يصمتن لسنوات وفجأة يتحدثن جميعاً.. ما حقيقة حملات النساء لفضح المتحرشين؟

عربي بوست
تم النشر: 2020/08/26 الساعة 08:13 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/08/26 الساعة 08:19 بتوقيت غرينتش

بدأت قضايا العنف ضد المرأة في مصر تطفو على سطح المجتمع وتشغل مساحة كبيرة في الرأي العام، مع استمرار النساء في نشر تجاربهن مع العنف والتمييز، بداية من شهادات التحرش والاغتصاب ضد أفراد بعينهم في الشهور القليلة الماضية، مروراً بالقبض على فتيات التيك توك بتهمة الاعتداء على "تقاليد الأسرة المصرية"، وصولاً إلى نشر شهادات لصحفيات ضد الصحفي هشام علام تتهمه بالاغتصاب والتحرش، ورد الأخير على ذلك بالنفي وادعاء تزوير هذه الشهادات.

ونتيجة لهذه الأحداث تظهر بعض التساؤلات عن الضحايا والناجيات من تلك الحوادث، لماذا التزمن الصمت كل تلك المدة؟ ولماذا يتحدثن الآن؟ ولماذا تستمر بعض النساء في إبقاء علاقاتهن بالمغتصب والمتحرش؟ وكيف يمكن إثبات شهادات النساء إن لم يكن هناك دليل إثبات قاطع كما جاء في حادثة "الفيرمونت" التي تم تصويرها بشكل واضح؟ سأحاول الإجابة عن هذه التساؤلات من خلال وجهة نظري وتجربتي الشخصية والتجارب التي شهدتها مع دوائر معارفي من النساء.

أولاً لا يمكن أن نتجاهل الفروقات المختلفة بين النساء في المجتمع، ولا يمكن قياس ردود الفعل للبشر عموماً بشكل ثابت، ولا يصحّ رسم صورة نمطية دائماً للضحية أو الناجية، فلا يمكننا أن نغفل العديد من التقاطعات الاجتماعية التي تخلق معطيات مختلفة في كل قضية مثل الطبقة الاجتماعية والدين والعرق والحالة الاجتماعية و"الجندرية"، بالتالي أيضاً لا يمكن النظر للجناة بنفس الطريقة ووضعهم في قالب ثابت ورسم صورة نمطية لهم كعناصر فاسدة دخيلة على المجتمع، أو حتى ضحايا للظروف الاجتماعية الصعبة، وكأنهم حالة نادرة الحدوث، بل الجناة هم أناس طبيعيون قد يكونون محبوبين أو مكروهين، من صفوة المجتمع أو من من الطبقة الفقيرة، وليسوا بالضرورة أشراراً في المطلق كشخصيات الدراما المصرية أحادية المشاعر، وقد نرى أحياناً ضحايا يتعاطفن مع الجناة، بالطبع هذا تصرف محبط، لكن لهذا الواقع المؤلم أسباب مختلفة.

لا يمكننا أيضاً تجاهل دور المجتمع الذكوري والنظام، إذ يعتبرون من أهم العوامل المؤثرة على انتهاكات حقوق المرأة، ويعتبر القانون والمجتمع الأبوي والنظام الاقتصادي الرأسمالي والسلطة الحاكمة هي الأذرع الأساسية لهذا النظام.

