تعتبر "يوم مشهود" إحدى روايات أيمن العتوم الكاتب الأردني المميز والغزير الإنتاج، أخذت بعض أحداث هذه الرواية من أحداث معاصرة، وميزتها أيضاً أنها تكاد تكون تأريخاً للقضية الفلسطينية، وأهميتها أنها تخصب الذاكرة العربية التي تريد أن تنسى ما حصل ويحصل في فلسطين.
تدور أحداث الرواية حول البطل العربي الأردني "مشهور حديثة الجازي" الذي كان يمثل العسكرية العربية المخلصة لقضاياها، وتجلى اسمه في معركة الكرامة، ولعل الكاتب اختار أن يعنون الرواية بـ"يوم مشهود" في إشارة إلى يوم القيامة الذي يجمع فيه الناس، إيحاء بأن يوم الكرامة كان يوماً اجتمع الناس له أو سمعوا به، فأما المسلمون والعرب فاستعادوا به شيئاً من عزتهم التي أهدرت في حرب ١٩٦٧، وأما الإسرائيليين فقد تبخر فيه تكبرهم وأوهامهم، وعادوا للشعور بأنهم في أرض تكرههم وستظل. وأن انتصارهم في يونيو/حزيران كان شيئاً عابراً.
يأخذنا المؤلف في رحلة مع البطل منذ وُلد في مضارب قومه عرب الحويطات في بادية الأردن، رغم بداوتهم فقد كانوا متصلين بما يجري من حولهم متفاعلين مع قضاياهم، فهذا جده لأمه كتب وثيقة يرفض فيها باسم قبيلته وعد بلفور، أما أبوه وعمه وخاله فقد شاركوا في القتال ضد الإسرائيليين في فلسطين، وأصبح همّ العائلة همّ الطفل الصغير، فمن رغبة في التدريب على السلاح إلى اجتهاد في الفروسية وحفظ الأشعار.
الجيش العربي مؤسسه وقائده كان جلوب باشا، عاش مع بدو الأردن والعراق وتطبّع بطباعهم وتقرّب إليهم، تعرف صاحبنا إليه وأخبره برغبته في الالتحاق بالجيش. يفصل الروائي في الحديث عن جلوب باشا "أبوحنيك" ودوره في توطيد الأرض للصهاينة، من خلال اكتشافات الشاب الوطني الصغير كان أبوحنيك أداة بريطانيا في قمع تطلعات الجهاد لدى أفراد الجيش العربي الذين دخلوا فلسطين، وتحت دعوى المحافظة على الجيش، كان الوطن يضيع وكلما كان مشهور يكتشف حقيقة جلوب كان قلبه يتعلق بالجهاد الذي حُرم منه، ونما عشق فلسطين في نفسه، عمه وخاله لم ينطل عليهما الأمر حاربا بعيداً عن الجيش واستشهد خاله في فلسطين، كان الجيش العربي وقتها يحارب تحت قيادة خمس وخمسين رجلاً، خمسون منهم بريطانيون، ولولا القواد الخمس الآخرون مثل عبدالله التل لكانت محصلة وجوده صفراً.
بصورة روائية حذرة وخلابة قارب الروائي شخصية عبدالله الأول بن الحسين، مباحثاته مع جولدا مائير ونصحه لها بأن يؤجل اليهود فكرة إقامة دولتهم سنوات أخرى، لعله كان آنذاك يفكر في مملكة يقودها يكون اليهود الهاربون من النازية من مواطنيها، ولعله كان معارضاً لإقامة دولة إسرائيلية ولكن علته كانت في تركه الأرض لغلوب باشا يفعل ما يفعل لصالح الإسرائيليين، حثته جولدا مائير على عدم الاختلاط بالجماهير خوفاً على حياته لكنه لم يأخذ بنصيحتها فقتل في المسجد الأقصى، هل كان عبدالله مقتنعاً بأن ما فعله كان من باب الحذر لا من باب التفريط؟ وهل ظن أن نسبه الشريف سيحميه؟ وهل كان ما كان مؤامرة نفذها الخياط مصطفى عمشو بالتنسيق مع عبدالله التل ورفاقه من قادة الجيش الأردنى؟ هؤلاء الذين ثاروا على عبدالله بسبب دور الجيش العربي المتواطئ مع الإسرائيليين. الورقة التي حملها القاتل في جيبه تقول إنه كان يفعل ما فعل وكأنه تلقى إلهاماً من السماء، هكذا تجري الأمور، فعندما تتراجع الجيوش لا بد ممن يدفع الثمن.
