إنّ ثورة الحريّة والكرامة لحدث جلل في تاريخ تونس المعاصر؛ إذ فتح نافذة على أجمل التجارب الإنسانية. تجربة التحرّر من الاستبداد والقمع. هذا النوع من التجارب التي لا تتكرّر كثيراً في تاريخ الأمم والشعوب.
مضى ما يقارب العشر سنوات على إسقاط بن علي، وللأسف الشديد لم يتحقق الكثير من أحلام من خرجوا للشوارع رافعين شعار "شغل حرية… كرامة وطنية".
إنّ الوقت قد حان للوقوف عند الأسباب التي تحولُ دون استكمال البناء الديمقراطي في البلاد. ما آلت إليه الأوضاع بتفاقم أزمات مركبة وعلى جبهات عدّة (سياسية، اقتصادية، اجتماعية، صحيّة وحتى دستورية/قانونية…) يتطلب مراجعات ضرورية لـ"منظومة 2011″ والقيام بالتعديلات اللازمة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
إنّ أحد أهمّ الحواجز الذي حال دون بلوغ المنشود هو المعترك الأيديولوجي الذي يكتسي الساحة السياسية التونسية وخصوصاً الطريقة التي يُدار بها.
بُعَيْدَ ثورة الحرية والكرامة ومع انطلاق حملة انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، تم استدعاء الصّراع الأيديولوجي الذي انطلق داخل أسوار الجامعة التونسية خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. ذلك الصراع الذي وظّفته منظومة الاستبداد وعلى رأسها المخلوع لتصفية خصومه السياسيين. إذ أطلق ما سمّي بحملة "تجفيف الينابيع" والتي دمّر باسمها حياة آلاف التونسيين وشرّد عائلاتهم وكلّ من ساندهم من قريب أو من بعيد.
الصّراع الأيديولوجي الذي تشهده تونس في حقيقة الأمر هو وباء ثلاثي الأبعاد أصاب الساحة السياسية وتسرّب من خلالها إلى مكوّنات الدّولة وهذا منذر بالخراب.
البعد الأول: منظومات فكرية تحتضر
إن الأفراد والجماعات السياسية التي لا تحمل أيديولوجيا يمكن اعتبارها مجموعات ظرفية، انتهازية لا يحرّكها سوى حبّ التموقع والرغبة في الوصول إلى السلطة لاستغلال نفوذها، وهذه ممارسة خطيرة.
لكن الأخطر من هذا عندما يحمل السياسي منظومة فكرية منتهية الصلوحية تخلّت عنها حتى المجتمعات التي ترعرعت فيها وهذا أكبر دليل على محدوديتها.
فالخلل الذي تعاني منه الأفكار التي تحكم الساحة السياسية التونسية بمختلف مشاربها يكمن فيها. إذ لا تأخذ بعين الاعتبار في مجملها التناقضات بين المجتمع التونسي والمجتمعات التي نشأت فيها. مُهْمِلة تاريخ تونس والتركيبة الثقافية لأهلها.
للأسف الشديد اعتمدت النخبة السياسية على وصفات أيديولوجية جاهزة أتت بها لتسقطها على واقع مخالف تماماً للواقع الذي أنتجها. فسرعان ما تحولت إلى تعبيرات على مصالح الفئات التي تحملها. مختلفة تمام الاختلاف مع المنظومة المجتمعية ومحيطها المادي الذي وضعت فيه. هذا الذي جعل الفرد التونسي يرميها في نفس السلة ويعتبرها لا تمثله.
على النخبة الفكرية التونسية أن تحرّر نفسها من القوالب الأيديولوجية الجاهزة وأن تعمل على تحديث منظوماتها الفكرية بما يتماشى مع واقع تونس اليوم.
فإمّا أن نبني دولتنا بأفكار مطابقة لروح تاريخها متصالحة مع مجتمعها لتكون حينئذ متكاملة خلاقة صاعدة وإما دولة مبنية على أفكار بالية مهجورة من التاريخ ومن الناس لتبقى حينذاك متداعية بدون تجديد ولا إبداع.
