هل الديمقراطية التوافقية مبدأ حكم فعال في الدول المتعددة الأعراق والأديان؟ ما دور الثورة والعمل المؤسساتي في عملية التحول الديمقراطي في لبنان؟ هل الميثاقية والطائفية هي مصير اللبنانيين؟ أم المجتمع المدني؟ هناك عدد لا يُستهان به من المفكرين الذين حاولوا معالجة هذه القضايا المركزية في الذاكرة السياسية والمجتمعية اللبنانية، بدءاً من ميشال شيحا، وهو من الآباء المؤسسين للميثاقية، وصولاً إلى المؤرخ كمال الصليبي وغيرهم، لكن بغضّ النظر عن دراساتهم وآرائهم المختلفة، كانت التوافقية السياسية ومازالت عاملاً أساسياً يساهم في تكوين لبنان كدولة قومية، ومسألة شكلت الخطاب السياسي والاجتماعي للبلاد منذ استقلاله عن الحكم الاستعماري الفرنسي عام 1946.
لقد شهدنا في السنوات الماضية انهيار الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، في بلد أثّرت فيه المنافسات الجيوسياسية على شعبه، بغضّ النظر عن انتماءاتهم السياسية والدينية. لقد أدّى الانهيار الاقتصادي الذي تفاقم بسبب جائحة كورونا إلى تحويل مؤسسات الدولة اللبنانية ذات البنية التحتية المتدنية إلى مؤسسات شبه معدومة الفعالية. فارتفعت معدلات البطالة ومعدلات الانتحار، فيما فقد سعر الليرة ما يقارب الـ85% من قيمته. في غضون ذلك، مازالت الطبقة السياسية مصرة على استغلال هذه المصاعب لحساباتها الضيقة، فنراها توسّع وتقارب علاقاتها ومصالحها على أسس عشائرية ودينية، بعيدة كل البعد عن مصلحة البلاد الوطنية. ومع ذلك، فإن الانتفاضة الجماهيرية التي تفجرت في 17 أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، والتي دعت إلى تفكيك النظام الطائفي واستبداله بما سمّاه المتظاهرون "المجتمع المدني"، التوَت تحت هذه الظروف، ولكن بإصرار عنيد.
النخب اللبنانية الحاكمة
استخدمت الطبقة السياسية اللبنانية، التي تُجسد ديمقراطية جوزيف شومبيتر النخبوية كل سهم في جعبتها لقمع الانتفاضة. فالمتظاهرون احتقروا بشكل لا لبس فيه هذه النسخة من "الديمقراطية"، التي ليس لها أي قيمة جوهرية، والتي تكتفي بتمثيل الناخبين دون أن يكون القادة مسؤولين أمامهم. فبالنسبة للنخب الحاكمة، لا يضع الناخبون أجندات وقضايا سياسية، ولا يخرجون بمشاكل أو مطالب مجتمعية، لأنهم هم من يحدد هذه المصالح، وهم من يُهندس الرأي العام، وعلى الناخبين كأعضاء طائفة أن يكتفوا بهذا التمثيل والدور. وبالتالي، فإن اختزال الديمقراطية من مفهوم يتجاوز الشغف الديني إلى أسلوب لاختيار القادة، المحددين والمعروفين سلفاً في الحالة اللبنانية، أو إلى عملية لتنظيم المنافسة السياسية بين النخب الطائفية، يضحّي بالمبادئ الأساسية التي تقوم عليها شرعية المفهوم الديمقراطي؛ اللاحتمية السياسية وحكم الشعب.
من جانبهم طالب المتظاهرون بمجتمع مدني غير طائفي، يدور حول حرية الأفراد الذين يتمتعون بحقوق كاملة بغض النظر عن الأعراف المجتمعية المشتركة، كالطائفة والتاريخ على سبيل المثال. فالفرد لا يتمتع بهذه الحقوق على أساس العقد المجتمعي أو المنفعة العامة أو التقاليد الاجتماعية أو الدينية، بل على أساس الاستقلالية الأخلاقية والإنسانية التي تخوّله حمل هذه الحقوق، ومن هنا تأتي أولوية الفرد على المجتمع. فهم يناضلون من أجل ديمقراطية تنعكس في مشاركة الممثلين والناخبين في السلطة، وفي ديمقراطية تسمح للمواطنين بتكوين فضائل وواجبات مدنية من خلال خلق بيئة تحتضن الاختلاف، بدلاً من البيئة الحالية التي تقسم المجتمع إلى أعداء أو أصدقاء. وبالتالي، فإنّ الثوار يطالبون بمجتمع مشابه للمجتمع المسيطر في الغرب، حيث يشكّل مبدأ المواطنة والمؤسسات الحكومية وسيادة القانون عناصر أساسية في بنائه. ومع ذلك، فإن النخبة السياسية وقواعدها الانتخابية تصوغ مطالب الثائرين والثائرات على أنها إنكار للهوية الوطنية والدينية، ومحاولة توفيق فاشلة بين المعتقدات.
