"إننا نحتاج إلى تلك الكتب التي تنزل علينا كالصاعقة، التي تؤلمنا، كموت من نحب، كالانتحار، على الكتاب أن يكون كالفأس التي تحطم البحر المتجمد في داخلنا، هذا ما أظنه".
- فرانز كافكا
لا يكاد ملف الاغتيالات السياسية إبان الثورة التونسية يخبو، إلا ويطفو من جديد، إما لتفاصيل جديدة أو للمزايدة السياسية والابتزاز. ورغم أن غموض مثل تلك القضايا يمثل مادة ثرية تفتح للكُتاب باب التخيل ليحبكوا ما استعصى على المحققين حبكه، فإنه لم يتم تناول مثل تلك الأحداث في الروايات التونسية الصادرة رغم دسامة أحداثها، وهذا ليس غريباً، بل هو دليل على أزمة التخيل والخيال في الساحة الثقافية التونسية خصوصاً، والعربية عموماً، حيث تغيب الكثير من القضايا كقضايا التحرير والاستقلال والحرب، ليقتصر جل الرواة على أدب المهجر والسجون والتمرد على الموروث الثقافي. وكاد الأمر يبقى كذلك لو لم يطلّ علينا كمال الرياحي برائعة من روائعه، لعلّها أروعها، وهي رواية "البيريتا يكسب دائماً".
صدرت الرواية في طبعتين، إيطالية عن منشورات المتوسط، وتونسية عن دار الكتاب. وهي العنوان الخامس في مسيرة الكاتب الروائية، بعد تجارب قصصية، شعرية، نقدية وأيضاً فنية تشكيلية. وهو ما حصد له عدة جوائز على الصعيد المحلي والعربي، أولها جائزة الكومار الذهبي عن روايته المشرط، وآخرها جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة عن روايته "واحد صفر للقتيل".
في رواية "البيريتا يكسب دائماً"، يعيد الكاتب بعث شخصية "علي كلاب" من رواية "الغوريلا"، وشخصيات أخرى كستيلا من عشيقات النذل، ليمضي عبر 238 صفحة في تناول أطوار قضية شائكة ومعقدة، يبدع في وصف تفاصيلها وأحداثها، مستفزاً الحواس عبر الروائح والمشاهد، فتتسارع دقات قلب القارئ وتنخفض مع تواتر الأحداث، يمكن اعتبار هذه الرواية هي أول الأعمال البوليسية على الموديل الأمريكي للروايات، تحديداً موديل ستيفن كينغ، والذي يرى أن الرواية هي سرد، حبكة وحوار.
أما عن السرد فيدور في ثلاث طبقات، سرد يذكرنا بفيلم "Inception" لعملاق الإخراج السينمائي، الأمريكي كريستوفر نولان، وربما بمسلسل أخيه جوناثان نولان: "Westworld". في مستوى أول هناك المحقق "علي كلاب"، الذي يعاني اضطرابات نفسية، نتيجة حوادث مرّت به خلّفت آثاراً عميقة في تفاصيل يومه. المستوى الأول من الرواية هو تحقيق الضابط علي في قضية غامضة، ويسعى طوال الرواية إلى ربط أجزائها كأحجية، طوال فصول الرواية، عبر التمحيص في الأدلة التي جمعها من الشقة المشبوهة، ومن الأدلة تسجيلات ومذكرات لأحد المشتبه بهم، حيث يتناول تفاصيل حياة الأخير، وهنا يبدأ الجزء الثاني.
أما الجزء الثالث فهو بعض أجزاء من حياة الكاتب الأمريكي "ديفيد فوستر والاس"، الذي يتناولها المشتبه به الثاني، الكاتب يوسف غربال، ليحرر حوله مقالات للجريدة التي يعمل بها، فالعملية السردية في الرواية أشبه بعملية غوص من مستوى إلى الآخر، مع المراوحة بينها بطريقة ذكية تفنن الكاتب في صياغتها، على أنها تتطلب دراية مسبقة بأسلوبه وتوجهه، وفطنة من القارئ وتركيزاً.
