يعتبرونه المهدي المنتظر وصوتهم ضد العلمانية.. لماذا يحب الملتزمون دينياً عبدالله رشدي؟

عدد القراءات
725
عربي بوست
تم النشر: 2020/09/10 الساعة 14:29 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/09/11 الساعة 13:24 بتوقيت غرينتش
الداعية عبدالله رشدي/ وسائل التواصل

يعتبر مشروع قانون الإفتاء الذي تم سحبه من البرلمان المصري، مدخلاً هاماً في فهم الصراع بين مؤسستي الرئاسة والأزهر. إذ رفض شيخ الأزهر القانون باعتباره يسحب ويخصم صلاحيات الإفتاء من الأزهر ليمنحها لوزارة تنفيذية مثل وزارة العدل. وفي انتصار شيخ الأزهر على مشروع القانون وإسقاطه لعدم صلاحيته أرى فرصة هامة لفهم طبيعة الصراع بين المؤسستين.

أفق الصراع

يعتقد الكثير من المحللين السياسيين وعامة الناس أن مؤسسة الأزهر تُحارب من قبل مؤسسة الرئاسة وهذه حقيقة في نظري. لكن ما يهمنا بالأساس هو فهم طبيعة تلك الحرب أو ذلك الصراع الدائر في رحايا الدولة المصرية. يتمحور الصراع الجاري حول مناطق النفوذ، والفراغ الاجتماعي والسياسي الذي خلق نتيجة انزواء الجماعات الإسلامية إلى الظل، بسبب البطش الأمني، لتحل محلها الدولة بأدواتها المتمثلة في وزارة الأوقاف، والعمل على تأميم مجال الدعوة بحيث يكون خاضعاً للمؤسسات الدينية الرسمية.

يعطينا الصراع صورة لابد من فهمها جيداً، صورة متعلقة بحقيقة أن شيخ الأزهر لا يمثل سوى ملمح من ملامح الإسلام التقليدي المهادِن للسلطة طالما لا تقترب من مساحات وظيفته ومناطق نفوذه، ولكن الجديد في الموضوع أن الأزهر يحاول التمدد في مساحات جديدة.

وهنا نستطيع القول إن خروج الأزهر من قمقمه لساحات المجال العام جعل بعض الأصوات النابعة من بعض أفراد الطبقة الوسطى المحافظين اجتماعياً تتهكم وترفض توجهات الأزهر فيما يتعلق بعدة قضايا، مثل رؤيته لحرية المرأة الشخصية أو موقفه من قضية التحرش. تصاعدت تلك الأصوات من طبقة المفترض بها أن ترى في موقف الأزهر انتصاراً لمبادئها، لكن هذا لم يحدث. وعلى الضفة الأخرى نجد أصوات الليبراليين واليساريين تتعالى بتعليقات من قبيل: "لفتة طيبة من الأزهر"، "موقف تنويري".. فيصبح الأزهر حاملاً للواء التنوير في نظر بعض هؤلاء.

لكن تشترك الشرائح المتوسطة المحافظة من الطبقة الوسطى مع التيارات العلمانية، والليبرالية في مأزق هام يتعلق بمواقفهم من الأزهر. ذلك المأزق بالنسبة لتلك الشرائح متعلق بالأساس من مواقفها السياسية تجاه السلطة حالياً، فهي لا تشترك في سياسات المشهد، ولكنها متفرج ينتظر موقفاً ما لتتحرك في مساحات سواء لتعلن عن تأييدها أو رفضها. ولن تجد في مواقف الأزهر سوى الرفض يمكن التجاوب معه نظراً لميراث الأزهر المهادن الذي لا يمتلك سلاحاً أو قوة أو تهديداً، لكن ما قام به الأزهر كان تهديداً من نوع جديد لتلك الطبقة التي ظلت تنظر إلى الأزهر سابقاً باعتباره حصنها الأخلاقي. أما التيارات العلمانية فإن تأييدها أتى من تصوراتها التقليدية التي تنظر إلى المؤسسات الدينية باعتبارها مؤسسات رجعية، فهي كشرائح الطبقة الوسطة المنفتحة نسبياً، تنتظر من مؤسسات الدولة أن تدعم وجهات نظرها على الرغم من أن معركتها الحقيقية يجب أن تكون مشتبكة مع خطاب السلطة وأماكن نفوذها الاجتماعي.

