في القرن الرابع عشر كان يحكم مملكة مالي والتي كانت تضم النيجر ومالي وأجزاء من نيجيريا وموريتانيا حالياً الإمبراطور مانسا موسى، الذي كان يعتبر وما زال من أغنى أغنياء العالم بسبب تقدير ثروته الشخصية بنحو 400 مليار دولار، وكان حاكماً مسلماً سنياً محبوباً في إفريقيا بسبب بنائه العديد من المراكز التعليمية والمساجد، وقد قرر في إحدى السنوات أن يحج إلى بيت الله الحرام في مكة، فخرج في رحلة تمتد إلى ستة آلاف كيلومتر مصطحباً قافلة تضم 60 ألف رجل، وكان يوزع الذهب على طول الطريق، حتى إن كمية الذهب التي وزعت في مصر على الناس أربكت الاقتصاد المصري طيلة عقد كامل، وقالت شركة "سمارت أسيت" الأمريكية إنه بسبب انخفاض قيمة الذهب بعد التوزيعات التي قام بها الملك المالي شهد الشرق الأوسط خسائر اقتصادية تقدر بنحو مليار ونصف دولار في ذلك الوقت، بحسب موقع BBC.
وهكذا كان التأثير الأول على مصر القادم من إمبراطورية مالي.
*****
انهارت إمبراطورية مالي تحت هدير مدافع ورصاصات المستعمر الغربي الذي استباحها لخيراتها وشتت أبناءها وباعهم في أسواق العبيد على امتداد العالم الجديد في الأمريكتين، وبدأت حقبة حالكة السواد ليس على مالي التي جُزّئت إلى دول متفرقة بل على إفريقيا كلها. ولكن مع منتصف القرن العشرين بدأت الدول الإفريقية تدب فيها روح التحرر وأصبح وجود المستعمر الغربي غير مرغوب فيه، خصوصاً بعد أن ساندت مصر ثورة يوليو 1952 حركات التحرر في إفريقيا، الأمر الذي أدى إلى خروج المستعمر ولكنه لم يخرج من بعض الدول إلى غير رجعة ففي دول مثل دول الصحراء ومنها مالي والنيجر وغرب إفريقيا ربطت اقتصادياتها بالاقتصاد الفرنسي المستعمر، الأمر الذي جعل من وجود قواعد عسكرية فرنسية في تلك البلاد وجوداً مصبوغاً بصفة شرعية كل هذا مع تزايد النفوذ اللامتناهي للشركات العابرة للقارات.
لكن مع بداية القرن العشرين تنبهت القوى العظمى لأهمية تواجدها على الأرض الإفريقية فلم تعد شركاتها ونفوذها قادرة على حسم الصراع على خيرات إفريقيا، ولهذا بدأت الدول الكبرى صراعاً محموماً للتواجد عبر القواعد العسكرية والتسهيلات الاقتصادية ومحاولات استقطاب الدول الإفريقية ناحيتها، وأصبح الحديث عن انتزاع مناطق النفوذ من المستعمر القديم -فرنسا كمثال- أمراً اعتيادياً حتى بين الحلفاء الغربيين أنفسهم في مواجهة النفوذ الصيني والروسي المتنامي.
وهكذا أصبحت مالي المنكوبة تعاني من مستعمر قديم أفقدها استقلالها، ومستعمر جديد يستبيح أراضيها من أجل ثرواتها من الذهب والمعادن وموقعها الاستراتيجي الذي يتيح لأي قوة تسيطر عليها أن تتحكم في كل إفريقيا.
أما بعد!
*****
مالي لم تسبب أي مشكلة أمنية أو استراتيجية للأمن القومي العربي حتى قيام ثورات الربيع العربي والتي كان لجمهورية ليبيا الجار الشمالي لها نصيب مؤلم من تلك الثورات والتي تحولت إلى حرب أهلية بعد سقوط نظام ومقتل العقيد الليبي معمر القذافي، فمع اندلاع القتال في ليبيا وتوفر السلاح في أيدي كل المقاتلين عاد إلى مالي مئات المسلحين الطوارق إلى شمال مالي، وتحديداً إلى إقليم "أزواد" وتحالفوا مع الحركات التكفيرية وتمكنوا من السيطرة على مساحات واسعة من شمال البلاد وأعلنوا الخلافة الإسلامية. وهذا كان امتداداً لمحاولات عديدة لقبائل الطوارق في الاستقلال بشمال مالي، لكنه هذه المرة اختارت تحالفاً قوبل برفض دولي وإقليمي، إذ إن التحالف مع الجماعات المسلحة التكفيرية جعل دولاً كالجزائر ونيجيريا ودول الساحل الإفريقي تدق ناقوس الخطر بسبب الخوف من تزايد تلك الجماعات المسلحة وتأثيرها على الأمن الإقليمي والدولي، وهو الأمر الذي جعل فرنسا مع تحالف دولي تتدخل عسكرياً بشمال مالي وأسقطت تلك الدولة الوليدة، وظهرت التحليلات التي تبرر الهجوم العسكري، لكن كلها أكدت أن هناك مبرراً جديداً بدأ يظهر كتبرير للسيطرة على مقدرات إفريقيا ألا وهو "محاربة الإرهاب".
