال، وشمال قبرص، وسوريا، والعراق. وبعضها لم يؤسس بموافقة الحكومات الشرعية للبلاد".

حملة ماكرون الصليبية

هناك جهات أجنبية فاعلة أخرى كانت وراء هذه الدفعة لإعلان تركيا الدولة الخارجة عن القانون الجديدة في شرق البحر المتوسط.

إن دور الجيش الفرنسي في دعم قائد الجنرال في عهد القذافي، خليفة حفتر، في محاولته المليئة بجرائم الحرب للاستيلاء على العاصمة الليبية موثق جيداً كما هول الحال بالنسبة لاستخدام الطائرات الإماراتية والقناصة الروس.

لكن في الآونة الأخيرة، خلال جولاته في بيروت، بسط الرئيس إيمانويل ماكرون الأجنحة الخطابية لفرنسا.

فقد قال ماكرون في أول رحلتين للعاصمة اللبنانية الممزقة: "إذا لم تلعب فرنسا دورها، فإن الإيرانيين والأتراك والسعوديين سيتدخلون في الشؤون الداخلية اللبنانية، وهي الدول التي من المرجح أن تأتي مصالحهم الاقتصادية والجيوسياسية على حساب اللبنانيين".

ونُقل عن مسؤول عراقي قوله إن ماكرون توجه إلى بغداد حيث أطلق "مبادرته لدعم سيادة العراق"، في إشارة واضحة إلى تركيا. وكانت أنقرة قد شنت هجوماً جوياً وبرياً عبر الحدود على المتمردين الأكراد في شمال العراق في يونيو/حزيران ما أثار حفيظة بغداد التي وصفتها بانتهاك الأراضي العراقية.

وفي الوقت نفسه تجري سفن حربية فرنسية مناورات مشتركة مع سفن يونانية وسط نزاع حول التنقيب عن النفط قبالة قبرص، وهو ما تزعم تركيا أنه ينتهك حدودها البحرية.

وقال ماكرون للصحافيين قبل قمة في كورسيكا هذا الأسبوع: "إن تركيا لم تعد شريكاً في هذه المنطقة"، موضحاً أنه يجب على الأوروبيين "أن يكونوا واضحين وحازمين" مع حكومة أردوغان حول "سلوكها غير المقبول". وأضاف ماكرون أنه يتعين على الدول الأوروبية وضع "خطوط حمراء" مع تركيا.

الوحدة التركية

يؤكد ماكرون أن خلافه ليس مع الأتراك، بل مع أردوغان.

لقد جرّب هذا التكتيك من قبل وفشل. المشكلة أنه في مواجهته للقوات المدعومة إماراتياً في ليبيا، أو في تمسكه بحقوق الفلسطينيين في القدس، أو قصفه لحزب العمال الكردستاني في العراق، أو في استهدافه لقوات الرئيس بشار الأسد في سوريا، يحظى أردوغان بالدعم الكامل من الجيش التركي. وجميع الأحزاب السياسية التركية الكبرى.

وهذا الدعم ليس موحداً ولا ثابتاً. فقد أعرب البعض في الداخل عن شكوكهم حول حكمة دخول القوات التركية إلى ليبيا وسوريا، لكن هذه الشكوك تراجعت بعد تبرئة الجيش التركي والطائرات بدون طيار لأنفسهم.

ومهما كانت الانتقادات التي يوجهها العديد من خصوم أردوغان المحليين حول شرعية عمليات التطهير المستمرة للموظفين والجنود، والاعتقالات الروتينية للصحفيين، وإغلاق الصحف والجامعات، وطريقة إخضاع الرئاسة للبرلمان، فإنهم يدعمون أردوغان كقائد وطني في السياسة الخارجية، خاصة في شرق البحر الأبيض المتوسط.

أما الرجل الذي يبذل حزبه قصارى الجهد في سبيل إضعاف قاعدة أردوغان الإسلامية المحافظة أكثر من أي سياسي تركي آخر، أحمد داود أوغلو، فهو شخص مخضرم في المفاوضات الدولية ورئيس وزراء سابق.

وقد قال داود أوغلو مؤخراً: "يتعين على ماكرون أن يلتزم بحدوده وأن يكفّ عن إهانة تركيا ورئيسها".

"إنني أدين بشدة تصريحات ماكرون المتغطرسة، التي تظهر عقليته الاستعمارية وتجاهل الديمقراطية في تركيا والإرادة الحرة لشعبها".

