فتح البلاد للاجئين ودعم المعارضة.. ما الذي يجب أن تقوم به تونس من أجل سوريا؟

عدد القراءات
641
عربي بوست
تم النشر: 2020/09/12 الساعة 13:08 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/09/12 الساعة 13:08 بتوقيت غرينتش
راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة، ونائبه عبد الفتاح مورو/رويترز

إن كان بإمكاننا وصف جزء من النخبة الفكرية والسياسية التونسية بشيء يصف موقفهم من الثورة السورية، فلا يمكن أن يكون سوى انفصام الفكرة وسياسة الكيل بمكيالين وازدواجية المعايير. كيف يمكن لعلماء الاجتماع والإنسان والنفس أن يفسروا موقفاً تونسياً عارض نظام زين العابدين بن علي لهمجيته تجاه حقوق الإنسان الأساسية، ولكنه يدعم نظام بشار الأسد في سوريا؟ بالرغم من أنّ بشّار فاق زين في إدارة التوحش.

الدبلوماسية التونسية تجاه الثورة السورية

يتفاخر الدبلوماسيون وبعض الساسة التونسيين بحياد وثوابت الدبلوماسية التونسية منذ الاستقلال، ودائماً ما يكررون هذه العبارة الأخيرة بالرغم من تناقضها في العديد من المناسبات مع الوقائع التاريخية (الصراع العربي الإسرائيلي، حركة عدم الانحياز، التبعية الموقفية تجاه دول الجنوب، ثنائية المصالح والمبادئ تجاه دول الشمال أو الأقليات..). لن نتناول اليوم موضوع فشل الدبلوماسية التونسية وعدم مواكبتها للعصر، ولكننا سنقتصر على الموقف التونسي تجاه القضية السورية.

في الأشهر الأولى التي تلت نجاح الثورة التونسية، كان الموقف الرسمي التونسي من الأحداث في سوريا باهتاً، حيث اكتفت السلطات المؤقتة في البلاد بالدعوة لوقف أعمال العنف وعقد حوار وطني جامع بين كل السوريين، تلاها استدعاء السفير التونسي في دمشق في 17 أغسطس/آب 2011. ويمكن إيعاز هذا الموقف الباهت من طرف الرئيس المؤقت فؤاد المبزع ورئيس الوزراء المؤقت الباجي قائد السبسي إلى انشغالهما بالأوضاع التي تشهدها تونس إثر سقوط نظام بن علي وفترة التوتر الأمني في الجارة ليبيا مع ما رافقتها من أزمة لاجئين كبيرة.

إثر انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011 والتي فازت بها القوى المعارضة في فترة ما قبل الثورة، شهدت الدبلوماسية التونسية تحولاً نوعياً في مواقفها في مختلف المجالات، وكان التوجه العام للسلطتين التنفيذية (رئاسة الجمهورية والحكومة) والتشريعية (المجلس التأسيسي) مناصراً لقضايا التحرر عموماً ولثورات الربيع العربي خصوصاً.

بالنسبة للملف السوري، شهدت العاصمة التونسية أول مؤتمرٍ للمجلس الوطني السوري في 17 و18 ديسمبر/كانون الأول 2011 بمشاركة واسعة من مختلف أطياف المعارضة السورية. في الأشهر الموالية، سرعان ما بدأت السلطات التونسية تحركها دعماً للثورة السورية، حيث قرر الرئيس المنصف المرزوقي في 4 فبراير/شباط 2012 طرد السفير السوري وقطع العلاقات مع النظام رداً على مجزرة الخالدية بحمص التي أودت بحياة أكثر من 300 شخص قبلها بيوم. بعدها بأيام، نظمت تونس المؤتمر الدولي الأول لأصدقاء الشعب السوري الذي شهد مشاركة حوالي 60 وفداً على مستوى وزراء الخارجية، قرروا في نهايته الاعتراف بالمجلس الوطني السوري كممثل شرعي وحيد للشعب السوري. أدى كل من قطع العلاقات وتنظيم مؤتمر أصدقاء سوريا إلى ردود فعل غاضبة لدى طيف واسع من النخبة التونسية، سنعود إليها لاحقاً.