يمر الروائي بالعامين اللذين قضاهما مشهور في بريطانيا للتدريب مرور الكرام، بطلنا لم يكن مغرماً بالبريطانيين، يتدرج بعدها في قيادات الجيش الأردني، ويصر على أن يتزوج من فلسطينية لتتصل أسبابه بالأرض التي نذر نفسه لها، اسمها يسرى من اليسار والنعمة، تمر الأعوام بين تخرجه وعام ١٩٦٧ بطيئة، حتى إن فصول الرواية تبهت ما عدا الفصل الذي يروي إنهاء سيطرة غلوب باشا ومجموعته البريطانية على الجيش العربي الذي أصبح الجيش الأردني، إذ بعد حلم الوحدة العربية أصبحت المسألة قُطرية، ثم مجموعة فصول أثقلت الرواية ولو استعيض عنها بسطور لما تأثرت، حتى نصل إلى حرب ١٩٦٧ الهزيمة الكبرى، العرب تحطمت أحلامهم وهبطوا من علٍ وتراجعوا وتمزقوا.
إعادة بناء الجيش وصاحبنا أصبح في القيادة، يتحرق ليوم النصر، الفدائيون يتجمعون، نهر الأردن متاح، وشيئاً فشيئاً يشكلون تهديداً لإسرائيل، القائد يعيد بناء روح الجيش المعنوية، ويصعد بمستوى تدريبه، ويتعهد ثقافة جيشه الدينية بالرعاية، ويرفع مستوى تسليحه وينسق مع الفدائيين، وحين جاء اليوم المشهود لقي ديان لأول مرة منذ انتهاء ثورات الشعب الفلسطيني رجالاً لا يهزمون، بل رجالاً ينتصرون يلقون بأرواحهم أمام الدبابات فينسفونها بأجسادهم، طائرات الإسرائيليين لا تسمن ولا تغني، تجيء الأوامر للقائد بوقف إطلاق النار بناءً على طلب الإسرائيليين، لكن القائد يرفض ويتم مهمته، كان يوماً بطولياً قلّ مثله في حياة العرب المعاصرين.
بعدها يواجه القائد عقبات ويحال إلى الاستيداع ثم يُعاد قائداً، تنفجر الأحداث بين الجيش الأردني والفدائيين، يحاول الرجل رأب الصدع، هواه الفلسطيني يجعل القيادة تتجسس عليه، ودخوله على خطوط التماس يجعله يتعرض لأكثر من محاولة اغتيال، بعضها من أحبابه الفلسطينيين، وعندما أراد الجيش أن يحسم عسكرياً سُجن الرجل في القصر حتى لا يمارس دوره التوفيقي، وكان اليوم الذي اختار له المؤلف اسماً معبراً من دنيا عرب الجاهلية يوم بعاث. وبُعاث اسم آخر معركة بين الأوس والخزرج في الجاهلية قبل أن يجمعهم الله على الإسلام.
كانت أقسى طعنتين على الرجل طعنة أيلول الأسود وطعنة وادي عربة، وعندما ماتت أمه يعبر عن موت الوطن (كانت جثة الوطن ترقد في الكفن، انتزعوا من قبل الأوسمة من صدرها، وأغمدوا الخنجر عميقاً في قلبها، كان أبناؤها العاقون من حولها يرقصون، ويتقاسمون ميراثها، كانوا سود الوجوه، يهزؤون بالموت الذي حلّ بها ويحلبون ضروعها، لكن ضروعها يا سادة جفت من أول رصاصة وجهها الأخ إلى صدر أخيه!).