ومثال على كل ما سبق، دعونا نتخيل سيناريو رجل ينتمي للطبقة الفقيرة في مصر يتحرش بفتاة من الطبقة البرجوازية، أو العكس، أن رجلاً من الطبقة البرجوازية يتحرش بفتاة من الطبقة الفقيرة، هل ستتعامل السلطة والمجتمع بنفس الشكل؟ هل ستحرص على تطبيق العدالة للفتيات في كلتا الحالتين دون النظر إلى الفتاة الفقيرة بدونية أو اتهامها بأنها هي السبب؟ وهل ستحافظ السلطة والمجتمع على سمعة الرجل الفقير وسرية المعلومات في القضية كما ستحافظ على سمعة الرجل الغني وسرية معلوماته؟

ولنا في قضية الفيرمونت وقضية بنات التيك توك عبرة، فهناك فتيات من الطبقة الوسطى لا جريمة لهن سوى الرقص، يتم التنكيل بهن وتشويه سمعتهن وحبسهن والحجز على أموالهن، أما الرجال المغتصبون من الطبقة البرجوازية أصحاب السلطة في قضية الفيرمونت تتم حماية خصوصيتهم والحفاظ على سمعتهم، بالرغم من وجود دليل مادي مثبت على جريمتهم البشعة التي لا يمكن مقارنتها بالرقص.

لماذا تلتزم النساء الصمت لفترة طويلة وأحياناً إلى الأبد؟ 

في الواقع لا تقف النساء على نفس المستوى من الوعي بمصطلحات مثل الابتزاز العاطفي، التحرش، الاغتصاب، التهديد، واستخدام السلطة، وأذكر هنا في فترة مراهقتي التي قضيتها في مدرسة للبنات فقط، كان المصطلح الدارج للتعبير عن التحرش هو "المعاكسة"، وكانت المعاكسة تلك تتعامل معاملة الفعل الظريف اللطيف المضحك، كنا نتعرض له يومياً مع الذهاب إلى المدرسة والخروج منها، فكان كل متحرشي المنطقة ينتظرون أمام مدرسة البنات يومياً، وعندما كنت أشكو لأمي كانت تقول لي: "إوعى تقولي لبابا، هيقعدك من المدرسة"، وبالطبع كانت المدرسة تبلغ الشرطة كل فترة عن حوادث التحرش بالطالبات، وكان قسم الشرطة على بعد أمتار، لكن لم يحركوا ساكناً طوال 6 سنوات، ومن هنا بدأت أعتاد الصمت على الانتهاكات.

عندما كبرت قليلاً ومع الثورة والتوسع في استخدام الفضاء الإلكتروني وزيادة الوعي النسوي، أصبحت أعرف كلمة التحرش، لكنني اختزلتها في عقلي على التحرش الذي كنت أتعرض له يومياً في الشارع فقط، للأسف لم أكن أستطع التفرقة بين التحرش وبين المجاملات أو محاولات التقرب عندما تصدر من المعارف وزملاء الدراسة أو العمل، كنت أستشعر الفارق فقط في عدم ارتياحي النفسي والجسدي وشعوري الداخلي بالانتهاك الذي لم أكن أستطع فهمه (أجسامنا تفهم في أغلب الأوقات وتستشعر الخطر حتى وإن لم تتخذ أي رد فعل)، كان رد فعلي كالعادة هو أن أنسحب من المكان وأراجع تصرفاتي وأتساءل: ما الذي فعلته؟ هل أنا فتحت الباب لمثل تلك التصرفات؟ هل بدر مني أي مقدمات تشجع على ذلك؟ هل الطبيعي أن يتعامل الرجال والنساء هكذا وأنا فقط أعقد الأمور؟

وبمرور الوقت وتكرار الانتهاكات ونشر قصص وتجارب النساء مع العنف الذكوري والتحرش على الفضاء الإلكتروني بدأت أدرك أنني لم أكن مذنبة، وتعلمت تمييز التصرفات التي تنطوي على انتهاكات حتى بعد مرور وقت طويل عليها.

لكن هل قررت أن أعلن عن كل تجاربي؟ بالطبع لا، هل فكرت في الانتقام؟ لم أقم بذلك سوى مرة واحدة بمساعدة أصدقائي، وحتى الآن لا أرغب في تذكر كل هذه المواقف وأحاول الحفاظ على ما تبقى من صحتي النفسية لتحقيق أولويات أخرى ملحّة في حياتي، ولا أنكر أبداً أن هذا العنف قد ترك أثراً كبيراً على حياتي وعلى تركيبتي النفسية ومخاوفي ومدى ثقتي بالناس، لا أزال أشعر بالألم عند تذكر المواقف السابقة، وبعدم الأمان عندما أتعرف على أشخاص جدد، وبالترقّب عند ركوب المواصلات العامة أو المشي في شوارع القاهرة.

