“إنها أموالي وأنا حر في صرفها”.. سؤال الحرية والأخلاق والمال بحادث أنس وأصالة

عدد القراءات
777
عربي بوست
تم النشر: 2020/09/13 الساعة 12:14 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/09/13 الساعة 15:12 بتوقيت غرينتش
يعد برج خليفة الواقع في مدينة دبي الإماراتية أعلى برج في العالم (رويترز)

أحدث فيديو لكشف جنس المولود نشره يوتيوبر سوري ضجة كبيرة، حيث إنه قام بإعلان جنس طفله القادم عبر استخدام واجهة برج خليفة. ظهرت بعض التقارير ترجح أن كلفة الإعلان تتراوح بين 68 و95 ألف دولار للعرض وحده، دون احتساب كافة النفقات المرافقة.

على مواقع التواصل كان هناك الكثير من التعليقات التي تدافع عن فعل أنس مروة وزوجته أصالة المالح، بحجة أن الشاب حر في ماله، وله أن يتصرف فيه كما يشاء. وفي الحقيقة، ومع أن المثال الحاضر أمامنا اليوم يمنعنا من التفكير بصورة أوسع، لكن سأحاول توضيح بعض النقاط الأساسية التي يمكن استعمالها عند النظر لمثل هذه الأمور.
وكيف يصرف الأثرياء أموالهم، وهي أفكار كانت دائماً تراودني خاصة أنني مهتم بشكل ما بطبقة فوق الأغنياء، أو ما تُعرف بـ (Ultra-high-net-worth individuals UHNWI) وهم أشخاص بمجموع ثروات أكثر من 30 مليون دولار.

بطبيعة الحال، لا تصنف عائلة أنس وأصالة ضمن هذا المجال، لكن ما حدث يستحق التأمل وبعض التفكير في أمور الإنفاق والبذخ وغيرها. 

من المهم ملاحظة أننا أمام سؤالين مختلفين هنا؛ الأول: سؤال أحقية الحصول على الثروة المبالغ فيها؟ والثاني: سؤال أحقية صرفها بالطريقة التي تريدها؟ طبيعة النظم الاقتصادية الحالية ليس لديها مشكلة مع السؤالين.

لنتناول السؤال الأول.

هل يمكن تبرير كمية الأموال المهولة الناتجة عن تصوير الفيديوهات ونشرها أخلاقياً؟ هل يستحق أن ينتج عمل كهذا مثل هذا العائد؟ شخصياً لا أجد متعة في متابعة مثل هذه الفيديوهات، لكن هذا لا يغير في حقيقة السؤال.

شخصياً وبمتابعة بسيطة للمعجبين والمعلقين على الفيديو، وجدت أن معظمهم من صغار السن، وهنا أعتقد أن هذه الفيديوهات ليست فقط من دون متعة، لكنها تُحدث ضرراً اجتماعياً ونفسياً للمتابعين الصغار. فهذا الانفصام بين الواقع الذي يرونه، والحياة المتخيلة، المرحة، المليئة بالألوان والسعادة والفرح، التي تعرضها هذه المقاطع، لا يمكن إلا أن يسبب الاكتئاب، خاصة لصغار السن، الذين لا يدركون أن ما يرونه ليس الحقيقة، وأن الحياة أكثر تعقيداً من هذه البساطة. هذه المقاطع من هذا المبدأ لم تعد محايدة، بل هي مضرة.