من الطبيعي أن يكون المجتمع المدني في شكله الديمقراطي الليبرالي المتمثل في حرية الفرد وأخلاقه في طليعة المطالب الشعبية. فهذا المجتمع، بالنسبة للمتظاهرين على الأقل، مجتمع يحارب حكم النخب التي حالت دون ظهور أي مساحة مجتمعية للمشاركة الديمقراطية، ومنعت أي تأثير على آلية صنع القرار. إلّا أنّ هذه الزعامات الطائفية لم تكن قادرة على أسر الدولة اللبنانية، إلا من خلال التمسك بشكل محدد لتوزيع السلطة على أسس طائفية. يتم توزيع السلطة بين الطوائف على أساس توزيع المناصب الحكومية الرئيسية الثلاثة، وهي رئيس الجمهورية الماروني، ورئيس مجلس النواب الشيعي، ورئيس الوزراء السني. فيما ينقسم مجلس النواب، وفق المادة 95 من الدستور اللبناني، بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين، الذين "يجب عليهم بدورهم اتخاذ الإجراءات المناسبة للقضاء على الطائفية السياسية".
الاتفاقات السياسية الدستورية
في حين أن الانتقال إلى الديمقراطية كان محوراً رئيسياً في التاريخ السياسي اللبناني، فقد تم التأكيد على أن لبنان في حالة ركود. لم تتطور الاتفاقات السياسية الدستورية منذ اتفاق الطائف الذي شكّل نظام ما بعد الحرب الأهلية، والذي علّق عليه ستيفن أ. كوك [1]، بدقة، في مقال في مجلة فورين بوليسي قائلاً: "ما يحدث في لبنان هو دوّامة الموت، لقد نجحت جهود لبنان في خلق الاستقرار من خلال بعض مظاهر التوزيع المنظّم والمتفق عليه للسلطة الطائفية، كما أنّها ولّدت كميات ملحوظة من الفساد". لا يمكن لأحد أن ينكر، حتى الأعضاء المؤثرون في الأحزاب الحالية، أنّ صيغة تقاسم السلطة هذه قد أنتجت مستويات لا يمكن تصورها من الفساد والمحسوبية والزبائنية، وإخضاع مؤسسات الدولة وتفكيكها.
ومع ذلك، فإن هذا النهج القائم على الحقوق الذي تبناه المتظاهرون والعديد من الكتّاب والعلماء يستحق التوقف والتفكير. إنّ تقديم الديمقراطية الليبرالية/الحكم غير الطائفي باعتباره الشكل الوحيد للحكم حالياً، يضع عملية التحول الديمقراطي في تسلسل خطي يتأرجح بين الاستبداد والديمقراطية، والمراحل الواقعة بينهما، ويفشل في إدراك تعقيد التغيير نفسه. فحصر المشهد السياسي اللبناني بديمقراطية النخبة يقلّل من أهمية العقد الاجتماعي التوافقي في لبنان، ويهمل الطابع الزمني للطوائف وتقاليدها الجماعية. هذه التقاليد المجتمعية التي تضع الفرد في سياقاته التاريخية والاجتماعية، وتنظر إليه على أنه كائن اجتماعي اكتسب فرديته وهويته السياسية ولغته وتوجهاته الأخلاقية في رحم مجتمعه، أكان طائفياً أم ليبرالياً. لذلك يجب اعتبار هذه التقاليد المجتمعية المرتبطة ارتباطاً مباشراً بمتن الواقع، التي توجه وتبرر وتتغلغل في الحواس من خلال الأداء المتكرر للأفعال والأفكار والمشاعر، وبالتالي تؤثر تأثيراً أساسياً على تكوين الفرد/المواطن، وعلى تشكيل البنية السياسية اللبنانية، مدخلاً للوعي السياسي للبنان بمختلف طوائفه وعشائره ومواطنيه.
الفرد أم المجتمع؟
أمام هذه القراءات تقف ثورة ١٧ تشرين- ديمقراطية نخبوية مصحوبة، بشكل غير دقيق، بأسبقية المجتمع على الفرد (الطائفية مع الحفاظ على الطابع الزمني للطائفة)، أو الديمقراطية الليبرالية المصحوبة بأسبقية الفرد على المجتمع (الفردية مع نفي سياسة الفرد وهويته الدينية). فهل التقليد الليبرالي الأخلاقي المرتكز على حقوق الفرد وأسبقيته على المجتمع، أي المجتمع المدني بصيغته الغربية، هي ما نريد؟ أم التقليد الجمعي الذي يضع الفرد في فضاء مجتمعه؟ هل الديمقراطية النخبوية التي قامت الثورة مناهضة لها هي مصيرنا؟ أم التشاركية التي يتهمها أعداؤها بأنها مثالية وليست واقعية؟ لكن اللبس في تحديد الخيارات والمفاهيم ينبع من عدم الرغبة في اتخاذ موقف نقدي تجاه المجتمع المدني الليبرالي من جهة، وخوفاً من مواجهة الفراغ أو مواجهة خطر "البديل" من جهة أخرى.
