في السابع من سبتمبر/أيلول الحالي، اندلعت مظاهرات شعبية غاضبة وُصفت بـ"النادرة" في منطقة المنيب، جنوب الجيزة، احتجاجاً على قتل الشرطة المصرية شاباً من أبناء المنطقة.
ليس غريباً أن تقوم الشرطة في مصر بعمليات قتل خارج القانون، ولكن هذه الممارسات اتّسمت في مصر منذ الثالث من يوليو/تموز 2013 بالطابع السياسي. مستحقو القتل بلا مساءلة هم المنبوذون سياسياً واجتماعياً من معارضي الانقلاب العسكري والنظام السياسي، وبالأخص من جماعة الإخوان المسلمين.
بينما يحظى عامة الناس، والجنائيون، بالمعاملة التقليدية، حيث يعيشون ويعملون في ظلال القانون والدولة، وبين الحين والآخر تحدث بعض المناكفات التي تبدأها جهات إنفاذ القانون، وتنتهي غالباً دون إصابات قاتلة، أو تغيير في موازين القوى ومعادلات الهيمنة، بيد أن قراراً فيما يبدو صدر بتغيّر هذا الوضع، أو بالعمل على تغييره.
ما الذي تغير؟
في الفترة بين الثالث والعشرين من أغسطس/آب حتى السادس من سبتمبر/أيلول الحالي، أي خلال نحو أسبوعين، وثّقتُ ما لا يقل عن عشرين حالة قتل لمواطنين قالت عنهم الداخلية إنهم خارجون عن القانون.
تتوزع تلك الحالات المقتولة بين الدلتا والصعيد في خمس محافظات، هي الدقهلية والشرقية، وأسيوط وأسوان وقنا، خلال ست عمليات، كان النصيب الأكبر منها لأسوان، التي قتل فيها، في الثاني من سبتمبر/أيلول الحالي سبعة أشخاص تابعين لمركز شرطة إدفو.
المتابع للإعلام الرسمي لوزارة الداخلية، وأنا أتابعه منذ أن كان للتلفزيون الرسمي مراسل معروف بتغطية هذا الملف يدعى "محمد علوي"، سيعلم أن تلك النسبة من القتلى، خلال هذا الوقت القصير، غير مسبوقة. وقد كتب باحثون متخصصون في الشأن المصري والأمني في، مثل المهندس أحمد مولانا، يؤكدون هذا الاستنتاج: هناك، فيما يبدو، نمط جديد في تعامل الشرطة مع غير السياسيين.
أسباب محتملة
هنالك ثلاثة أسباب ممكنة لتفسير هذا السلوك الجديد من جانب وزارة الداخلية، السبب الأول أن يكون الجنائيون في مصر باتوا أكثر جرأةً في تعاملهم مع قوات إنفاذ القانون. تقول بيانات الداخلية عن هذه الحوادث، دائماً، إن المطلوبين بادروا بإطلاق النار على الداخلية، واضطرت الشرطة للرد بنفس الأسلوب فقتلتهم.
ولكن الحقيقة، أنه لا يمكن لنا الثقة في البيانات الصادرة عن الشرطة المصرية بشكل عام، وفي تلك الصادرة بخصوص بعض الجنائيين بشكل خاص. ففي نفس الفترة التي تقاطعت مع موجة قتل أعداء الشرطة من الخارجين عن القانون، وقع موقفان يكثِّفان في جوهرهما مدى إمكانية الثقة في هذه البيانات.
الأول، ما أعلنه محامي عائلة الرئيس المصري الراحل محمد مرسي عن تواطؤ بعض أجهزة الأمن للتخلص من عبدالله، نجل الرئيس الأسبق بحقنة قاتلة، خلافاً لما جاء في بيان الشرطة عن الواقعة حينها. والثاني، هو وفاة الطبيب النفسي المعروف عمرو أبوخليل نتيجة مشادة مع أحد مسؤولي الأمن في سجن العقرب، بسبب التعنت في تقديم خدمات الإعاشة والعناية الصحية له ولغيره من المساجين، كما وثق أخوه هيثم أبو خليل. وكالعادة نفت الداخلية الأمر برمته، مشيدة بحالة السجون، ومعتبرة رواية أخيه دعاية سياسية "من أبواق الإخوان الإعلامية". ولو سلّمنا جدلاً بصحة تلك البيانات، فبحسب تلك البيانات نفسها، فإن الداخلية خلال 6 عمليات ذهبت خلالها إلى القبض على هؤلاء المطلوبين، لم يقتل منها فرد واحد خلال الاشتباكات المزعومة، واقتصرت الخسائر على إصابة فرد وضابط شرطة، فيما يكشف لنا القدرة العامة للداخلية على احتواء هذه المواقف، مع عدم الرغبة في ذلك.
هنا، يُطرح سؤال: إذا كان بمقدور الداخلية السيطرة على مثل تلك المواقف دون إزهاق للأرواح بهذا الكم فلماذا تختار قتل خصومها؟ والإجابة: أنه بات هناك تساهل من ضباط الأمن المركزي والأمن العام وإدارة البحث الجنائي، وهي الجهات المنوطة بتنفيذ هذه العمليات، تجاه دماء المطلوبين، تساهل مدفوع بالحصانة القضائية التي ضمنتها السلطة التنفيذية المسيطرة على باقي السلطات للضباط عند تخلصهم ممن يرون أحقيته بالقتل، خاصة بعد ما رأوه من غياب أي عقاب على جرائم زملائهم في الأمن الوطني المتهمين بقتل خصومهم السياسيين.
