بحكم معيشتي في بروكسل ببلجيكا تابعت على مدى أعوام طويلة المكانة المرموقة التي كان يتمتع بها طارق رمضان بين المسلمين وغير المسلمين في الغرب الفرانكفوني. ولم يكن يمر أسبوع دون أن تجده يحل ضيفاً على أحد البرامج الفرنسية المهمة. وعندما ترى الرجل وتسمعه تشعر أنه نال تاسيساً علمياً قوياً بالفعل، وأن له حضوراً قوياً وقدرة فكرية تبز مجايليه حتى من كبار المفكرين والفلاسفة الذين يستضاف معهم.
وكانت كتبه في كل مكتبة وتجري ترجمتها دوماً، وكثيراً ما رأيت البعض يقرأها في المترو والأتوبيسات. وقد وصلت شهرته إلى خارج العالم الفرانكفوني. وما زلت أذكر أنه عندما دعته ألمانيا لإلقاء المحاضرة السنوية في "قصر ألماو"، وهو أمر جد مهم، خاصة في سياق الفكر الألماني، جاؤوا له بالفيلسوف الألماني الشهير يورجن هابرماس كي يقدمه ويناقش محاضرته. وأذكر أن هابرماس نفسه اشتكى من عدم توزيع الأدوار بالعدل بينه وبين طارق رمضان!
وبسبب هذا التأثير المتعاظم، خاصة على المسلمين الأوروبيين، ما كان الرجل ليترك وشأنه، هكذا ظننا، وبدأ أناس من تيارات متباينة في مناوشته ومحاولة تحجيمه. واذكر أن ساركوزي هاجمه بالاسم عندما كان وزيراً لداخلية فرنسا ثم هاجمه بالاسم عندما أصبح رئيساً لفرنسا نفسها. وكذلك هاجمه بوش الابن عندما كان رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية ومنعه من دخولها والعمل فيها. ولكن توني بلير تدخل لصالح طارق رمضان الذي انتقل للعمل في أكسفورد! وآنذاك صدر سيل من الكتب والمقالات التي تتهمه بالتطرف، وبالطبع لم يوقفه هذا بل صال وجال أكثر.
وآنذاك في بداية عام 2016 بدأت ألاحظ أن نرجسية الرجل تتزايد، ويومها قلت لطلابي المعجبين به إن أكثر ما يزعجني في طارق رمضان هو نرجسيته المتزايدة لأن فيها نهايته!
ولأن الهجوم السياسي وكذلك الهجوم الإعلامي لم يفد أصحابه شيئاً بدأت موجة من الهجوم الفيمنيستي عليه، وجرى اتهامه بالتحرش والاغتصاب. بالطبع لم تتوقف الاتهامات الأخرى، ولكن كان الأمر حول هذا الموضوع تحديداً – التحرش والاغتصاب – يثير الريبة في الجانبين.
وبعد فترة من مطاردة طارق رمضان وسجنه أقر في بداية سبتمبر/أيلول 2019 (علناً وبعد مماطلة) بأنه كذب بشأن إنكار علاقاته بالمشتكيات. وأنه كانت توجد بينه وبينهن علاقات حميمة، ولكنها كانت بالتراضي، ولذا لا تعد اغتصاباً حسب القوانين الغربية.
ومثل اعتراف طارق رمضان بوجود هذه العلاقات صدمة للمجتمع الإسلامي الأوروبي. فالرجل الذي اتخذوه قدوة أخلاقية لهم يعيش حياتين متناقضتين؛ واحدة للعلن يرتدي فيها مسوح العلماء وأخرى سرية لا يرتدي فيها شيئاً. وأنه تم اصطياده بالفعل وتدمير صورته بشكل لا يمكن إصلاحه. وحتى لو كانت هناك مؤامرة عليه فقد قدم هو للمتآمرين فرصة لاغتياله بسبب سلوكه المرضي الذي يتنافى تماماً مع كل ما يدعو إليه.
