"الرئيس التونسي يستقبل الحكومة الجديدة بالصراخ".. كان هذا العنوان الذي نشرته وكالة بلومبيرغ الاقتصادية في إطار تغطيتها لجلسة تأدية الحكومة التونسية للقسم أمام رئيس الجمهورية في قصر قرطاج.
عنوان يمكن أن يلخّص الصورة، حيث استقبل الرئيس التونسي أعضاء حكومة المشيشي التي نالت التزكية البرلمانية..
بوجه متجهم وملامح غاضبة وخطاب ناري دام 20 دقيقة وجّه فيها تهم التخوين والتكذيب والاتهام بالعمالة للمستعمر والصهيونية لأطراف مبنية للمجهول لم يحدّدها.
خطاب صدم جلّ المتابعين حيث لم يتضمن أي تشخيص للوضع الاقتصادي الصعب التي تعيشه البلاد بنسبة انكماش في النمو تناهز 7% وقرابة مليون عاطل عن العمل ومؤشرات اجتماعية حمراء ولم يقترح حلولاً بل زاد في ضبابية المشهد السياسي وأكد تواصل الصراع مستقبلاً.
ولسائل أن يسأل عن أسباب هذا الخطاب المتشنج وخلفياته…
بعد تقديم رئيس الحكومة السابقة إلياس الفخفاخ لاستقالته عادت المبادرة لرئيس الجمهورية بمقتضى الدستور لتعيين الشخصية "الأقدر" لتشكيل الحكومة، حيث رفض سعيد كل مقترحات الأحزاب في إطار المشاورات التي كانت كتابية ورشح وزير الداخلية هشام المشيشي يوم 25 يوليو/تموز، فالمشيشي من رجالات قيس سعيد وتلامذته في القانون الدستوري وأجمعت كل التحليلات على أن هذا الترشيح جاء على ضوء توجُّه رئيس الجمهورية الرافض للأحزاب والمنظومة الحزبية برمّتها، فالمشيشي الإداري غير المتحزب صاحب التكوين القانوني والذي شغل منصب وزير الداخلية لأشهر، يمكن أن يكون الشخصية المطيعة لسعيد، لكن الأمور لم تسر بالشكل الذي اختاره قصر قرطاج.
مديرة الديوان تدفع المشيشي للتمرد
مساء يوم 25 أغسطس/آب، حدد المكلف بتشكيل الحكومة توقيت العاشرة مساء لإعلان تشكيلته الحكومية، أي قبل ساعتين من انتهاء الزمن الدستوري، ليتأخر الإعلان حتى الساعة الحادية عشرة ليلاً و58 دقيقة، أي قبل دقيقتين فقط من انتهاء الآجال، وذلك على خلفية تباين حاد في المواقف بين المشيشي ومديرة الديوان نادية عكاشة (تلقب بالسيدة الحديدية في قصر قرطاج وظل رئيس الجمهورية الذي يلازمه في كل تحركاته)، حيث فرضت الأخيرة مجموعة من الأسماء في التشكيلة الحكومية، رفض المشيشي بعضها، لتنطلق متاعبه.
بعد هذا الخلاف، بدأت محاولات مديرة الديوان لتعطيل حكومة المشيشي والسعي إلى إسقاطها ودفعه إلى الانسحاب قبل موعد الجلسة البرلمانية لنيل التزكية قصد إعادة المبادرة من جديد لرئيس الجمهورية واختيار شخصية أخرى بعد أن ثبت "تمرد" المشيشي على إرادة الفاعلين في قصر قرطاج.
الإثنين 31 أغسطس/آب الساعة الواحدة بعد الزوال في قصر قرطاج، رئيس الجمهورية يستقبل ممثلين عن أحزاب حركة النهضة، التيار الديمقراطي، حركة الشعب، تحيا تونس ويعرض عليهم بشكل غير مباشر إسقاط حكومة المشيشي برلمانياً مقابل التعهد بعدم حل البرلمان والمواصلة في حكومة إلياس الفخفاخ ثم تفعيل الفصل 100 من الدستور بتغيير رأس الحكومة (تحوم حوله شبهات فساد) بوزير آخر من الحكومة يتولّى رئاستها، وهو عرض قبله حزب التيار الديمقراطي (المستفيد الأبرز من تواصل حكومة الفخفاخ) ورفضته أحزاب كل من حركة النهضة وتحيا تونس.
الثلاثاء 1 سبتمبر/أيلول 2020، مبنى البرلمان بباردو يحتضن جلسة التصويت على منح الثقة للحكومة الجديدة، وبعد يوم صاخب من المداخلات، تحصلت حكومة المشيشي على الثقة البرلمانية بـ134 صوتاً، وهي أغلبية مريحة مثّلت رسالة واضحة من البرلمان التونسي ترجمها رئيسه راشد الغنوشي في نهاية الجلسة بقوله: "البرلمان مصدر السلطة، وهو كما أنه قادر على منح الثقة قادر أيضاً على سحبها. وهذا المجلس سحب الثقة من أكثر من حكومة".
حتى نلخّص المشهد، فقد التجأ المشيشي إلى الأحزاب البرلمانية الكبرى وأهمها حركة النهضة وقلب تونس لتمرير حكومته بأغلبية مريحة بعد أن توترت العلاقة مع قصر قرطاج.
كيف سيكون المشهد السياسي في تونس مستقبلاً؟
من الواضح أن الدينامية الديمقراطية في الساحة السياسية التونسية جعلت من الاستشراف أمراً صعباً، فالأحداث تتطور من يوم لآخر وتتغير بشكل سريع وكذلك التحالفات السياسية.
لكن المعطى الثابت أن رد فعل رئيس الجمهورية قيس سعيد المتشنج وخطابه الناري بعد تأدية هشام المشيشي وأعضاء حكومته للقسَم بقصر قرطاج، يؤكدان أن المرحلة القادمة ستكون ساخنة ببرلمان متضرر ورئاسة غاضبة وحكومة مرتبكة أمام وضع اقتصادي واجتماعي مأزوم بتوقعات بانكماش اقتصادي حاد وتزايد في معدلات البطالة واحمرار لكل المؤشرات الاقتصادية، علاوة على موجة ثانية من وباء فيروس كورونا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.