تسلب الأزهر صلاحياته وتطيح بشيخه وتدجّن المسلمين.. ماذا وراء ثورة السيسي الدينية؟

عدد القراءات
501
عربي بوست
تم النشر: 2020/08/29 الساعة 08:10 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/08/29 الساعة 08:17 بتوقيت غرينتش

لدى الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي وحلفائه من أهل الثقافة من النخبة العلمانية، بينهم جابر عصفور وزير الثقافة السابق، اقتناع أن مفتاح تقدُّم مصر هو الإصلاح الديني. ولا عجب إذن أن نرى أن محاربة "التطرف الديني" كانت المبرر المحوري لانقلاب عام 2013 وما تلاه من أحداث دامية وقمع سياسي جماعي.

وفي شهر العسل الذي أعقب الانقلاب، وأثناء إعداد التعديلات الدستورية التي عززت التحالف الذي أطاح بالرئيس المصري محمد مرسي، مُنح الأزهر صلاحيات مهمة في تحديد تعاليم الإسلام التي ستلقى على العامة في مصر، حتى وإن لم يكن ذلك في صورة دور رسمي في العملية التشريعية.

الأكثر أهمية ربما من منظور الأزهر، هو الاستقلال المؤسسي الذي مُنح له ليدير شؤونه بنفسه، وقد وصل لدرجة لم يسبق لها مثيل منذ أيام الرئيس المصري السابق جمال عبدالناصر.

الأزهر المستقل 

غير أن العديد من العلمانيين في تحالف السيسي قد أكنوا في صدورهم شكوكاً من دور الأزهر في حياة المصريين، وبعد فترة وجيزة من الانقلاب دخلوا في حملات عامة تنتقد تشدد المناهج الأزهرية، وإخفاق الأزهر في تجديد كتبه لإعداد الطلاب للتعامل مع تحديات المجتمع الحديث.

واستغلت الصحافة بعض النقاشات الفقهية حول بعض المسائل التي تبدو غريبة، مثل مشروعية أكل الميتة خوف الهلاك من الجوع، لتظهر أن مناهج الأزهر كانت هي السبب في التطرف الديني، وأن الأزهر عليه أن يدخل إصلاحات على مجالات الدراسة فيه، بهدف التصدي لـ"التطرف الديني".

فلماذا اختار الأزهر أن يدعم الانقلاب بدلاً من أن يلتزم الحياد أو يدعم الرئيس المصري الوحيد الذي وصل إلى السلطة بانتخابات حرة ونزيهة؟ ربما تظل إجابة هذا السؤال مجهولة إلى الأبد، ولكن المعروف أن السيسي لم يلبث هو الآخر بعد الانقلاب أن يفقد الثقة في الأزهر، بعد أن اكتشف أنه بقيادة إمامه الأكبر الشيخ أحمد الطيب ليس هيئة مذعنة مستعدة لفعل ما يأمر به كما تفعل سائر جهات الدولة.

ومن هنا بدأ السيسي ومؤيدوه عملية تهدف إلى تجريد الأزهر من العديد من صلاحياته. وقد تراكمت جهودهم في هذا الصدد مؤخراً لتصل إلى إعداد قانون جديد يرفع السلطة الدينية لدار الإفتاء لتتساوى مع سلطات الوزارات تحت سيطرة الرئيس وخارج إشراف الأزهر. وبعد أن أبدى الأزهر علناً وبلهجة شديدة معارضته مشروع القانون، قرر البرلمان المصري مؤخراً سحبه، ولا يزال من غير المعروف ما إذا كان سيحاول تمريره مرةً أخرى أم لا.

التغيير بالقوة

الرواية الشائعة تشير إلى أن تلك الإجراءات، إن نجحت، سوف تنجح في تجريد الأزهر من الدور المقر له دستورياً، ومن سلطته المهمة على تنظيم الحياة الدينية للمجتمع المسلم في مصر. أما أنا فليس لدي أدنى شك أن هذه الإجراءات، إذا تم تمريرها في نهاية المطاف، ستنجح في منح دار الإفتاء، المؤسَّسة حديثاً، صلاحيات رسمية أكبر في الدولة المصرية، وإن كنت أشك أنها ستنجح في تخفيض دور الأزهر بشكل قوي في المجتمع المصري، سواء كان هذا الدور ضاراً أم نافعاً.

يشرف الأزهر على منظومة تعليمية ضخمة تبدأ من سن الحضانة وتنتهي ببرامج الدكتوراه في الدراسات الدينية والعلمية والأدبية. وتأثيره الاجتماعي في الثقافة والتعليم في مصر أعمق من أن يتأثر بأي تغيير رسمي، كتغيير جهة تعيين المفتي، وأن يظهر أثر هذه التغيير على أرض الواقع.

وثمة ميل إلى المبالغة في دور الأزهر بوصفه الموجِّه الديني الفعلي للحياة اليومية في مصر. وبزيادة معدلات القراءة وانتشار المؤلفات الدينية، مرت أجيال الآن على العهد الذي كان فيه لعلماء الدين من خريجي الأزهر سطوة واحتكار لتعليم الدين في مصر، سواء أعجبنا هذا أم لا.

وإصلاح التعليم الديني في مصر عامة، والتعليم الأزهري بشكل خاص، أمرٌ محل جدل في مصر منذ ما يربو على القرن. الإشكال الحقيقي هنا ليس في "الإصلاح" بحد ذاته، وإنما في اختلاف دوافع من يدعون إليه والمقياس الذي يُحدد به نجاح الإصلاح من إخفاقه.