**
وقد تذكرت كل هذا وأنا أتابع ظاهرة خطيب الأوقاف الشاب الشيخ عبدالله رشدي. وكان أول ما لفت نظري أن الشبه بينهما كبير في نقطة محددة سأعود إليها في الفقرة الأخيرة من هذا المقال. ولكنني أستبق ذلك فأقول أنني لا أزعم أن بينهما شبهاً فكرياً ولا حتى منهجياً؛ فالشيخ عبدالله رشدي صاحب جدل بينما طارق رمضان – رغم كل شيء – من أهل الفكر والبرهان، وكان يمكن له أن يكون فلتة زمانه لولا أنه جنى على نفسه وعلينا أيضاً.
وكذلك يوجد بينهما فرق واضح لابد وأن أشير إليه أيضاً يتعلق بنقطة الانطلاق ومنهج التناول. فطارق رمضان ينطلق من محاولة إثبات أن الإسلام وأخلاقياته لا يتناقضان والأخلاقيات العامة المعاصرة، وهذه النقطة تحديداً تمثل تطوراً كبيراً لرؤية الإخوان المسلمين. بينما ينطلق عبدالله رشدي من موقف مغاير يركز على تمايز الإسلام عن هذه الأخلاقيات وعن الأديان الأخرى. وهذا الفعل منه يمثل ولا ريب تخلفاً كبيراً عن رؤية الأزهر الوسطية الذي يسعى لنشر قيم التواؤم والتسامح في المجتمع وعلى المستوى الدولي.
ومن واقع مشاهدتي للقاءات الشيخ عبدالله رشدي ومجادلاته وقراءة بعض ما ينشره على صفحته الشخصية أستطيع أن أقول إنه نادراً ما يقدم رؤيته تلك "بالتي هي أحسن"، ولكنه يتقحم ويراوغ ويتخابث ويكايد بشكل لا يليق بالعلماء. وظني أنه لا يسمع ما يقول أي من محاوريه إلا في إطار الإجابة عما يطرحه هو من أسئلة تبدو صبيانية في غالب الأحيان. والمصيبة أنه يفعل هذا ويظن نفسه من أهل الفكر والبرهان. وحتى في حواره مع فريدة النقاش عندما قال "نحن كمفكرين.." قالت له عن حق إن هذه ليست طريقة المفكرين.
وهذا ما يفسر لماذا يبدو الشيخ عبدالله رشدي رغم مظهره المودرن أكثر انغلاقاً أمام الغير. وهو بالتالي أقرب للسلفيين فكرياً وزمنياً. وفي إحدى تدويناته سُئل: لماذا لا تهاجم السلفية كما ترد على الملاحدة والعلمانيين والتنويريين؟ فأجاب: "لن أترك المعركة مع من ينسفون أصول المِلَّةِ لأفتعل عراكاً مع إخوةٍ لنا خالفونا في أمورٍ ليس شيء منها كفراً لكنهم مُقِرُّون بثوابت المِلَّة". فالرجل يراها معركة ويشعر أن أصول الملة تحتاج لحمايته وأنه مع السلفيين على خط الدفاع نفسه!
كثير من معارضي الشيخ الشاب يزعمون أن وراءه جهازاً أمنياً ما يصنعه على عينه، وأنه كلما ظهر تهافت حصيلته العلمية والفكرية يجري وقفه عن الخطابة حتى يبدو لمتابعيه وكأن الدولة تترصده وتنكل به. وأنا للحقيقة أستبعد هذا الأمر لأنه لا توجد أدلة دامغة على أنه حقيقة وليس مجرد غيرة وظنون، ولا أريد أن أبني تحليلي على ظنون. وأنا بالطبع لا أنكر أن كل الخطباء على صلة أكيدة بالأمن، ولكن أستبعد فقط أن تكون هناك خطة أمنية وضعت خصيصاً لعبدالله رشدي وحده.
