شكلت مواقف الرئيس التونسي قيس سعيد الأخيرة صدمة كبيرة لدى فئة من المؤيدين له والمتعاطفين مع تنصيبه رئيساً للجمهورية التونسية انقلبت معها حالة الاحتفاء به إلى استهجان وسحب شبه نهائي لموقفهم الإيجابي منه، خصوصاً بعد زيارته لباريس واعتذاره عن مطالبة طيف من التونسيين لها بالاعتذار عن جرائمها الاستعمارية، مما طرح وضع استقلالية الرجل عن القوى الخارجية موضع تساؤل تحديداً تجاه فرنسا اللاعب الأبرز في الساحة المغاربية.
كما أن حديثه المتكرر في خضم الأزمة السياسية الحكومية عن مراجعته لمبدأ الشرعية في مؤسسات الدولة المنتخبة، وما أسفر عنه توجهه هذا عملياً من زوبعة عصفت بالحكومة السابقة وأدت إلى تشكيل حكومة تكنوقراط مكانها مع ما رافق ذلك من جدل أثير حول المنهجية التي تم اعتمادها في تنصيب عدد من الوزراء، شكك في إيمان الرجل بالديمقراطية واحترامه لمؤسساتها المنتخبة وفي تجسيده لروح الثورة ولمبادئها بالذات بعد موقفه الأخير من اتفاق التطبيع الإماراتي الصهيوني الذي غلبت عليه حسابات السياسة على انتظارات الشعب التونسي الثائر منه.
مبدئياً، فإن مراقبة رئيس الدولة وتتبع أدائه وقياس مدى التزامه ببرنامجه الرئاسي ووفائه بتطلعات ناخبيه أمر منتظر حتى لو تخلل ذلك نقد لاذع له، لكن ما لا يستساغ في الموضوع هو خيبة الأمل العنيفة التي صدرت من طرف البعض التي تعطي الانطباع على أن القوم يحسون أنهم تعرضوا للخديعة بعد الأماني الكثيرة التي علقوها عليه، ذلك أن الانتقال من النقيض إلى النقيض في غضون بضعة أشهر فقط يحتاج إلى تفسير منطقي. فهل تغير الرجل فعلاً أم أن هناك من تسرع في الحكم عليه في السابق، فبنى في مخيلته أوهاماً عن الرجل وجدها سراباً على أرض الواقع؟
الحقيقة أن السيد قيس سعيد لم يتغير وظل وفياً لبعض قناعاته القديمة، حتى أن هذا المعطى لم يكن خافياً على عدد من النخب السياسية في تونس، وهو ما جعلها تتحفظ على دعمه في البداية. فبالعودة إلى الوراء نجد أن الإجماع لم ينعقد عليه إلا في الجولة الثانية بعد أن تحول إلى مرشح الضرورة على أمل استعادة الزخم الثوري والحفاظ على البلاد من المتربصين بها. فهو وإن لم يعرف عنه أنه كان ثورياً يوماً إلا أن شخصيته حظيت باحترام عام كشخصية أكاديمية مرموقة، والذي لم تثر حوله أية شبهة فساد ولم يعرف عليه كذلك أي نشاط قديم في ظل أجهزة النظام وحزبه الأحادي، وهذا ما جعله خياراً مفضلاً في هذه المرحلة. لذلك تم تجاوز عدد من الملاحظات والتحفظات حول قناعاته لا سيما مواقفه المناهضة للمكونات الحزبية، تلك النقطة التي تناغمت معها فئة كبيرة من التونسيين بفعل إحباطات سنوات ما بعد الثورة.
واضح إذاً أن الانحياز لشخص قيس سعيد كان رهيناً بظروف موضوعية متعلقة بالأجواء التي تعيشها تونس التي ما زالت تتلمس طريقها نحو انتقال ديمقراطي حقيقي ونحو امتلاك قرارها الشعبي المستقل، وهو ما يفسر عدم استقرار أوضاعها الناجم عن التدافع بين إرادة الشعب الحر والمؤامرات والدسائس التي تنخرط فيها لوبيات العهد القديم الفاسدة المدعومة خارجياً والتي يسقطها الواحدة تلو الأخرى، مما نجم عنها خريطة سياسية سريعة التقلب بفعل الرمال المتحركة الكثيفة التي تعلي أحزاباً وتلغي أحزاباً أخرى، كما ترفع ذكر أسماء حتى لو كانت مغمورة إلى وقت قريب وتمحي ذكر شخصيات تاريخية.