ما قام به الأزهر، وما سيقوم به سيثير سخط الشرائح المتوسطة المحافظة والمحافظين بشكل عام، ما جعل تلك الطبقة المنتشرة على الفضاء الافتراضي تبحث عن بطل مثلها يجمع بين سيطرتها على مساحات الفضاء الإلكتروني مع الحفاظ على ملامحها وانحيازاتها الأخلاقية المحافظة في ظل نزعة من العلمنة تنامت بعد يونيو 2013. ومع غياب الدعاة القدامى بدا أن ظاهرة "الداعية الافتراضي" ستكون بمثابة المهدي المنتظر.

كانت مساحات الفضاء الافتراضي رقعة هامة في بناء نمط الداعية الافتراضي وهو نمط جديد من الدعاة يختلف عن الدعاة القدماء أمثال: عمرو خالد  وعمر عبدالكافي، كلاهما اعتمد على بناء شبكات اجتماعية مع الشرائح العليا من الطبقة الوسطى أولاً ثم شرائحها المتوسطة ثم الأفقر من خلال منهج الأدلجة من المستوى الفوقي، والتحتي، وباختفائهم عن المشهد السياسي. لكن بانزواء الجماعات الإسلامية أصبحت مساحات الضبط الاجتماعي ساحة صراعاً بين الأزهر من جهة والدولة من جهة أخرى، وفي خضم هذا الصراع سيخرج من أنقاض المشهد الدعوي ما يجسّد نمط الداعية الافتراضي، والمهدي المنتظر للمحافظين.. عبدالله رشدي.

ما جعل رشدي يحظي بهذا الصدى والاهتمام الإعلامي أنه يمثل ويعبر عن سخط تلك الشرائح في موقفين حساسين بالنسبة لها. الأول هو نقده الخطاب الأزهري الجديد الذي مثل لها -أي للشرائح المحافظة من الطبقة الوسطى- صدمة نظراً لميراث الأزهر المحافظ في قضايا مثل: المرأة والتحرش والاغتصاب والاحتشام والحجاب وغيرها من القضايا المتعلقة بالمجال العام.
الموقف الثاني الذي رفع من أسهم عبدالله رشدي هو مناظراته للعلمانيين أو ما يطلق عليهم "التنويريون" أمثال إسلام البحيري وخالد منتصر. وعند النظر ومراقبة وتحليل تلك المناظرات نرى رشدي يستغل كل فرصة للتأكيد على أن التنوير أمر مرفوض باعتباره سيقود للانحلال. وهذا رأي متوقع لأن رؤية رشدي ماكثة في مأزق تاريخي من خلال نظرته للتنوير باعتباره قيمة أكثر منه مشروع لأن صفات كالانحلال تتعلق بالأساس بقيم معنوية وليست مشاريع ثقافية واجتماعية.

في الوقت نفسه فإنه يعبر عن الموروث الديني الذي لا تزال بعض قطاعات الطبقة الوسطى سالفة الذكر تحافظ عليه، وهو المحافظة على القيم الدينية في مواجهة قضايا الانفتاح الأخلاقي تلك التي ظهرت بوضوح في "قضية سارة حجازي".

خطاب رشدي

ينبع خطاب عبدالله رشدي من ثنايا الصراع الدائر بين الأوقاف والأزهر ما يجعل من صورة رشدي بالنسبة لبعض الشرائح المحافظة من الطبقة الوسطى رمزاً أخلاقياً بالأساس، باعتباره يناضل من أجل الموروث الديني الذي طالما تبنته الجماعات الإسلامية لصالح الطبقات الوسطى المعتدلة. ذلك الموروث الذي جعل من تلك الطبقات تحافظ على هيمنتها الأخلاقية طيلة أعوام ما قبل الثورة، وهو اتجاه دعمته الدولة منذ ثورة يوليو. لكن ومع مجيء ثورة 25 يناير والتي تعتبر القطيعة الفعلية لمشروع دولة يوليو فقدت الشريحة المتوسطة المحافظة للطبقة الوسطى سيطرتها على مساحات الضبط الاجتماعي مع تصاعد سخط الطبقات الأصغر سناً فيها، وظهر الواقع الافتراضي كساحة جديدة من ساحات الصراع بين الطبقات وأبنائها من جانب، وبين الدولة وطبقاتها من جانب آخر.

مع ابتعاد الجماعات الإسلامية من الواقع وساحات الواقع الافتراضي أصبحت مساحات الضبط بحاجة إلى نوع جديد من الخطاب الديني يلائم لغة المواطنين خاصة مع تصاعد الصوت العلماني في عدد من المواقف منها: منع النقاب والمناداة بخلع الحجاب، وغلق القنوات الدينية. وهو ما وفره عبدالله رشدي. 