غير أن هذا السؤال يواجهه أثرياء العالم، هل يبرر إنتاجهم الفعلي وشركاتهم هذه العوائد الضخمة؟ هل يمكن تبرير زيادة ثروة مؤسس أمازون 75 مليار دولار خلال أزمة كورونا؟ هل يمكن تبرير زيادة ثروة مؤسس تسلا أو فيسبوك 100 مليون دولار في يوم واحد؟ لنلاحظ أننا نتحدث عن أشخاص أنشأوا شركات ووظفوا مئات الألوف من العاملين حول العالم، ومع ذلك هناك صعوبة في تقبل مثل هذه الأرقام، حتى لو كانت أصولاً وليست أموالاً حقيقة، هل يمكن تبرير الرواتب الضخمة للاعبين؟ ما الذي ينتجه لاعب ما ليستحق راتباً سنوياً قدره 100 مليون دولار، أو حتى 30 مليون دولار سنوياً؟

الإجابة بطبيعة الحال معقدة، وتتشعب أفقياً وعمودياً، لكنها تتمحور في النهاية حول اقتصاد السوق، والنظم القائمة حالياً والمتحكمة به. العائد المادي لا يأتي كانعكاس للمنفعة أو القيمة القادمة من العمل، بل هو انعكاس للعرض والطلب، فالعمل يصبح معزولاً عن القيمة. 

كمثال بسيط، يمكن لي أن أشتري سيارة ما بمبلغ 10 آلاف دولار، ثم أقول بعمل إضافات على محركها وفرشها الداخلي لتصبح فريدة من نوعها في العالم، حينها، من يحدد قيمتها هو الزبون، وكم يرغب في الدفع فيها، فقد أطلب سعراً قدره 100 ألف دولار، ويدفع الزبون 90 ألفاً مثلاً، لا يمكن قياس السعر الحقيقي للسيارة هنا لغياب قيمة مرجعية. فهذه السيارة لا يوجد مثلها في العالم الآن، وفعلياً هناك تجارة قائمة على هذا المبدأ، وتستهدف طبقات الأثرياء حصراً، فتجد الشركة تأخذ سيارة رياضية فارهة، وتعدلها بحيث تصبح فريدة في العالم، وحينها تصبح قيمتها بالاتفاق بين البائع والمشتري وليس بقيمتها الحقيقية. نفس الأمر تجده عندما تعرف أن هناك بعض الساعات يتجاوز سعرها 3 ملايين دولار! هل هذا هو قيمة الذهب والألماس فيها؟ بطبيعة الحال لا. 

في كل الكلام السابق هناك سلعة مادية، أما هنا فلا وجود للسلعة سوى المتعة المفترضة، وشخصياً لست مرتاحاً للاعتقاد أن هذا الدخل صحيح شرعاً، أو أنه مقبول عرفاً. أعتقد أن سؤال الإنسان يوم القيامة (وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه) قد يمتد لمثل هذا النوع من الدخول المهولة، خاصة تلك التي لا توجد فيها سلعة معتبرة. 

للإجابة عن السؤال الثاني يمكن أن نأخذ وجهة النظر الدينية بشكل مختصر، قبل التوسع في وجهة النظر الأخلاقية، فهناك مفاهيم التبذير والإسراف، وهي مفاهيم منهي عنها إسلامياً ومسيحياً على حد سواء. سُمي التبذير لأنه قادم من نثر البذور في الأرض، أي هناك هدر في شيء ما، دون ضوابط رادعة. يمكن أن نتحدث عن الائتمان على المال والنعم، ويمكن أن نتذكر الشق الثاني من السؤال (وفِيمَ أنفقه). هذه أمور مسؤولون عنها، ويجب التوقف والتفكير فيها. 

من وجهة نظر أخلاقية، لا يمكن تبرير مثل هذه التصرفات، سواء كان الفاعل سورياً أو عربياً أو حتى أمريكياً. جنسية الفاعل هنا لا علاقة لها بالموضوع، فالفعل نفسه مرفوض، بغضّ النظر عن فاعله، لكن كون الفاعل وكما تبيّن سوري الجنسية فهذا يضيف مشكلة أخلاقية، وكونه عربياً يجعل المشكلة أوسع، فلا يستوي هذا التناقض الصارخ بين مثل هذا الإسراف والواقع في منطقة منكوبة بأكثر من مكان.

