عبر خطاب مطوَّل تجاوز الساعة ألقاه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من الحديقة الجنوبية للبيت الأبيض أمام عشرات من الحضور، أنهى الحزب الجمهوري آخر أيام مؤتمره الوطني منتصف ليل أمس الخميس لتضح كاملة ملامح استراتيجية، وتوجه ترامب والحزب في مواجهتهم للديمقراطيين في الانتخابات الرئاسية القادمة والتي تصاحبها انتخابات التجديد النصفي للكونغرس. استراتيجية استندت على جملة من المحاور يمكن قراءتها وتخليصها من خلال نمط الخطاب وتكرار عبارات المشاركين الذي عكس اختيارهم أيضاً بعض من ملامح هذه الاستراتيجية، إلا أن الرسالة الضمنية التي سعى المشاركون تمريرها طوال الوقت ويمكن استنتاجها فهي: نحن أو الفوضى.
على عكس كثير من المتابعين، مثلت أحداث الشغب التي انطلقت في مدينة كينوشا بالتزامن مع بداية مؤتمر الحزب الإثنين الماضي، على خلفية إطلاق رجل شرطة النار على شاب أمريكي من الظهر أمام أولاده، مثلت تلك الأحداث فرصة ذهبية للجمهوريين، فطوال المؤتمر كانت الرسالة الأساسية أن الديمقراطيين سيجلبون الفوضى وأنهم أصحاب أجندة معادية للشرطة والأمن العام ومؤيدة للمخربين، معتبرين أن أحداث الشغب تحدث لأن حكام الولايات والمدن التي انطلقت فيها الأحداث ديمقراطيون.
وكان مايك بنس نائب الرئيس الأمريكي أكثر المباشرين في تناول هذه النقطة عندما أشار إلى أن انتخاب ترامب يحفظ القانون والنظام، وأن الأمريكيين لن يكونوا بأمان في "أمريكا جو بايدن"، على حد تعبيره.
الفوضى الدولية
الشرق الأوسط والمسلمون كانا حاضرين في خطابات كبار المتحدثين بجانب الصين في إطار تحذيرات ترامب ومايك بنس المتكررة من تساهل بايدن مع الصين والإسلام الراديكالي، حتى أطلق بعض المتحدثين عن بايدن "بيجين (بكين) بايدن" في إشارة لعاصمة الصين، وقال ترامب إن فوز ترامب يعني أن الصين ستمتلك أمريكا. وحذر ابن ترامب، ترامب جونيور، من الإسلام الراديكالي مع غيره من كبار المتحدثين. هذا جنباً إلى جنب مع الحديث عن الإنجازات التي حصدها الجانب الإسرائيلي في فترة ترامب. فجميع الخطابات التي تناولت الإسلام الراديكالي كانت تدور عما اعتبر إنجاز نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس وضم مرتفعات الجولان السورية وتوقيع اتفاقية التطبيع بين الإمارات وإسرائيل التي أطلقوا عليها في المؤتمر اتفاقية سلام. إضافة لقتل أبوبكر البغدادي زعيم تنظيم داعش وقاسم سليماني قائد فيلق القدس وهو ما ذكره مايك بومبيو وزير الخارجية من القدس لدعم ترامب في خطوة أثارت الكثير من الجدل. وبالتالي يمكن القول إن ترويج أجندة الاستقرار في مقابل الفوضى لم تكن على مستوى الشأن الداخلي فقط بل الشأن الدولي أيضاً وكانت ساحة الشرق الأوسط هي الأكثر بروزاً في الحديث عن جلب هذا الاستقرار وكان أكثر الأطراف مغازلة هم اليمين الإسرائيلي.
حضور ديني طاغٍ
لم يغِب عن الجمهوريين توظيف الدين والخطاب الديني بشكل مكثف عبر المتحدثين أو القضايا المطروحة في المؤتمر، الأمر الذي يظهر أن تنامياً لتوظيف الدين سيكون فاعلاً في استراتيجية الجمهوريين. فعلى عكس الديمقراطيين الذين بدأوا فقط مؤتمرهم بصلاة دينية، استضاف الحزب الجمهوري رجال دين متحدثين في المؤتمر، ما بين مسيحيين إنجيليين وراهبة كاثوليكية ليقدموا الدعم لترامب باعتباره الأكثر تقديراً لتعاليم الدين والأكثر خدمة للدين واتباعاً للتعاليم الدينية والتي يرغب الديمقراطيون في تقويضها. ومن هنا جاء الاستخدام المكثف لعبارة "الحفاظ على حرية الأديان" في كلمات متحدثين باعتبار أن التيارات الليبرالية تريد أن تفرض أجندتها على الدين. وتلك المسألة كان مدخلها الرئيسي القضايا الاجتماعية الخلافية وفي القلب منها قضية الإجهاض ونمط أو شكل الأسرة في إشارة ضمنية لرفض الجمهوريين وخاصة التقليديين منهم لزواج المتشابهين في الجنس.