وفي العاصمة السعودية الرياض وأثناء انعقاد مؤتمر اقتصادي عربي خلال يناير 2013 وقف الرئيس المصري السابق محمد مرسي، المنتمي للتيار الإسلامي، ليصرح قائلاً: "لا نوافق أبداً على التدخل العسكري في مالي؛ لأن هذا من شأنه أن يؤجج الصراع في المنطقة"، داعياً: "أن يكون التدخل سلمياً وتنموياً"، وقد سارعت الخارجية الفرنسية لتصرح بأن الموقف المصري يمثل أقلية وسط الإجماع الدولي.
وهنا بدا أن الموقف المصري الرسمي يعاني أزمة تعريف بطبيعة الصراع في مالي جعله في مواجهة عالم أعاد تفسير الصراع في إفريقيا من زاوية محاربة إرهاب الجماعات المسلحة الإسلامية والممتدة بطول دول الساحل الإفريقي.
وكان التأثير المالي الثاني على مصر قوياً!
*****
مع تغيير النظام السياسي المصري بعد 30 يونيو 2013 وخروج التيار الإسلامي من سدة الحكم في مصر، ومع بداية النهاية للحرب الأهلية في سوريا، ونهاية تنظيم داعش في العراق وسوريا، هنا احتدمت الحرب الأهلية في ليبيا التي أرادت دول كبرى وإقليمية أن تتخلص من فائض القوة المسلحة الجهادية المنتمية للتيار الإسلامي وغيرها، وأرسلتهم إلى أتون الصراع الليبي من أجل تحقيق مكاسب اقتصادية وعسكرية، ليس في ليبيا فقط بل في دول الصحراء والساحل الإفريقي؛ لأن تلك الجماعات المسلحة تريد قوى دولية لها أن تكون جماعات وظيفية تمهد الطريق لها من أجل السيطرة على مقدرات الدول الإفريقية وخاصة مالي التي تتمتع باحتياطات كبيرة من الذهب، والنيجر التي تتمتع بفائض ضخم من اليورانيوم، ولهذا ليس مستغرباً أن نفاجأ وسط انشغال العالم بالربيع العربي وتداعياته أن نسمع عن أكبر قاعدة أمريكية للطائرات دون طيار "المسيرة" في النيجر، وأن نسمع عن اتفاقية تعاون بين تركيا والنيجر كان أساسها كما قال تشاويش أوغلو، وزير الخارجية التركي، هو أن تركيا "خير من يتفهم مساعي النيجر في مكافحة الإرهاب" التي رأت أنه يجب أن يكون لها نفوذ في إفريقيا ومحاربة النفوذ الفرنسي عدوها اللدود في شرق المتوسط.
بجانب تركيا وأمريكا والصين وفرنسا هناك الهند والبرازيل والإمارات والسعودية وغيرها، جميعها تقف خلف واجهة محاربة الإرهاب وفائض القوة الجهادية المسلحة التي تجلب لإفريقيا من أجل المصالح الاقتصادية والسياسية وبالطبع ليس لصالح إفريقيا والأفارقة.
*****
أين مصر من هذا الصراع الدولي على إفريقيا؟
من المعلوم أن مصر في عهد الرئيس السابق حسني مبارك قد أهملت إفريقيا بعدما كان لمصر مكانة كبيرة ونفوذ سياسي مؤثر، الأمر الذي أدى إلى دخول منافسين كثر أخذوا من الموقف المصري وأصبحت بقايا القوة الناعمة المصرية هي ما تبقى لها في إفريقيا، بقايا زمن مصر ثورة يوليو 1952، ولكن بعد ثورة 25 يناير 2011 وما تلاها في 30 يونيو 2013 فقد أصبح لزاماً على مصر أن تسارع بالعودة إلى إفريقيا، خصوصاً أن مكافحة الإرهاب فى أفريقيا أصبحت وسيلة للسيطرة والنفوذ ويكفي أن نرى إثيوبيا تلعب بورقة مساعدة أمريكا في محاربة داعش وحركة الشباب الصومالية الإسلامية في الصومال للضغط والخروج بمكاسب كبيرة في مفاوضات سد النهضة.
إن وجود حزام من الجماعات المسلحة الإسلامية من الصومال شرقاً حتى نيجيريا غرباً سيكون عاملاً مؤثراً في الصراع الدولي على إفريقيا، وما وجود فائض لتلك الجماعات في ليبيا إلا وقود لإشعال أمد الصراع في محاولة حسمه لصالح إحدى القوى أو أحد التحالفات، وليس وجود دول مثل تركيا والإمارات في النيجر ومالي إلا جرس إنذار أخير لمصر أن تسارع وتحدد ماهية الدور المصري في إفريقيا، وتضع خريطة طريق تحدد المستقبل، وأن يكون لمصر دور في مكافحة الإرهاب بمفهومه الدولي الجديد الذي يعطي للمصالح من ورائه أهمية كبيرة.
وعلى مصر أن تولي أهمية كبرى لما يحدث في مالي ودول الصحراء والساحل الإفريقي لأنه سيؤثر عليها ليس فقط كممر للجهاديين المسلحين، ولكن حتى لا تكون تلك الدول حاجزاً أمام تمددها في إفريقيا، كما تريد ذلك الدول الكبرى التي لا تريد للدور المصري أن يكون متواجداً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.