اندلعت ثورة الحرية والكرامة من منطقة سيدي بوزيد بالوسط التونسي يوم 17 ديسمبر/كانون الأول 2010. كانت الثورة التونسية نقطة البداية لموجة من الثورات في عديد من الدول العربية. بعد قرابة عقد من الزمن لا تزال التجربة التونسية صامدة رغم العديد من الهزات. بينما توقَّف مسار الانتقال الديمقراطي في المنطقة العربية سواء بالانزلاق نحو مربع العنف المسلح والاحتراب الأهلي مثل ما حدث في ليبيا وسوريا واليمن، أو بالانقلاب العسكري كالذي حدث في مصر.
إن ما يميز تونس عن بقية الدول هو جيشها الوطني الذي رفض إقحام نفسه في التجاذبات السياسية، كذلك روح التوافق التي صاحبت مختلف محطات المسار المفصلية. لعلّ هذين العاملين هما أبرز العوامل التي حالت دون الإنتكاسة.
لكن ما آلت إليه أوضاع البلاد السياسية والاقتصادية يجعلنا نطرح العديد من الأسئلة حول مدى نجاعة ونجاح سياسة التوافق وكذلك حول مستقبل الديمقراطية التونسية ما بعدها.
إن الهدف الأساسي من وراء أي عملية توافق هو تحقيق الاستقرار السياسي الضروري؛ للتغلب على الصعوبات الاقتصادية والقيام بالإصلاحات اللازمة. لكن للأسف كل التوافقات التي وقعت كانت ظرفية. إذ حققت كل محطة توافقيةٍ أهدافها المرحلية، ولكن في ظل غياب رؤية استراتيجية تحكمها، حملت في طياتها أزمات عرقلت -ولا تزال- تجربة الانتقال الديمقراطي.
أزمة المشاركة السياسية
بعد هروب المخلوع والإطاحة بنظامه تم تركيز "الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي". كان أحد أبرز أدوارها اختيار الهيئة العليا المستقلة للانتخابات وصياغة قانون انتخابي. تم التوافق على اعتماد آلية أكبر البقايا في احتساب الأصوات. كان الدافع وراء هذا الخيار هو التصدي لتغول طرف بعينه، وضمان مشاركة أكبر عدد ممكن من الأحزاب والمنظمات في المشهد الجديد. للأسف شكَّل هذا الخيار إحدى أبرز الثغرات التي تسربت من خلالها الشعبويات وأصحاب النفوذ المالي والخارجي إلى المشهد السياسي التونسي، خصوصاً البرلماني منه. بات من الصعب إدارة المؤسسة التشريعية بمكوناتها الفسيفسائية التي تحولت إلى تركيبة مركزة ومعقدة تدافع عن مصالح شخصية وفئوية، وتدفع برغبات ومطالب لا تعبّر بالضرورة عن تطلعات الشعب وإنما عن أصحابها ودوائر النفوذ التي وراءهم. أصبح المشهد البرلماني منذ ذلك اليوم يخضع لمنطق الابتزاز والتسويات الثنائية مقابل منح الأصوات لأي حكومة أو قانون. للأسف أصبح من الصعب تعديل القانون رغم محاولات باءت كلها بالفشل، لأن جزءاً مهماً من القوى السياسية يعتبره الضمان الوحيد لبقائها في المشهد.
أزمة العدالة الانتقالية
بعد انتخابات المجلس الوطني التأسيسي تم التوافق بين الثلاثي (حركة النهضة، وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية، وحزب التكتل الديمقراطي) لقيادة مرحلة التأسيس. سرعان ما واجهت ما سُمي بالترويكا السؤال الذي زعزع تماسكها: كيف التعامل مع تركة نصف قرن من الاستبداد؟
لم تكن الآليات التي وضعتها الحكومة آنذاك والمتمثلة في وزارة حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية، كافية لتقديم إجابة للسؤال الذي داهمها. لم يكن تباين الآراء بين الأطراف الثلاثة فقط وإنما كذلك داخل صفوف الأحزاب نفسها.