ويواجه ماكرون العديد من المشاكل في إعلانه حملة صليبية جديدة. فمن ناحية، يصعب عليه التخلص من تاريخ الاستعمار الفرنسي في شمال إفريقيا ولبنان.

وثانياً، تفشل محاولته بمساواة أردوغان بـ"الفاشية الإسلامية" عندما تكون الدولة التركية العلمانية العميقة تعمل بتناغم مع مشروع الرئيس. لقد كانت حكومة مدعومة من الجيش التركي هي التي غزت شمال قبرص في عام 1974 بعد انقلاب يوناني.

مواجهة أنقرة

لماذا تواجه تركيا الضغوط الآن؟ على الرغم من كل التحفظات الداخلية على دوره كرئيس، فقد جعل أردوغان تركيا دولة مستقلة، قواتها المسلحة قادرة على مواجهة القوات الروسية في سوريا وليبيا، لكنها تحافظ على مكانها على طاولة المفاوضات مع الروسي الرئيس فلاديمير بوتين.

حجم الاقتصاد التركي هو بنفس حجم مثيله بالنسبة للسعودية، وجيشها مكتفٍ ذاتياً. فقد بدأت تركيا في تصنيع طائرات بدون طيار عالية التقنية عندما رفضت إسرائيل والولايات المتحدة إمدادها. لقد نُسي الأمر اليوم، لكن الطائرات الإسرائيلية تدربت في السابق على المطارات التركية بسبب نقص المجال الجوي في بلادهم، وفقاً لمصادر تركية مطلعة.

وعند اكتشاف الغاز في البحر الأسود، تمتلك الشركات التركية التكنولوجيا لتطوير الحقول وتزويد السوق المحلية، على عكس مصر، التي يعني اعتمادها على الشركات البريطانية والإيطالية والأمريكية أنها تجني جزءاً بسيطاً من أرباح حقول الغاز لديها.

وعندما تواجه جنود مسلحون، مثل ما حدث في محاولة الانقلاب عام 2016 (بتمويل من الإمارات)، فإن الأتراك فخورون بشدة وهم يقاتلون.

كل هذا يجب أن يدفع السياسيين الغربيين للتوقف قبل خلق عدو آخر وبدء صراع آخر في هذه المنطقة. فمن الواضح تماماً أين تنشأ هذه الأجندة: إنها تأتي من إسرائيل ودول الخليج، بلا اهتمامات أو مصالح في قبرص.

مغامرة خطيرة

لا تتسامح إسرائيل مع أي معارضة لهدفها المركزي المتمثل في ترسيم حدودها على الأراضي التي احتلتها بشكل غير قانوني. وفي تقديرها الاستخباراتي لعام 2020، أدرجت شعبة المخابرات العسكرية الإسرائيلية تركيا ضمن قائمة المنظمات والدول التي تهدد الأمن القومي الإسرائيلي.

لكن التقديرات استبعدت اندلاع مواجهة عسكرية بين البلدين.

إن النظامين الإماراتي والسعودي الاستبداديين ليس لديهما مثل هذه الهواجس.

فهما يخشيان أن تسحب تركيا منهما زعامة العالم السني. القتال يدور حول قيادة العالم العربي السني. فلقد تلاشى الآن ادعاء المملكة العربية السعودية بها هي الزعيمة، فالأمر لا يحتاج أكثر مما حدث عندما طبعت مؤخراً العلاقات مع إسرائيل.

إن فرنسا تفتقر إلى الجرأة أو القدرة على بدء صراع آخر في الشرق الأوسط. في الداخل، أصبح هذا السياسي الفرنسي العجيب هذا هو أكثر رئيس فرنسي لا يتمتع بشعبية.

فرنسا ماكرون منقسمة مثل أي دولة غربية أخرى. إنها محاصر بكوفيد-19 وصعود الجناح اليميني الذي لا يرحم مثلما تنقسم بريطانيا بسبب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ويجب أن يتعلم ماكرون من الخبرات الجماعية لتوني بلير وجورج دبليو بوش وديفيد كاميرون ونيكولا ساركوزي، وأن يبتعد عن هذه المغامرة الأجنبية. لن ينتهي الأمر بخير بالنسبة له إذا استمر.

– هذا الموضوع مترجم من موقع Middle East Eye البريطاني.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

ديفيد هيرست
كاتب صحفي بريطاني
ديفيد هيرست، رئيس تحرير موقع Middle East Eye البريطاني، وكبير الكتاب في الجارديان البريطانية سابقاً
تحميل المزيد