فدعاة الإصلاح من داخل الأزهر، مثل الإمام محمد عبده، قد دعوا إلى إصلاح مناهجه لتصبح أكثر فاعلية في المساعدة في صياغة رؤية إسلامية شاملة للمجتمع المصري الحديث ذي الأغلبية المسلمة، ولتكون أكثر دينامية وتحلياً بالتفكير النقدي.

حماية ذوي الحظوة

أما دعاة الإصلاح من خارج الأزهر، مثل عصفور والسيسي، فلهم مقياس مختلف لنجاح الإصلاح، وهو مدى نجاح تدجين الثقافة الدينية المصرية، لاسيما في أوساط المسلمين، لتلائم رؤية النخبة الحاكمة فيها. وبالنسبة لكلٍّ من عصفور والسيسي، وإن تباينت أسبابهما تبايناً كاملاً، يحتاج الإسلام إلى إصلاح بحيث يصبح تدين الإنسان مقتصراً على علاقته بربه.

ويعيد تحالف مفكر كجابر عصفور مع السيسي في هذا المشروع إلى الأذهان العلاقة بين الفيلسوف الألماني العظيم إيمانويل كانط بدكتاتور عصره المستنير فريدريك العظيم ملك بروسيا. ومن نافلة القول هنا أن نذكر أن عصفور ليس كانط، والسيسي ليس فريدريك العظيم بلا شك.

لا يجادل أحدٌ في أن الأزهر يحتاج إصلاحاً عميقاً، غير أن هذا يصدق على كل مؤسسة عامة في مصر، فما من مؤسسة فيها إلا وتعاني التخلف وسوء الإدارة والفساد والخلل الوظيفي. وهذه هي النتيجة المتوقعة بالكامل من دولة تكاسلت منذ جيلين أو أكثر عن وضع أي خطة جادة لتحقيق التنمية الوطنية.

لا يوجد دليل على أن نظام السيسي قد خرج على نهج الدولة المصرية المعتاد في هذا الصدد وألزم نفسه بإجراء عملية إعادة هيكلة للأولويات الوطنية في اتجاه الاستثمار في البنية التحتية المادية والاجتماعية والبشرية للبلاد، وهو أمرٌ تحتاجه الأغلبية العظمى من الشعب المصري. بل إن الواقع يقول إن الموارد الحكومية المحدودة في مصر باتت تُنفق على طبقة من نخبة المصريين تزداد تضاؤلاً مع الوقت، كما لو أن الدور الوحيد للحكومة هو حماية ذوي الحظوة الذين لا تزيد نسبتهم عن 1% من الشعب المصري، مخلفة ما تبقى من الشعب ليدافع عن نفسه.

ويلزم النظر إلى الهجوم على الأزهر في هذا السياق. ذلك أن الأزهر هو المؤسسة الحكومية الأبرز، ولها جذور اجتماعية عميقة خارج الدولة المصرية الحديثة. ومن وجهة نظر الدولة المصرية نفسها ورؤيتها التي تقضي بأن الشعب المصري وثقافته هما سبب الإشكال، فإن الأزهر كبش فداء مناسب، يمكننا أن نحمله المسؤولية عن الإخفاقات المستمرة في التقدم والتنمية.

الحمار أم البردعة؟

يقول المثل الشعبي المصري "مقدرش على الحمار اتشطر على البردعة" (أي عجز عن ركوب الحمار فأوسع البردعة ضرباً)، وهذا المثل يعبر ببراعة عن السياسة التي ينتهجها السيسي وحلفاؤه من أنصار العلمانية تجاه إصلاح الأزهر. وقد صدق الشيخ الطيب فيما قاله أثناء مؤتمر في القاهرة نظمه الأزهر لمناقشة مسألة الإصلاح الديني، رغم ما يقرب من القرن من محاولات العلمنة، فإن مصر لا تزال عاجزة عن صنع إطارات السيارات، ناهيك عن مشاركتها في الصناعات المتقدمة والمعقدة.

بالطبع يمكن للسيسي وحلفاؤه من العلمانيين تدمير ما تبقى من الأزهر، ولكن هذا لن يغير من واقع الإخفاقات المتكررة في وضع استراتيجيات ناجحة للتطور والتنمية.

والأفضل للمصريين أن يركز حاكمهم وحاشيته من النخب العلمانية على وضع سياسات فعالة للتنمية، بدلاً من الدخول في جدل ديني وتشريعي أجوف لم يكن له أثرٌ يذكر على تخفيف متاعب المصريين.

والحق أنهم لو ركزوا على تعلم كيفية ركوب الحمار وتوقفوا عن ضرب البردعة، فإن مشكلات مصر الدينية ستحل نفسها بنفسها، كجزء لا يتجزأ من حالة التحسن العام التي ستشهدها أمور الناس.

ودون هذا الالتزام، فإن أي إصلاح تتولاه الدولة للأزهر لن يحقق الهدف المعلن منه، وهو الخروج بخطاب إسلامي مسؤول.

– هذا المقال مترجم عن موقع Middle East Eye البريطاني.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

محمد فاضل
أستاذ القانون في جامعة تورنتو
أستاذ القانون في جامعة تورنتو
تحميل المزيد