هناك ولا شك خطة ولكنها خطة عبدالله لرشدي لنفسه. وقد صرح في التدوينة السابقة أن ما يفعله هو خطة شخصية خاصة به وضعها لنفسه قبل خمس سنوات: "منذ 2015 انتبهت لأن هناك زحفاً يريد ابتلاع ثوابت الملة.. فكرَّسْتُ جهدي لذلك منذ خمس سنوات. واليوم الحمد لله صرتُ أرى في كثير منكم الحصاد. مستمرٌّ في طريقي بمدد الله نمضي وبه نصول ونجول وبتثبيته نثبتُ".
وظني أن نجاح الخطة الشخصية لعبدالله رشدي، والتي يشهد على نجاحها الجمهور العريض الذي يتابعه، أدى إلى غيرة ونفسنة الكثيرين، خاصة من الإعلاميين التنويريين الذين يحاولون منذ مدة ولم ينجحوا مثل هذا النجاح. فيبدو أن اللعب عن طريق الإسلام التقليدي المنغلق على نفسه ينجح هنا أكثر من اللعب عن طريق الإسلام التنويري المنفتح على الغرب!
**
لكن المدهش في ظاهرة الشيخ عبدالله رشدي، وهذا رأيي الشخصي، هو الطريقة التي بنى بها اسمه خلال السنوات الخمس المقصودة. وهي طريقة يمكن تلخيصها بأنه أسرف على نفسه باستخدام الجسد ولغته خلال رحلة صعوده تلك! وهذا ما جعلني أشبهه بطارق رمضان. بالطبع طارق رمضان ليس مفتول العضلات كعبدالله رشدي، ولكنه أكثر وسامة بالتأكيد، وكانت قدراته الفكرية والبلاغية توازي تلك الوسامة المغرية. أما في حالة عبدالله رشدي فقدراته الفكرية هي القدرات المعتادة عند الأزاهرة الأوساط؛ فلا هي كافية ليكون صاحبها مفكراً كبيراً، ولا هي باهتة ليكون صاحبها عامياً مثل الكثير من متابعي الشيخ عبدالله رشدي ومن نقاده أيضاً.
ولكن مشكلة عبدالله رشدي أنه يعوض هذا النقص الجلي في قدراته الفكرية بالتركيز على إثارة المشاعر الجسدية وتقديمها على إثارة المشاعر الإيمانية، وهي في صميم عمله! فصور الرجل والأوضاع التي يتم تصويره فيها تجعل منه نمطاً جديداً في مجال الحديث باسم الإسلام، فهو وباختصار أول أزهري أعرفه يستخدم الإيحاءات الجنسية في الدعوة الإسلامية! حتى الوسم الذي يستخدمه (الأزهر قادم) يمكن أن يفهم بشكل جنسي أيضاً!
هذا الإعجاب الشديد بالجسد عادة ما يؤدي إلى لون من النرجسية المرضية التي قد تفوق نرجسية طارق رمضان! والخبرة الحياتية تقول لنا إن مثل هذه النرجسية تخفي وراءها أشياء أخرى تجعل من نهايات أصحابها مفزعة، ليس فقط للشخص نفسه ولكن أيضاً للفكرة التي يتحدث باسمها، ولمن يعتقدون في مشيخته وطهارته واتزانه النفسي والمعيشي. وهنا تحديداً لنا في مصير طارق رمضان مثل وعبرة.
ومرة أخرى أنا لا أقارن هنا بين قدرات الرجلين العلمية، وإنما الأبعاد النرجسية بين الحالتين والتي تتجلى في استخدام الجسد في المجال الديني. فطارق رمضان كان مفتوناً بنفسه ومظهره بدرجة أقرب ما تكون إلى افتتان عبدالله رشدي بنفسه وجسده، لذا أتوقع منذ الآن أن المصير الذي ستنتهي إليه ظاهرة عبدالله رشدي سيشبه وإلى حد كبير المصير الذي انتهت إليه ظاهرة طارق رمضان.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.