في 29 مارس/آذار من نفس السنة، عقدت في بغداد أول قمة عربية بعد بداية الربيع العربي، وكانت المشاركة الأولى للرئيس المنصف المرزوقي الذي تقدم بكلمة قوية قطعت مع الخطابات الصماء التي عهدتها الدبلوماسية التونسية خصوصاً والقمم العربية عموماً، حيث كان خطابه متمحوراً حول قضايا الحرية والتحرر بالنسبة للشعوب العربية، مخصصاً جزءاً هاماً من خطابه للقضية السورية، داعياً إلى عدم تسليحها والسعي باتجاه إيجاد حل سلمي دون بشار الأسد. يذكر أن القمة العربية الموالية في الدوحة في 2013، شهدت تسلم الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية لمقعد سوريا في جامعة الدول العربية، ولكنها للأسف كانت المرة الأولى والأخيرة التي يشارك فيها الائتلاف بالجامعة حيث بقي مقعد سوريا شاغراً منذ ذلك الحين، وهو أمر متوقع عندما نشاهد العودة القوية لقوى الثورة المضادة ومسانديها في عدة دول عربية.

بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية التونسية في 2014، عادت الدبلوماسية التونسية لسالف عهدها، خاصة وأن الرئيس الجديد المنتخب الباجي قائد السبسي له باعٌ طويل في السياسة التونسية وكان قد شغل في آخر سنوات حكم الحبيب بورقيبة منصب وزير الخارجية، لذلك هو متشبع ومقتنع بمقولة "ثوابت الدبلوماسية التونسية" الكلاسيكية والمتكلسة.

وكما كان متوقعاً، فإن أول تصريحات الرئيس السبسي بخصوص الوضع في سوريا دعت إلى رفع تدريجي لتجميد العلاقات مع سوريا عبر التمثيل القنصلي أو القائم بالأعمال على الأقل، وهو نفس موقف وزيري الخارجية في عهد السبسي، الطيب البكوش وخميس الجهيناوي، حيث قال هذا الأخير إن المكان الطبيعي لسوريا هو جامعة الدول العربية. وفي بداية 2015، أرسلت تونس وفداً دبلوماسياً لسوريا تبعه قنصل في دمشق (كان تكليفه الرسمي بتاريخ 23 أكتوبر/تشرين الأول 2015). ثم في 27 ديسمبر/كانون الأول 2018، تم تنظيم أول رحلة جوية بين دمشق ومطار المنستير في تونس بعد توقفها لسبع سنوات. يذكر كذلك أن العديد من السياسيين التونسيين قد زاروا بشار الأسد ضمن وفود حزبية وبرلمانية.

أيتها النخبة التونسية، الشعوب أفاقت من كراها!

انفصام الفكرة وازدواجية المعايير هما ما يميزان فكر جزء كبير من النخبة السياسية في تونس، فكيف يمكن لسياسيين ناضلوا لسنوات قبل الثورة على ظلم نظام بن علي، أن يدعموا نظام بشار الأسد رغم المجازر التي قام بها، وأخص بالذكر هنا ائتلاف الجبهة الشعبية (يسار، شيوعية) وحركة الشعب (يسار، عروبية ناصرية)، فكثيراً ما دافع قياديوهم عن نظام دمشق وإعادة العلاقات معه، وأبرزهم حمة الهمامي وسالم الأبيض وزهير المغزاوي، بالرغم من أن النضال في عهد الاستبداد هو المشترك بينهم.

الأمر الذي يفسر هاته المواقف هو العداء للتوجهات السياسية الإسلامية بكل تياراتها الفكرية، والخوف من اعتلائها للحكم في سوريا. دون أن ننسى اسطوانة المقاومة والممانعة التي تمثل حلقة الربط بين التيارات اليسارية العربية مع الفكرة البعثية السائدة في المنطقة.

الأدهى في هاته القصة هو مكانة الفرد، ماهي قيمة الروح البشرية؟ هل يحق لي كإنسان أن أعارض وأقول كلمة لا؟ هل بشار الأسد أفضل من الله الذي خلق معارضته المتمثلة في الشيطان وترك له الحرية مع عباده على قول راشد الغنوشي، لماذا أيها التونسي ترى أن لك الحق في المشاركة في الانتخابات ونقد من في الحكم وممارسة حقوقك السياسية بكل حرية، بينما نظيرك السوري لا يستطيع حتى أن يخمن في قرارة نفسه معارضة موظف البلدية المشرفة عليه؟ 