كيف ستكون ردة فعلنا لو كان الفاعل من السودان مثلاً، الذي تغمر بلداته وقراه الفيضانات؟ كيف ستكون ردة فعلنا لو كان الفاعل من الروهينغا؟ هل سنقول حينها إنهم أحرار بأموالهم؟ 

هناك خلل كبير عندما يصرف شخص ما، في منطقة مثل منطقتنا 68 ألف دولار (وهو أقل رقم ذكر لسعر الإعلان، ولم نتحدث عن المصاريف الإضافية) في إعلان لجنس مولوده. كم طالباً يمكن تعليمه بمثل هذا المبلغ؟ كم غرفة يمكن بنائها؟ كم عملية جراحية؟ كم مشروعاً صغيراً يمكن دعمه؟ كم وكم وكم.

قد يقول قائل، لكن هذه ليست مشكلته، أن هناك فقراء، على مبدأ الأمريكي رالف إمرسون عندما قال في إحدى مقالاته: هل هم فقرائي؟ ومن الصحيح أن هذا الشخص لم يتسبب في فقرهم بشكل مباشر أو غير مباشر، لكن يمكن أن يكون متسبباً في مساعدتهم وانتشالهم من فقرهم، كونهم ليسوا فقرائي لا يمنع أن أفكر فيهم، عندما أصرف مبالغ طائلة بهذا الشكل، هنا يكمن جوهر المشكلة الأخلاقية. 

لنستعرض ذلك بمثال مبسط أكثر، لماذا نستهجن فعل شخص يحرق أمواله؟ لو افترضنا أن شخصاً ما دخل مطعماً واشترى وجبة طعام، ثم ألقاها في القمامة بوجود شخص جائع أمام المطعم، فهل هذا فعل أخلاقي؟ لو فرضنا أنني راكمت ثروة من حقن الإنسولين عبر العمل الشاق، ومررت بشخص يحتاج لحقنة فقررت أن أكسر حقنة وأرميها في الأرض، بحجة أنها ثروتي وأنا حر فيها، فهل هذا تصرف أخلاقي؟ علماً أن ثروتي من الإنسولين لن تتأثر لو أعطيتها للمحتاج.

إن القيمة والمنفعة هي التي تحكم على صحة العمل من وجهة نظر أخلاقية، الليبرالية الاقتصادية لا يعجبها هذا الكلام، لأنه يحد من الربح والإنفاق، ولأن العائد يخضع للعرض والطلب وليس للقيمة، بالعودة للسؤالين الرئيسين فهناك مشكلة بهما من وجهة نظر أخلاقية. 

بعض الردود قالت إن هذا جزء من استراتيجية السوق واليوتيوب والإنستغرام، زيادة عدد المشاهدات يدرّ أرباحاً أكثر، وبالتالي فما قام بفعله هو أنه "استثمر" ونجح في الاستثمار، وبالتالي هو لم يرمِ هذه الأموال، بل أعادها، وبالتالي فالمشروع ناجح. 

وفي حقيقة الأمر هنا مشكلة إضافية، فإذا تجاوزنا مبدأ هذا النوع من الاستثمار، والنجاح، لأن هذا يقع تحت نقاش السؤال الأول، فسنجد أن نفس الهدف يمكن أن يتحقق بطريقة أكثر تواضعاً وفيها مساعدة. هل يمكن تصور أنه لو قام مثلاً بعمل مسابقة في مخيم للاجئين ووزع هذه الأموال هناك لن يحصل على مشاهدات عالية، أو لن يُزيد متابعيه؟ هل فعلاً لا توجد أفكار يمكن تطبيقها في مثل هذه الاتجاهات؟ مرة أخرى النجاح مفهوم مختلف بين الليبرالية الاقتصادية، وبين وجهة النظر الأخلاقية. 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد قطشة
كاتب سوري
طبيب وكاتب سوري حاصل على الدكتوراة في العلوم الطبية، باحث في مجال السرطان والخلايا الجذعية. مدرس لمادة التشريح وعلم الوظائف. مهتم بالعلوم وعلم النفس والتعليم بشكل عام ومقيم في الولايات المتحدة الأمريكية.