وبالتالي فإن استراتيجية ترامب هي مغازلة الكتلة المحافظة الكبيرة التي تشكل معها القضايا الاجتماعية المرتبطة بالدين فارقاً مهماً عند الانتخاب وهي الكتلة الإنجيلية المحافظة والمشكلة لما يقرب من 80% من أصوات ترامب، بحسب مركز بيو للأبحاث.
ترامب في مواجهة واشنطن
في كلمتها الافتتاحية التي قدمت بها والدها، قالت إيفانكا ترامب إن "واشنطن لم تغيّر ترامب بل ترامب هو من غيّرها" تمثل هذه العبارة مع عبارات أخرى لا تعتبر ترامب سياسياً أو تستبعده من قائمة السياسيين التابعين للمؤسسية "The establishments" تمثل جزءاً رئيسياً وجوهرياً من استراتيجية ترامب الشخصية والتي استطاعت أن تتفوق على هيلاري كلينتون. الاستراتيجية مفادها أن هؤلاء السياسيين فاسدون لا يمثلون أحلامكم أنتم العاديون خارج دائرة النخبة. ولهذا ركز ترامب في كلمته على هذا المعنى، لأنه يطرحه بشكل متمايز عن النخبة التقليدية.
الأمل والحلم الأمريكي والاقتصاد
لم ينسَ الحزب الجمهوري وترامب أن يقوموا بالرد على مؤتمر الحزب الديمقراطي ضمنياً ومواجهة استراتيجيتهم القائمة على الهجوم على ترامب وذكر عيوبه وإخفاقاته. فجاء التركيز على كلمتين رئيسيتين بجانب كلمة الفوضى، وهما الأمل والحلم الأمريكي. كان الاستخدام المكثف لتلك الكلمتين ظاهراً في غالبية الكلمات خاصة من الناس العاديين أصحاب المواقف المتميزة أو ذوي القصص المؤثرة، فضلاً عن المسؤولين الحكوميين أو النواب. بدا الأمر وكأنه ردّ على الديمقراطيين فضلاً عن إرسال رسالة تقول إن الحلم الأمريكي الخاص بتوفير الفرص هو في الأجندة الجمهورية الخاصة بتخفيض الضرائب وتقليل تدخل الحكومة في الاقتصاد والحد من الهجرة، وأن جميع الإجراءات الحمائية في الاقتصاد وبناء جدار عازل في الجنوب والإبقاء على التأمين الصحي الخاص هو الذي سيعطي الناس الحلم الأمريكي.
ولعل ورقة الاقتصاد هي الأبرز في يد ترامب، فالاقتصاد الأمريكي انتعش في وقت ترامب على مستوى الوظائف وانخفضت البطالة بمعدلات كبيرة جداً. لذلك وصف ترامب بايدن بأنه "حصان طروادة" للاشتراكية والشيوعية وقال عنه إنه سيكون مدمراً للوظائف، معتبراً أن فيروس كورونا صيني وأنه مؤامرة ضده. لذلك تجاهل في كلمته دعوة عشرات الضيوف للبيت الأبيض دون أي إجراءات وقائية من الفيروس، مستخدماً هو وزوجته وابنته حديقة البيت الأبيض في إلقاء كلماتهم. لذلك تتجه استراتيجية ترامب نحو التركيز على الاقتصاد كأهم منجز واضح له قبل حالة التدهور التي دخلها الاقتصاد الأمريكي بعد ظهور الفيروس وعدم قدرة إدارة ترامب على احتوائه مبكراً.
فشل استقطاب الرموز والمزايدة الوطنية
لكن ما فشل فيه الجمهوريون هو الحصول على ضيوف من الوزن الثقيل من الديمقراطيين لتأييد ترامب، كانت تلك استراتيجية ناجحة من قِبَل الديمقراطيين حاول الجمهوريون تقليدها، لكنهم عجزوا عن ذلك وجاءت باهتة مع أشخاص مغمورين أو عاديين لا يشكلون عناوين الأخبار مثل كولن باول، لذلك كان التأكيد السابق المتكرر بأن ترامب يُحارب لأنه ينتمي "للناس وليس النخبة". وكان الملمح الأكبر الذي يعكس حالة الاستقطاب الكبيرة في المجتمع الأمريكي هو حالة المزايدة الوطنية وارتفاع النبرة الوطنية بشكل مكثف، وأكد ذلك ترامب في كلمته بأن الاختيار ليس مجرد منافسة بين شخصين بل بين "رؤيتين – فلسفتين – أجندتين للحياة" وبالتالي فقد جعل المسألة بين أبيض وأسود، والأمر بات كذلك مع حالة الاستقطاب الحادة التي كست وغطت كل شيء في الشارع الأمريكي فباتت المواقف الوسط نوعاً من أنواع الانتحار السياسي والاجتماعي.
والآن باتت المواجهة قادمة مباشرة في المناظرات الثلاث المتوقعة بين ترامب وبايدن ومناظرة بينس وهاريس هي الكاشفة عن أي أسلحة أو أوراق جديدة، فالمجتمع الأمريكي ومنذ فترة مبكرة قد حسم الناس فيه أو غالبيتهم العظمى مواقفهم من الاختيار ولم تعد هناك مساحة كافية للأصوات المتأرجحة في تلك المعركة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.