بالإضافة إلى قبول الرأي العام المحلي بالتخلص من الجنائيين الذين باتوا، لأسباب اجتماعية بنيوية، عبئاً على مناطقهم ومصدراً دائماً للخوف العام من الشارع. ويمكن ملاحظة هذا الترحاب بسهولة في تعليقات المواطنين المُهلِّلة لقتل هؤلاء المطلوبين (المسجلين خطر كما يطلق عليهم)، بل والمطالبة بالمزيد "لتنظيف المجتمع من هؤلاء الحثالة والمجرمين اللي بيهددوا ولادنا وبناتنا"، كما قالت إحدى السيدات معلقةً على بيان مقتل عدد من المطلوبين أمنياً. وبما أن جميع الأطراف مرحبة بالقتل خارج القانون: السلطة، وجهات إنفاذ القانون، ونسبة كبيرة من المجتمع، فلِمَ لا؟ خاصة مع غواية رفع شعار: محاربة الإرهاب والإجرام في نفس الوقت.
وبالنظر إلى عامل الوقت، وبالأخذ في الاعتبار التفسير السابق، فمن الوارد أن يكون ضباط الداخلية قد فهموا "شَدّة" السيسي لقيادات الأمن والمحافظين والمحليات على الهواء مؤخراً، وتهديده بنزول الجيش لحفظ الأمن العام، وتنفيذ إرادة الدولة في بعض الملفات، على أنها دعوة لتجفيف المنابع، وكسر الروافع الاجتماعية التي قد تساعد في إثارة الأمور خلال المواجهات المحتملة بين الشرطة والمواطنين أثناء تنفيذ حملات إزالة المباني المخالفة.
وبحسب بعض التقارير المحلية، فإن السيسي كما ينظر لحملة التصالح والإزالات كـ"فرصة" لإنعاش خزينة الدولة المنهكة من "كورونا" والمثقلة بالديون، ولإخضاع إرادة المواطنين، وتنفيذ مخياله عن المجتمع؛ فإنه ينظر إليها، أيضاً، كـ"تهديد" محتمل يستوجب الحرص، في ظل أنباء عن اجتماعات بين مرشحين سابقين للرئاسة ورجال أعمال عنوانها: عدم الرضا والتخوف من نتائج قراراته الضاغطة على المجتمع.
إسلام الأسترالي
بالعودة إلى ما حدث في المنيب يوم الإثنين الماضي، فإن واقعة قتل الشاب إسلام الأسترالي تعد مثالاً قياسياً على ما نتحدث عنه بخصوص سلوك الشرطة في مصر تجاه المواطنين. فما أدى إلى مقتله، بحسب تحقيق استقصائي لموقع المنصة، كان مشادة بسيطة بخصوص كشك أو "تندة" العصافير الذي يعمل به، مع أمين شرطة، وليس ضابطاً أو مسؤولاً كبيراً في الدولة، كان موقع إسلام فيها الدفاع عن شتم أمه، متسائلاً: "هي أمك أحسن من أمي؟".
وقد نفت الداخلية في بيانها الرسمي بعد الحادثة على لسان مصدر أمني، بحسها الفكاهيّ المعتاد، ما رآه آلاف البشر داخل البلاد وخارجها من مظاهرات في هذه المنطقة، في امتداد لمنطق الاستغفال والعيش في عوالم موازية بعقلية ما قبل يناير/كانون الثاني، مشيرةً إلى أن هذه المقاطع "فبركة من الأبواق الإعلامية للإخوان"، كما أعادت رواية القصة لتكون وفاة إسلام ناتجة عن أزمة قلبية وإعياء بعد شجاره مع أحد جيرانه في المنطقة على مبلغ مالي، في محاولة واضحة لتبرئة المسؤولين من كادرها الشرطيّ عن قتله.
ولم تكتفِ بذلك، بل اعتقلت والدته مرتين، جزاءً لإصرارها على رفض تسلم الجثمان قبل تحرير محضر يتهم الشرطة بقتله. ثمّ أحيلت القضية، بعد استشعار غضب أهالي المنطقة والرأي العام الافتراضي، للتحقيق في مكتب النائب العام، الذي بات موكلاً إليه امتصاص الموضوعات ذات البعد الجماهيري؛ ولكن دون إحالة المتهمين للمحاكمة، فهذا أقصى ما يمكن تحقيقه للمقتول غدراً من المواطنين، على يد جهات إنفاذ القانون في مصر السيسي، خلافاً لقضايا أخرى لا يتردد النائب العام في إحالة متهميها للقضاء على وجه السرعة.
ما جرى في حادثة الأسترالي قد يدفع الشرطة من الداخل إلى التحرز من عواقب التساهل في قتل المواطنين مجدداً، وبالأخص غير السياسيين، ولكن ما يحدث في مصر الآن بشكل عام، من أزمات اجتماعية حادة، طرفها الأول هو عامة الشعب والآخر هو السلطة، يعيدنا مجدداً إلى مشهد الثالث من يوليو/تموز 2013، حينما قبلت شرائح كثيرة دعوةَ السيسي إلى: "تعطيل العمل بالدستور بشكل مؤقت، وتولّي رئيس المحكمة الدستورية العليا منصب رئيس الجمهورية"، لا من جهة إطاحته بشخص أو فصيل معين، ولكن من جهة تدشين هذا التاريخ فصلاً سياسياً جديداً من عمر الوطن، يقوم، للأسف، على إهدار الشروط الأساسية لبقاء المجتمع، ومشروعية احتكامه إلى السلطة، وهي: القانون والعقلانية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.