العلمانية الهشة 

بنى عبدالله رشدي قوته الأساسية على تفنيد ما يقوله الصوت العلماني، والظهور في مناظرات تلفزيونية للرد على العلمانيين، وتشويه صورتهم على الفضاء الافتراضي ما جعل الطبقات الأكثر محافظة في الطبقة الوسطى تجد مهديها المنتظر الذي أتي خطابه ملائماً لتصورات وتوقعات تلك الطبقة. إذ يجمع رشدي في خطاباته بين لغة عامية بسيطة، كما يخلق عدواً واضحاً ألا وهو العلمانية، باعتبارها مذهباً منحلاً يبيح العري والعلاقات الجنسية المحرمة. وكما يقول المفكر الكبير ياسين الحاج صالح في كتابه "أساطير الآخرين: نقد الإسلام المعاصر ونقد نقده": "وتلك الرؤية يشترك فيها الإسلام المعاصر الذي لا يكتفي برفض استقلال الأخلاق عن الدين، بل يبدو أنه لا يتصور إمكان أخلاقية غير دينية. والانحياز المهيمن في المجال الإسلامي هو أن لا أخلاق خارج الدين".

هنا يظهر الغرب بالنسبة للداعية الافتراضي باعتباره نموذجاً هشاً متناقضاً يحمل في ثناياه أصوات تنادي بالفضيلة وموجودة في الإسلام هنا يصبح الاسلام ليس ديناً بل أيديولوجيا صالحة لكل زمان ومكان. تلك الرؤية تظهر أيضاً عند الإسلامي بكافة أشكاله مع ملاحظة غائبة عن تلك الرؤية الإسلامية نابعة من "عدم فهم سياق للدولة الحديثة التي لا تتصارع مع الدين لكنها تسمح بشكل خاص للمعتقدات الدينية وللعبادات بأن تنمو بحرية خارجها على ألا يمتد مطلب حق ممارسة حريات المعتقد إلى أفعال"، كما يوضح مارسيل غوشيه في كتابه "الدين في الديمقراطية".

استدعاء الدولتية

يقوم خطاب رشدي على استدعاء النزعة الدولتية وهو يظهر بوضوح في هاشتاغ (الأزهر قادم) وهذا النوع من الهاشتاغات يقوم بالأساس على تدعيم نمط مؤسسات الدولة في مواجهة حرية الأفراد وما يدركه ويفهمه رشدي بوضوح هو "أن الساحة الإسلامية الآن تعاني من فقدان التيار الإسلامي الذي دأب منذ التسعينيات في احتلال مساحات من الفضاء العام بالرغم من فشله في زعزعة استقرار النظام إلا أن نتيجة ذلك كان تبني الدولة التسلطية جوانب من التدين المحافظ"، كما يشرح المفكر الإيراني الكبير آصف بيات.

وهو جانب لا يزال في خطاب رشدي رغم ابتعاده عن الفكرة التنظيمية للجماعات الإسلامية لكن الجديد بالنسبة لموقف عبدالله رشدي هو استعادة الأزهر كمؤسسة أخلاقية بالأساس تحتضن كل الطبقات الشاردة الباحثة عن تيار تتفق عليه في مواجهة العدو المرسوم بعناية "الغرب العلماني"، وهي صيغة تتكرر بانتظام في خطاب رشدي.

تكمن خطورة خطاب عبدالله رشدي في أنه استمرار لنمط المحافظة الدينية المستهدف من جانب الدولة في مقابل النزعة الإسلامية الحركية التي مثلتها الحركات الإسلامية فيما سبق؛ لأن استدعاء الدولة للحفاظ على القيم والأخلاق لم يكن بحاجة فقط لثورة للإطاحة بحكم الإسلاميين. ولكن بالتوازي مع ذلك احتاجت الدولة إلى خطاب موازٍ من أجل إحكام السيطرة على مناطق النفوذ السياسي والأخلاقي للجماعات الإسلامية؛ لأن مشهد يونيو 2013 أعاد صياغة المجال العام باسترداد الدولة لمساحات النفوذ الأخلاقي الذي سيطرت عليه الجماعات الإسلامية طيلة عقود ماضية. وفي هذا السياق يمثل خطاب رشدي الرهان الأكبر لها لأنه يريد الحفاظ على المجال السياسي والأخلاقي للدولة دون مشاركة من أحد لأن الحديث عن العلمنة أو أي أيديولوجيا تقضي على نفوذ الدولة يعني بطريقة أو بأخرى المناداة بإعادة المجال العام لأفراد المجتمع وهو جانب لا تريده الدولة الآن في ظل صراعاتها مع القوى السياسية، وتحديداً الإسلامية.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علي عبدالفتاح
كاتب مصري متخصص في الشؤون الثقافية والتاريخية
كاتب مصري متخصص في الشؤون الثقافية والتاريخية
تحميل المزيد