للرواية مستويان، ظاهر وباطن، حيث عمد الكاتب إلى التقدم بأحداث الرواية أثناء تحقيق بوليسي يظهر عادياً، ليرشد القارئ بيد خفية إلى سيرة مسدس تتلقفه أيدي رجال الشرطة والمخبرين والإعلاميين والكتاب والمجرمين. وتنمو شخصيات مختلفة داخل هذه الحبكة السريالية المتقنة بأسلوب خاص تميز به الكاتب عبر مسيرته الثرية، لينتج بناءً روائياً فريداً يقطع مع البنية التقليدية للرواية العربية، وهو ما نلحظه، خاصة في الحوار بين الشخصيات.
يمثل الحوار عمود الرواية، حيث تنطلق الشخصيات في الكلام منذ الأسطر الأولى بلغة تتناسب والشخصيات المختلفة داخل الرواية، والتي تنبع من بيئات متباينة بين مثقفين ومهمّشين. ويمتد الحوار إلى مونولوجات داخلية، فيغوص الروائي بأغوار شخصية الكاتب "يوسف غربال"، شبيه كمال اليحياوي في رواية "عشيقات النذل"، واللذين يشبهان في تفاصيلهما شخصية كمال الرياحي. وحتى الحيوانات تحضر كشخصيات حية عبر الكلب فوكس، والذي يجمعه حوار في الشرفة مع يوسف، الذي يحرّضه على الانتحار كما دعا إليه عالم الاجتماع الفرنسي دوركهايم، حيث تتناول أيضاً الرواية آخر أيام هذا الكلب، حيث يتوج آخر المشاهد. حضور يذكرنا بحضور كلب الدموع في رواية العمى لساراماغو (ولو شكلياً)، وكلاب كل من أفلاطون وشوبنهاور.
بالإضافة إلى الأبعاد الفلسفية، خاصة النيتشوية، تتناول الرواية أيضاً تفاصيل حياتية مجتمعية كالخيانة الزوجية والانتحار، بالإضافة إلى تفاصيل عن الاغتيالات السياسية والشبهات حول بعض الشخصيات، كزوجة الشهيد شكري بلعيد، والشكوك حول ضلوع بعض الشخصيات الأمنية في عملية اغتياله. ما يجعل الرواية قريبة من الواقع المعاش. وما الرواية إلا إيهام بالواقع على رأي الناقد كولن ولسن.
كما تتناول قضايا العنف المستشري في المجتمعات العربية، والذي يعتبره الكاتب "المشترك في العالم"، حيث فضل مقاربته واعتماده في مشروعه الأدبي، ما يذكرنا بأفلام المبدع الأمريكي "كوينتين تارنتينو".
تقطع الرواية عن المألوف السائد والصورة النمطية للرواية، لتؤسس للكتابة الإبداعية المعاصرة. حيث لا وجود لشخصية البطل الإشكالي في الرواية، فالكل يتشاركون الأبطال، وتتوزع البطولة بينهم عبر حوارات تجسدهم أحياء بلغة رمزية تحيل إلى استطرادات فلسفية، كماهية وجدوى الحياة داخل القوالب الجاهزة والدعوة إلى الثورة والتمرد. ناهيك عن جبروت السلطة المتمثل في علي كلاب، وظلمها وتضييق الخناق على مختلف الفئات، ومشاركتها في الفساد داخل المجتمع، عبر كسر ساق "محمد علي المنصوري"، شيخ الباساج القعيد، وابتزاز الشابة بية، التي تضطرب في الرواية وتعاني مما تعانيه مختلف بنات جيلها من تيه وحيرة، فإما الانخراط في كليشيهات المجتمع وقمع الذات، وإما التحرر والتعرض للنبذ والاستغلال.
"كل واحد فينا غير كامل مقارنة بشخص آخر، والحيوان غير كامل مقارنة بالإنسان، والإنسان مقارنة بالله، والوحيد الكامل هو الخيالي".
هكذا قال جورج باتاي، والرواية ككل عمل إنساني بها ما بها من نقائص قد يحسها القراء ويراها النقاد أو يغفلونها، لكنها لا تنفك تراود بحبكتها السينمائية العالية صناع المواد السمعية البصرية، لتطويعها إلى فيلم ربما يكون بداية لانخراط الأدب التونسي في منظومة الإنتاج الترفيهي، وهو ما من شأنه أن يحفّز كُتاباً آخرين للمضي في هذا النهج الذي لم نسلكه بعد. علّنا نتجاوز أزمة فقر السيناريوهات التي تشهدها السينما التونسية منذ عقود، فهل سترى الرواية ظلام قاعات الفن السابع؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.