إن ذهنية الفرد التونسي قد تغيرت ولا يمكن تفكيك معالمها والتعامل معها وتطويرها بأدوات تحليل قديمة.
أكبر هديّة يمكن أن تقدمها الساحة السياسية المتآكلة لنفسها، هي تركها للصّراعات الأيديولوجية والانكباب على تهيئة الظروف الاجتماعية والاقتصادية المناسبة لتترك فرصة للمجتمع للتطوّر وإصلاح نفسه بنفسه. حتى يتصالح مع تاريخه وهويّته ويجد توازنه الذي سيشق به طريق المستقبل بثبات. سينتج المجتمع حينئذ تعبيرات فكرية جديدة مجدّدة تقوده.
البعد الثاني: إدارة هدّامة للصراع الأيديولوجي
تفطّنت منظومة الاستبداد مبكراً إلى الحراك الأيديولوجي في الساحة التونسية ورسمت خارطته بدقة. ثم تعاملت معه بحرفية عالية بطريقة يكون إحدى أهم ركائز ضمان استمراريتها.
إذ استثمرت في العداء بين الإسلاميين واليسار المتطرف لتستخدم الثاني في استئصال الأول.
ما يمكن استنتاجه أنّ الطّغيان تسبّب في اعوجاج فكري مسّ حتّى أشرس معارضيه؛ إذ رسّخ في الذهن العام استحالة التعايش بين مختلف المشارب الفكرية وأقنع بذلك الجميع.
أصبح الكل سجين هذه القناعة ويتصرفون على أساسها، خصوصاً بعد الثورة. ودخلت البلاد في أزمة اعتراف. فالكلّ لا يعترف بالكلّ.
وهنا أنصح الجميع باستحضار مقولة دولباخ: "إنّ التفكير بحرية معناه التحرّر من الأحكام المسبقة التي يعتقد الطغيان أنها لازمة لحمايته ودعمه".
اعتمدت الثورة المضادة على هذه القناعة التي يتقاسمها جميع الفرقاء لتُشنّج الحوار وتسمّم المناخات من خلال بعض وسائل الإعلام التي وضعت نفسها على ذمتها. لتجرّ البلاد نحو مربع العنف لولا التدارك من بعض العقلاء.
للأسف لم نرَ بعد الثورة حواراً فكرياً وسياسياً هادئاً وبنّاء يضع كل منظومة فكرية أمام حقيقة تناقضاتها الذاتية لتعدّل وتطوّر من نفسها.
الصراع كان ولا يزال سيد الموقف ففي ظاهره نرى ونسمع حوارات متشنّجة متعصّبة لا تسمن ولا تغني من جوع بل تزيد الوضع تعقيداً. وفي باطنه سباق نحو التموقع، فمنهم من تموقع في المنظمة الشغيلة ومنهم من مسك مؤسسات إعلامية يوظفها ومنهم من اعتلى منابر المساجد، والأخطر من هذا منهم من تمركز في مؤسسات الدولة وهياكلها.
بذلك تحوّلت المؤسسات والمنظمات عبارة على قلاع أيديولوجية محصّنة لتكون أدوات تخوض بها المعسكرات الأيديولوجية "عُرَيْكات" تافهة واستقالات بذلك عن دورها الموكول لها.
البعد الثالث: صراع يهدّد مصلحة تونس العليا
يعرّف الفلاسفة الألمان وعلى رأسهم هيغل الأيديولوجيا بمنظومة فكرية تعبّر عن الروح التي تحفز حقبة تاريخية إلى هدف مرسوم في خطّة التاريخ العام. بينما استعمل ماركس الأيديولوجية كمنظومة فكرية تعكس النظام الإجتماعي الذي يتميّز بإنتاج وسائل استمراريته. أمّا بالنسبة لنيتشه الأيديولوجيا هي بمثابة مجموعة من الحيل التي يعاكس بها الإنسان قانون الحياة لتكون خط الفصل بين عالم الجماد وعالم الأحياء (الإنسان). بينما تعامل فرويد مع الأيديولوجيا كمنظومة أفكار ناتجة عن "التعاقل" الذي يبرر السلوك المعاكس لقانون اللذة والضروري لبناء الحضارة.