استخدمت الثورة المضادة هذا الانقسام وغياب رؤية موحدة وواضحة لصالحها، وتمكنت من قلب موازين القوة، وهو الأمر الذي جرَّ البلاد إلى مربع العنف وأسقط حكومتي السيد حمادي الجبالي والسيد علي العريض.
للأسف لم يصغِ الثلاثي الحاكم آنذاك لنصيحة الحكيم نيلسون مانديلا التي وجهها لهم من خلال رسالته الشهيرة للشعوب العربية الثائرة، طالباً منهم التسامح مع كل من يعترف بالثورة و"احتوائهم، لأنهم يمسكون بأمن البلاد واقتصادها". ولو تم اعتماد هذا النهج لقبِل المنتسبون إلى النظام السابق بشروط الثورة عوض العمل على إجهاضها. بقي ملف العدالة الانتقالية بين أخذ وردٍّ، ولا يزال محل تجاذب رغم صدور التقرير النهائي لهيئة الحقيقة والكرامة والذي لم يلقَ إجماعاً حتى من قِبل المتضررين أنفسهم.
أزمة النظام السياسي
من أهم المحطات التوافقية الحوار الوطني الذي كان أبرز مخرجاته إنهاء تجربة الترويكا مقابل المصادقة على دستور الجمهورية الثانية الذي يؤسس لنظام حكم جديد. طغى على المشهد النقاش حول مسألة الهوية والحريات، وسط جو من استقطاب حاد بين الإسلاميين والعلمانيين. لكن للأسف لم تتفطن النخبة السياسية آنذاك إلى المسألة الأم التي من أجلها توضع الدساتير وهي طريقة عمل مؤسسات السيادة وتنظيم العلاقة فيما بينها وتركيز الهيئات الدستورية كالمحكمة الدستورية مثلاً، التي تعتبر الجهة الوحيدة القادرة على تأويل الدستور في حال الاختلاف حول أحد بنوده. من هذا المنطلق تم بناء نظام سياسي تحكمه الحسابات "السياسوية" لكل طرف، دون الأخذ بعين الاعتبار نجاعة عمل المؤسسات وتماسك أجهزة الدولة. حين وضع الدستور قيد التنفيذ دخلت البلاد في أزمات سياسية متعاقبة وأصبح إسقاط الحكومات وإعادة تشكيلها والصراع بين المؤسسات السيادية المشهدَ الطاغي على الحياة السياسية التونسية، وهو الأمر الذي كان -ولا يزال- له تأثير مباشر على قدرة الدولة على تجاوز الأزمة الاقتصادية الخانقة وتلبية الاحتياجات الأساسية للمواطن التونسي من أمن وصحة وقوت يومي.
أزمة ثقة
يعتبر العديد من المراقبين أن لقاء "الشيخين"؛ الرئيس السابق الباجي قائد السبسي رحمه الله، ورئيس مجلس نواب الشعب الحالي راشد الغنوشي، نقطة مفصلية في مسار الانتقال الديمقراطي. عقب هذا اللقاء الثنائي لوحظ تغيير في الخط السياسي لحركة النهضة، لتقدِّم تنازلات خففت من حدة الصراعات التي شهدتها الساحة التونسية قبيل وخلال الحوار الوطني.
لا يمكن أن نعتبر هذا اللقاء توافقاً استراتيجياً بين الطرفين وإنما هو بمثابة اتفاق ثنائي أخرج "النهضة" من عزلتها السياسية ومكَّن السبسي من الوصول إلى الرئاسة. لعب هذا التوافق دوراً في إدارة مرحلة ما بعد الانتخابات، وذلك بالمصادقة على حكومة السيد الحبيب الصيد. لكن سرعان ما أثبت محدوديته بعد بروز خلافات داخل صفوف حزب الرئيس "نداء تونس" الذي لم تهضم كل مكوناته تقاسم السلطة مع حركة النهضة؛ وهو الأمر الذي أدى إلى انشقاقات تفرّعت على خلفيتها عدة أحزاب. دخلت "النهضة" كذلك في أزمة داخلية عمَّقها مؤتمرها العاشر الذي ألقى في افتتاحيته الباجي قائد السبسي كلمة، إذ لم تتفق قيادة حركة النهضة حول طريقة إدارة التوافق ومع أي طرف تتحالف في محيط الرئيس، خصوصاً بعد تغيير رئيس الحكومة الحبيب الصيد واستبداله بيوسف الشاهد. تسربت خلافات الحزب الحاكم إلى مؤسسات الدولة السيادية، وهو الأمر الذي أربك المشهد برمته.