عموماً فإن بروز اسم قيس سعيد في الساحة السياسية وإن عبر عن أزمة في المشهد السياسي التونسي إلا أنه يندرج في إطار التمرين الديمقراطي الذي ينجزه الشعب التونسي حالياً. فحتى لو افترضنا أن التونسيين سقطوا ضحية سوء تقدير إلا أن السجال بخصوص سياسات الرئيس الجديد يدرب الشعب على محاسبة المسؤول الأول في البلاد بخلاف المحيط الذي ما زال يعتبر انتقاد أصغر مسؤول قلة حياء.
أما الملفت للأنظار فعلاً فهو موقف بعض النخب العربية والإسلامية من الرجل، فرغم أن تلك النخب كانت بعيدة عن الضغط الذي يعيشه الشارع التونسي، إلا أن تقييمها لأداء الرئيس التونسي غلب عليه البعد العاطفي. فالرجل مغمور عندهم ولا يعرفون عنه شيئاً سوى ما ينسب إليه من تغريدات على تويتر أو بعض التصريحات القليلة في حملته الانتخابية. ومع ذلك فقد انخرطوا في حملة تلميع مجانية له، فتم اعتبار أي كلام صادر منه حتى لو كان يندرج في إطار المجاملات بمثابة وعود قابلة للأجرأة والتنزيل.
نفهم مقاسمة هؤلاء فرح شعب شقيق في عرسه الانتخابي والبحث عن نقاط ضوء أينما وجدت وسط هذا الجو الكالح الذي يعم المنطقة، لكننا لا نتقبل قطعاً طغيان حسن الظن المبني على أساس غير موضوعي، والذي تحول إلى سخط مفاجئ على الرجل تم التعبير عنه بعبارات الأسف التي تبدو مستفزة وغير لائقة خاصة حين تصدر من كتاب صحفيين وسياسيين معروفين.
ليست هذه المرة الأولى التي تسيء فيها هذه النخب قراءة الأحداث، حيث تكفي كلمة تصدر من مسؤول لتتلاعب بها وبمواقفها، والمثال السوداني مثال صارخ على ذلك، حين استدر النظام العسكري هناك عطف الإسلاميين بزعمه تطبيق الشريعة فاستجاب له بعضهم، ثم عاد بعد ذلك ليقر عدداً من التعديلات في قوانين الدولة في الاتجاه المعاكس فابتهج بعض العلمانيين وصفقوا له. هذا في الوقت الذي يتهرب فيه من التزاماته بحق الشعب السوداني وفي الوقت الذي يعيد فيه إنتاج النموذج السلطوي السابق على مرأى تلك التيارات التي لم تحرك ساكناً، لأنها لا تحمل هم حرية الشعب وكرامته وتحقيق العدالة الاجتماعية في أوساطه على محمل الجد، وهو ما يجعلها منفصلة عن مجتمعها وعن همومه الحقيقية.
إضافة إلى ما سبق هناك أيضاً معطى يفسر تلك المواقف السطحية راجع إلى استسهال إطلاق الأحكام الجاهزة دون اطلاع كاف على القضية وتفاصيلها المركبة، والذي يُعَبَّرُ عنه بشيء من الاستعلاء الذي يصيب عادة النخبة مرفوق بكسل معرفي، حيث يلجأ كثير من المراقبين إلى الاقتصار على عنوان في شريط إخباري أو الاعتماد على رأي شخصيات قريبة لتوجههم السياسي والفكري في البلد المعني بتلك القضية لبناء مواقف على عجل سرعان ما يثبت قصورها، حتى إن البعض تورط في ترويج معلومات خاطئة أو أكاذيب اضطر بعدها للاعتذار.
الصفعة التي وجهها الرئيس التونسي لمن راهن عليه من المتعاطفين مع شخصه درس بليغ لهم يفرض عليهم أن يحدثوا مراجعات عميقة في منهجية تفكيرهم وأدواتهم التحليلية وأساليبهم التي تدفعهم في كل مرة لتكرار نفس الأخطاء التي جنت على بلداننا، وإلا فستلفظهم مجتمعاتهم كما لفظت عدداً غير قليل من أحزاب وتيارات قبلهم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.