يجب أن تعلم النخبة التونسية المعنية بهاته الكلمات أن في سوريا فكرة خرجت من قفصها ولن تعود، أن السوري الذي ذاق نعمة الحرية في فؤاده عند خروجه متظاهراً في مدن حمص وحلب ودرعا وإدلب ودمشق وحماة ودير الزور والحسكة وغيرها من المدن والقرى، هذا السوري بالذات، لن يقبل العودة إلى الوراء، بالرغم من كل التدخلات الخارجية وكل الأزمات الاقتصادية والإنسانية التي تعرفها سوريا منذ سنوات. يجب أن تعلم النخبة التونسية أن السوري الذي صدح بالحق وحمل سلاحه عندما اشتد القصف دفاعاً عن أمٍ مقتولة وأختٍ مغتصبة وأخٍ معذب وأبٍ عاجزٍ، هذا السوري بالذات، لن يهدأ له بال إلا بتغيير النظام في وطنه العظيم. يجب أن تعلم النخبة التونسية أن نصف الشعب السوري أو أكثر المهجر والنازح لن يغفر لكل من خذلهم في هاته الثورة المشرفة. يجب أن تعلم النخبة التونسية أن ازدواجية معاييرها لن تزيدها إلا احتقاراً لفكرها من كل نفس حر في العالم. يجب أن تعلم هاته النخبة التونسية بالذات، أن سوريا تستحق ديمقراطية مثل تونس، وحرية مثل تونس، وانتخابات مثل تونس، ومشاكسات سياسية مثل تونس، وأزمات سياسية تحل بالحوار مثل تونس، وآراء مختلفة في الإعلام مثل تونس.

يجب أن تعلم هاته النخبة أن المبادئ قد تجزأت عندها، وأن معاني الحرية والكرامة منقوصة لديها، وأنها غير مؤتمنة على تواصل الديمقراطية في بلادها، طالما أنها ترى الاستبداد أمراً محموداً في دول أخرى.

ما الذي يجب أن نقوم به من أجل سوريا؟

من المؤسف أن تونس وهي مهد الربيع العربي، ليست قبلة للمظلومين والمهجرين واللاجئين والأصوات الحرة، حيث إنها لم تواصل هاته التجربة الجميلة فاستقبال مليون شقيق ليبي أثناء الثورة الليبية، آواهم التونسيون تطوعاً في منازلهم وأدخلوهم ديارهم، وأنا متأكد من أن التونسيين كانوا سيفعلون نفس الشيء لو فتح جزء من الحدود في وجه السوريين الذين شردوا في أصقاع العالم.

ما الذي يمكن أن تقدمه تونس اليوم للثورة السورية؟ كيف يمكن لتونس التي تعاني من أزمة اقتصادية متواصلة أن تساعد الشعب السوري في محنته؟

  • استقبال اللاجئين بالتعاون مع الأمم المتحدة والمنظمات الخيرية الوطنية والدولية.
  • فتح الأبواب في وجه المعارضة السورية المهيكلة (الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، الحكومة السورية المؤقتة..).
  • دعم الإعلاميين الأحرار واستقبالهم في المؤسسات الإعلامية التونسية والدفع نحو انتصابهم في تونس.
  • جعل تونس منصة للحوار السوري السوري، والمساعدة في تنظيم الندوات الفكرية والمؤتمرات السياسية للمعارضة.

كل هاته النقاط وغيرها يمكن تطبيقها إن وجدت إرادة سياسية تهتم لمكانة الإنسان وحريته وكرامته، حيث إن الجانب المالي يمكن أن تؤمنه المنظمات والهيئات الدولية.

في نهاية المطاف، يجب على تونس التفكير جدياً في تغيير عقيدتها الدبلوماسية لكي تواكب العصر والمتغيرات السريعة التي يعرفها العالم، وعليها أن تكون منسجمة مع الروح السياسية الجديدة التي تميز فترة ما بعد الثورة. إن تجزؤ المبادئ خطير على الفرد وعلى الدولة في آن واحد، فلا يمكن القبول بالظلم في دولة ورفضه في أخرى، وهو ما ينزع الثقة في أي كيان سياسي ينطبق عليه هذا القول.

الثورة السورية انطلقت، وفكرة الحرية خرجت من صندوقها وكسرت أغلالها ولن تعود للوراء.

إذا الشعب يوماً أراد الحياة، فلا بد أن يستجيب القدر

ولا بد لليل أن ينجلي، ولا بد للقيد أن ينكسر.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمد الغمراسني
ناشط سياسي تونسي، طالب ماجستير جيوسياسة وعلاقات دولية في جامعة باريس 8.
ناشط سياسي تونسي، طالب ماجستير جيوسياسة وعلاقات دولية في جامعة باريس 8.
تحميل المزيد