مع ذلك أحاول ألا يمنعني الإحباط والانسحاق في عجلة الحياة من التضامن مع النساء اللاتي يخترن نشر تجاربهن مع العنف الجنسي، وأظن أن هذا هو السبب في ظهور عدة شهادات ضد شخص واحد بمجرد ظهور الشهادة الأولى ضده، فهذا التضامن النسوي العفوي غير المنظم يحدث لأننا نصدق بعضنا البعض، على سبيل المثال عندما تقول فلانة إن فلاناً متحرش، وأنا أعرف ذلك وقد تعرضت أنا أيضاً لموقف مشابه مع نفس الشخص، أتضامن معها بنشر شهادتي عنه، لنكتشف أننا لم نكن الناجيات الوحيدات من نفس الشخص، وذلك ما يعطي الفرصة لفتيات أخرى بنشر تجاربهن مع أشخاص آخرين، فهو أمر أشبه بتأثير الدومنيو.

بالرغم من مشاعر الإحباط العامة المخيمة على المجتمع المصري وصعوبة المقاومة، لا نزال كنساء نعاني من كل أشكال الذكورية، نشعر بالمسؤولية الجماعية تجاه بعضنا البعض، ولهذا أؤمن بأهمية نشر القصص والشهادات وكسر حاجز الصمت عن الانتهاكات لتشجيع الناجيات على الحديث حول تجاربهن وقصصهن حتى وإن مرت عليها سنوات، أرى في ذلك ضرورة للضغط على النظام والمجتمع، وإيقاف المعتدين عند حدّهم، ونقل الخبرة من تجاربنا السابقة إلى الجيل الجديد ليتعلم منها أكثر حول التعامل مع الانتهاكات والعنف المحتمل، وهو ما تعلمته في وقت متأخر، ولو كنت قد تعلمته مبكراً لاختلفت حياتي كثيراً.

تختلف أسباب التزام الصمت عن الانتهاكات عند النساء، فبعضهن يدخلن في حالة من الصدمة والإنكار والانفصال عن الجسد والواقع، وبعضهن يشعرن بالألم والذنب والعار، وأخريات يفكرن في أسرهن ويخشين من ردود أفعالهم ومن إيذاء مشاعرهم، وبعضهن لا يمتلكن خياراً سوى التحمل والصبر والاستمرار في الحياة، وفي كثير من الحالات قد يكون المعتدي صاحب سلطة، أو من أحد أفراد العائلة أو رب العمل، وهنا قد تخشى الضحية أو الناجية من المواجهة وتختار التزام الصمت وتخطي الموقف بشكل ما أو تأجيل المواجهة لبعض الوقت حتى يتسنى لها استجماع قواها، وأحياناً ما تخشى أيضاً من الدخول في صراعات لتثبت للعالم أنها تعرضت للانتهاك الجنسي حتى يصدقوها.

من الضروري أن نعي باختلاف الأسباب نظراً لاختلاف تجارب النساء، والإيمان بحريتهن الفردية في الاختيار حتى ولو كان الاختيار انهزامياً.

بالإضافة إلى الأسباب النفسية للصمت، تلعب تقاطعات العوامل المختلفة كالطبقة الاجتماعية والدين والعرق والحالة الاجتماعية والجندرية أيضاً دوراً أساسياً في السكوت عن الانتهاكات كما ذكرنا من قبل، أو حتى في اختيار الإبقاء على علاقة بالمغتصب أو المتحرش أو المعنّف.