سردية محزنة مبكية أحياناً مفرحة أحياناً أخرى، مثلها مثل القضية، شاب السرد بعض الهنات، فالرواية كانت بلسان البطل ولذا فمما لا يصدق أن هناك ثلاث مقطوعات شعرية جاءت على لسان البطل وهو ليس بشاعر، خاصة أنها كانت في سنين حياته المبكرة حول العاشرة من العمر، كما أن هناك إسرافاً في إيراد الأمثلة الشعرية، ومنها أنه يهدهد جده الراقد على فراش الموت بالأشعار، ولا يفعل هذا أحد، بل العادة أن يقرأ الناس القرآن والأدعية. مشهد والد البطل يودع أمه بالاحتضان مشهد غريب على البيئة البدوية خاصة في حضور الأبناء. في إيراد أحداث معركة الكرامة، مشهد ديان في صلفه وهو على سرير المستشفى بعد إصابته يدعو الصحفيين إلى نزهة في السلط وعمّان، تهديد واضح وتحديد صارم للوقت كما جرت الأحداث، برأيي أنه مشهد غير واقعي، فالإسرائيليون يهددون ولكنهم لا يتحدثون بشكل يفقدهم عنصر المفاجأة، ولو صح أن عنصر المفاجأة لم يكن موجوداً فكأننا قللنا من جهد أبطالنا، ولو كان هناك تهديد للجأت الأردن إلى المنظمة الدولية كعادتها، ولكن كان بإمكان الروائي أن يجعل هناك تهديداً وشكوى من الأردن وتطمينات من المجتمع الدولي كما حدث مع مصر عشية يونيو/حزيران.
استغربت مشهد المجموعة الفلسطينية التي آوت إلى بيت الجد وبطلنا طفل، فكل منهم كما يصف كان يحمل مشط رصاصاته على عاتقه ونحن نعلم أن الإعدام كان عقوبة من يوجد في بيته رصاصة واحدة آنذاك، ولو صح الأمر لكان هذا تفريط لدى المجاهدين لا داعى له.
أما أبوصبري، قائد مجموعة الفدائيين في الكرامة والبطل أيضاً، أما كان من الممكن تقديمه باسمه الحقيقي تكريماً، وأيضاً إصداره أمراً بأن يدفن كل شهيد مع مسدسه أمر غريب، رومانسية لا مكان لها هنا، خاصة أن السلاح لم يكن وفيراً في يوم من الأيام، المقدم صالح الشويعر الذي صمد في نابلس وأبلى بلاءً حسناً ولم ينكص حتى استشهد كيف يقاتل كما تقاتل الوردة الحريق بتعبير الرواية، وهذا أيضاً تعبير لم يكن صحيحاً، فالوردة ليست مثل هذا البطل في قتال يشيب لهوله الولدان. يتحدث المؤلف عن عمليات تهجير العرب في فلسطين التي قامت بها عصابات البالماخ، كانت العمليات بإشراف القادة الصهاينة رحبعام زئيفى وبن غوريون ودايان، يقول المؤلف إن اسمها كان بيجال الون أي المكنسة، ولعل في الأمر خطأ مطبعي لأن بيجال الون هو أحد قادة البالماخ الصهاينة المجرمين، وأخيراً فإن بطلنا يريد أن يحمل معه إلى القبر رصاصاته الثلاث، رصاصة عبدالرحيم المناضل، ورصاصة عبدالقادر الحسيني، ورصاصة خاله نائل، ويريد أن تُدفن معه كذلك وثيقة جده التي يعترض فيها على وعد بلفور، تمنيت لو أن هذه الرموز قد أوصى بها البطل أولاده ليظلوا على العهد ويبقى عندنا الأمل.
لا تنقص هذه الملاحظات من قيمة هذا العمل أدبياً وتاريخياً، ولقد أبدع أيمن أيما إبداع حين جعل اسم الرمز عبدالرحيم يتمثل للبطل في صورة كل شهيد وكل مناضل، هل كان عبدالرحيم هو الشاعر عبدالرحيم محمود شهيد معركة الشجرة، وصاحب القصيدة التي سارت بها الركبان: "سأحمل روحي على راحتي"، أم هو عبدالرحيم الحاج محمد أحد القادة الأبطال في ثورة عز الدين القسام؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.