ومع ذلك، فإن الدفاع عن المجتمع المدني في نموذجه الليبرالي لا يلزم الفرد بالفردانية الذرية، والإصرار على التمسك بالتقاليد الجماعية لا يلغي بالضرورة الفرد أو يجرده من وضعه الفعلي؛ لذلك لا فرد دون طائفية /جماعية ولا طائفية بدون فرد. لكن هل يمكن ترجمة هذه المفاهيم والقراءات إلى مشروع سياسي في الحالة اللبنانية؟ للإجابة عن هذا السؤال يجب أن أشير إلى مفهومي "اللاحتمية السياسية"[2]، و"الثورة"[3] باعتبارهما جوهراً للعمل الديمقراطي.
قد يكون من الغريب الحديث عن الديمقراطية بعيداً عن جانبها الأكثر بروزاً "حكم الشعب"، والآليات النموذجية الديمقراطية كالانتخابات، لكن لا مناص. فلم تكن الديمقراطية قادرة على "قطع رأس الملك" والقضاء على سلطته الانتقالية على المكان والزمان، إلا من خلال كسر المسار الخطي للسلطة وتقديم نموذج لا يقتصر على شخص أو جماعة معينة -وفي الحالة اللبنانية- طائفة. وهذا يعني أن قوة الديمقراطية التي تتميز باللاحتمية السياسية تكمن في "مقعدها الخالي"، وهذا الفراغ في مقعد السلطة بمعنى عدم امتلاكه يمنع أي كيان، سواء كان شخصاً أو جماعة أو طائفة، من ضمان مصالحهم السياسية إلى الأبد. وبالتالي فإن عملية التحول الديمقراطي هي عملية إضفاء الطابع المؤسساتي على اللاحتمية السياسية، من خلال إخضاع مصالح كل مجموعة إلى حالة من عدم اليقين، وتقديم الاتفاقات المؤسساتية كحجر زاوية في الانتقال السلمي إلى الديمقراطية.
من الضروري عند المشاركة في الثورات محاولة بناء رأي سياسي في اللحظات التاريخية، ولكن من المهم أيضاً التفكير في الفرصة والانفتاح السياسي المحدود والآليات المؤسساتية التي يمكنها إعادة هيكلة الفضاء السياسي العام.
بعبارة أخرى، يجب أن تكون الجماعية السلبية المتجسدة في المطالبة بتفكيك النظام السياسي القديم (كلن يعني كلن- الشعب يريد إسقاط النظام) مساوية للمجموعة الإيجابية لتأسيس نظام جديد (ماذا نريد؟ وما المشروع البديل؟). من أجل أن تكون قادرة على تأسيس مشروع إيجابي جديد، يجب على الثورة أن تتراجع بوعي عن التحدي النهائي والشامل للنظام والنخبة السياسية، وأن تتجنب عن قصد تهديد مصالح أولئك الذين يمكنهم عكس هذه العملية، يجب أن يُنظر إلى الحركات والثورات والانتفاضات على أنها آلية لتوسيع الحقوق، وانفتاح سياسي لإعادة توجيه الدولة والحفاظ على الثقافة الديمقراطية حيّة. المتظاهرون/الثوار من وجهة النظر هذه هم مجتمع مستقل ذاتي التنظيم، لا يهدف فقط إلى ثورة شاملة تدمر النظام القديم، بل يهدف أيضاً إلى إصلاح هيكلي يتحقق نتيجة الضغط المنظم من الأسفل.
هل التغيير السياسي متاح؟
بعيداً عن النظريات السياسية، هل يمكن أن من يقطع الطريق كرمى لعيون الزعيم والطائفة في الصباح، أن يقطعها عليهما في المساء مؤمناً بشرعية حقوقه الأخلاقية ومواطنيته؟ هل من المعقول أن ننتقل مباشرة من التقسيمة النخبوية التوافقية إلى دولة المجتمع المدني، قافزين فوق تاريخنا التوافقي-التشاركي الطويل؟ وإذا اتفقنا على إنتاج توليفة معينة من هذه القراءات، فما هو الحل السياسي العملي الذي يمكنه أن يقلص الفجوة بين المواطن و"ممثله"، الذي احتكر القرار وصناعته وآليته؟ هل يمكن أن تتفاعل الطوائف بعضها مع بعض على أسس ومبادئ المشاركة والمساواة، محافظة على هويتها التاريخية ومؤمنة بالفرد وحقوقه؟ ما هي الاتفاقيات المؤسساتية التي يمكن تقديمها للخروج من هذه الحلقة المفرغة؟ وهل التغيير السياسي متاح فقط على مستوى الترتيبات المؤسسية النموذجية مثل الانتخابات والبرلمانات والأحزاب السياسية؟ هذا ما سنطرحه بالتفصيل في الحلقة القادمة من هذه السلسلة.
المصادر:
[1] Lebanon as We Know It Is Dying
[2] الثورة واللاحتمية السياسية
[3] ثورة ديمقراطية؟ الثورة واللاحتمية السياسية – 2
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.