لا تتوقف أسباب الصمت عند ذلك فحسب، بل هناك أيضاً أسباب خارجية تتعلق بالنظام والقانون وطرق تنفيذ العدالة، فالنظام الذي يقمعنا ويقمع حرياتنا يتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية عن العنف، ويسلبنا الحق في التنظيم وابتكار أدوات مختلفة للمواجهة ونشر الوعي والمسؤولية، يطرح هذا النظام نفسه باعتباره الأداة الرسمية الوحيدة التي يمكن اللجوء إليها ولا يقدم سوى العقاب فقط دون تطوير أدوات أخرى لمواجهة العنف.

ونظرًا لتعقيدات التحقيقات وصعوبة التوجه لقسم الشرطة وتحمل نظرات أمناء الشرطة، والتعرض للتحرش في الطريق للإبلاغ عن واقعة تحرش أو اغتصاب، وتحمل المهانة في كشوفات الطب الشرعي لإثبات الاعتداء، قد تفكر النساء ألف مرة قبل اللجوء للمواجهة بهذا الشكل.

كيف يمكن توثيق شهادات الناجيات حتى لا يتحول الأمر إلى تصفية حسابات؟

نحن كنساء في أغلب الأحوال نصدق بعضنا البعض، لأننا نعلم مدى العنف الذي نتعرض له منذ الطفولة ويمكننا تصديق رواياتنا لأننا تعرضنا جميعاً لأحداث مشابهة ونقع جميعاً تحت طائلة الذكورية، ولا نحتاج من بعضنا البعض إثباتات في كل مرة تحكي فيها واحدة منا عن قصتها، فالقصص كثيرة ومتشابهة وكلنا تعرضنا لها.

لكن في أرض الواقع وبالقانون، يعتبر إثبات جريمة التحرش أو الاغتصاب من أصعب ما يكون، إن لم يكن هناك دليل مرئي أو مسموع أو مقروء كمحادثات الهاتف والرسائل النصية، وإن لم يكن هناك سياق للجريمة يمكن الاطلاع عليه أو أي أدلة جنائية أخرى، إلّا أن التواتر في الشهادات المجهلة للنساء، وذكر تفاصيل مشابهة عن نفس الشخص من نساء مختلفات لا تعرف إحداهن الأخرى قد يكون دليلاً قوياً، ومع سير التحقيقات وجمع شهادات النساء المختلفة يمكن إثبات الجريمة.

أما بالنسبة لاستخدام ورقة تصفية الحسابات تلك، فمن الصعب في مجتمع مثل مجتمعنا أن تقدم المرأة على التبليغ عن متحرش أو مغتصب دون أن تتعرض للانتقاد وتشويه السمعة وتتعرض لكل المهانات التي تحدثت عنها سابقاً، فلماذا تدخل نفسها إذاً في كل هذه التفاصيل الصعبة لمجرد تصفية حسابات؟ ولماذا يدافع الجناة عن أنفسهم دائماً بنفس الطرق الساذجة التي تضعهم في دائرة الشك أكثر فأكثر، كما فعل هشام علام متعمداً تلفيق شهادة ليثبت كذب الادعاءات عليه، دون حتى أن يفكر في الرد منطقياً على هذا الشهادات أو نفيها أو مواجهة الناس بحقيقتها؟! 

في النهاية، أرى أننا يمكن بالتنظيم النسوي والعمل الجماعي أن نتوصل إلى طرق أكثر فاعلية لإثبات وتوثيق الانتهاكات والعنف، والتوصل إلى حلول جماعية مبنية على المسؤولية المشتركة، لكن النظام يأبى ذلك ويرفض أشكال التنظيم المختلفة، ويخشى منها، لذا فنحن لا نزال تحت رحمة هذا النظام الشمولي الذكوري، ولا يزال أمامنا شوط طويل من النضال لأجل حقوقنا.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
ميادة سمير
كاتبة مصرية
كاتبة مصرية
تحميل المزيد