إن التقاطع بين هذه التعريفات رغم اختلافها يكمن في أن الأيديولوجيات كمنظومة أفكار لا تحمل حقيقتها فيها وبذلك هي لا تعكس الواقع على وجهه الصحيح.
يمكن أن نستنتج إذن بأنّ تحليل القضايا السياسية المطروحة والتعامل معها من منظور أيديولوجي بحت تجعل صاحبها يؤوّل الوقائع ويبني استنتاجات بكيفية تظهرها دائماً مطابقة لما يعتقد بأنّه الحق.
وبالتالي تتعارض هذه الرؤية جوهرياً مع النظرة الموضوعية المبنية على أسس علميّة والتي تراعي عوامل المحيط الخارجي دون أحكام مسبقة.
عندما تحكم هذه المنهجية قرار السياسي الذي يمارس الحكم ويقود أجهزة الدولة يصبح الانزلاق نحو ضياع المصلحة العامة مطروح وبقوّة.
ولنا في الأشهر الأخيرة العديد من الأمثلة الحية التي تدعم هذه الفرضية.
فتعامل الموقف الرسمي التونسي مع الملف الليبي حكمته النظرة الأيديولوجية.
ضاعت مصلحة تونس بين من يساند حكومة الوفاق التي تدعمها تركيا ومن يساند حفتر الذي تدعمه الإمارات. فموقف كليهما مبني على الولاء لحلفائه الأيديولوجيين دون مراعاة المصلحة الأمنية والاقتصادية للدولة التونسية.
وتباين بذلك الموقف الرسمي الأمر الذي أضعفه خارجياً وجعل المحاور المنخرطة في الصراع الليبي تستثمر فيه لتدعم موقعها الجيواستراتيجي في المعركة.
لنا كذلك في لائحة مطالبة فرنسا بالاعتذار التي عرضت على الجلسة العامة لمجلس نواب الشعب خير مثال؛ إذ كان الدافع من وراء عرضها كسب عُرَيْكة أيديولوجية وتسجيل هدف في مرمى الخصم. اللافت للنظر هو الموقف الرسمي لرئيس الدولة الذي عبَّر عنه خلال زيارته لباريس.
إذ صرح بأنه يعتبر الاحتلال حماية وأنه لا يطلب الاعتذار خصوصاً بعد مرور 60 عاماً.
الجميع يعلم أن هذا الموقف لا يعبر عن الخط العام لدبلوماسية الدولة التونسية منذ الاستقلال. ولكن هو موقف أيديولوجي للنّخبة الفرنكفونية المتطرفة التي وجدت لها موطئ قدم في محيط الرئيس قيس سعيد والتي تعتبر أن فرنسا أنقذتنا من براثن الظلامية وفعلاً أتت لتحمينا.
في ظل غياب مشروع وطني جامع كأرضية يتنافس على إنجازه جميع الفرقاء السياسيين سيضلّ الصراع الأيديولوجي يدار بهذه الطريقة الهدّامة.
وفي ظل غياب الحد الأدنى من أخلاقيات العمل السياسي، فإن مصلحة البلاد ستظل ثانوية في منظور النخبة السياسية الحالية؛ إذ يقول توكفيل: "إنّي أفهم من كلمة أخلاق ما كان يفهم منها القدامى. إنّي لا أطلقها فقط على قواعد الوجدان، بل على ما يوجد في ذهن الإنسان، على الآراء السائدة، على كل ما ينتظم به الفكر. أفهم إذن من كلمة أخلاق الحالة الأدبية والفكرية لشعب ما".
على النخبة السياسية أن تنصرف لتوفير الحد الأدنى من العيش الكريم لأبناء الشعب وتركيز الأطر التي تضع تونس على سكة التقدم والنماء. وأن تترك النقاش الفكري البناء يدار في الفضاءات التي يمكن له أن يثمر من خلالها. وأن يحرّروا الساحة من حساباتهم الأيديولوجية الضيقة ليتركوا المكان لمصلحة تونس العليا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.