حاول الرئيس الدفع نحو اتفاق سياسي يرمم به المشهد السياسي، خصوصاً إنقاذ حزبه من التفكك، لكن باءت كلها بالفشل على غرار وثيقتي قرطاج 1، و2، خصوصاً بعدما تمرد عليه رئيس الحكومة الذي كلَّفه. صرَّح السيد الباجي قائد السبسي بإنهاء التوافق مع راشد الغنوشي، معتبراً حركة النهضة تجاوزته بتوفيرها دعماً سياسياً لرئيس الحكومة آنذاك السيد يوسف الشاهد. دخلت الساحة السياسية التونسية منذ ذلك الوقت في مناخ من انعدام الثقة بين الفرقاء السياسيين، وتدحرج المستوى الأخلاقي للممارسة السياسية إلى أدنى مستوياته.
تونس ما بعد التوافق
إن نموذج الديمقراطية التوافقية التجأت إليه المجتمعات المتعددة الأعراق والأديان والتي ينعدم فيها التجانس الاجتماعي لمعالجة أزمة المشاركة السياسية كلبنان مثلاً. لكن الواقع التونسي مغاير ويتطلب إعادة النظر في طريقة إدارة الخلافات. كما أن الوضع الاقتصادي والاجتماعي للبلاد يفرض علينا تقييم التجربة وتعديل البوصلة.
على النخبة السياسية التونسية التأسيس لحوار وطني شامل يضمن الحد الأدنى من الاستقرار السياسي ويناقش أمهات القضايا الوطنية.
يجب العمل بدايةً، على توسيع المساحات الآمنة للحوار في الساحة السياسية، لتستعيد جميع الأطراف الحد الأدنى من الثقة بعضها ببعض، وعلى المثقفين والشخصيات الوطنية المجمّعة القيام بهذا الدور. نرى أن ما قام به السيد الحبيب بوعجيلة والأستاذ جوهر بن مبارك من دور وساطة عند تشكيل حكومة الحبيب الجملي نقطة إيجابية وجب تثمينها وتكرارها رغم أنها لم تحقق أهدافها على أكمل وجه.
ثانياً، على المنظومة الحزبية أن تجري معالجات ومراجعات لنفسها كمؤسسات وسيطة بين المجتمع والدولة، يكون التنافس بينها برامجياً، وتتعاون لمعالجة المشاكل المعقدة التي تهدد استقرار البلاد.
ثالثاً، من الضروري صياغة رؤية اقتصادية تنموية طويلة المدى يلتزم جميع المتداخلين بالعمل وفقها. إذ تعتبر مسألة حيوية لتعزيز الاستقرار الاقتصادي والمالي للبلاد، وكذلك تعزز الثقة الدولية بالدولة.
رابعاً، لا بد من بناء استراتيجية وطنية للقيام بالإصلاحات الكبرى، فالنظام السياسي والقانون الانتخابي ومؤسسات الدولة تحتاج لتحديث وإصلاح وتعزيز نظم الرقابة والحوكمة الرشيدة.
معالجة هذه القضايا يحتاج لحوار وطني شامل ممؤسس يتم الرجوع إليه باستمرار عند الضرورة.
تونس اليوم في أمسّ الحاجة لمنظومة سياسية قادرة على تسيير مؤسسات الدولة بنجاعة، قادرة على فرض علوية القانون واحترامه، قادرة على إدارة مصالح الدولة الداخلية والخارجية بشكل جيد وقادرة على المحافظة على السيادة الوطنية وعلى أمن واستقرار تونس السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.