"حتى حين كنا نقصف حصونه ونضرب قواته قام الباشا بحماية حقائب البريد والمسافرين عبر الصحراء، كما لو أن شيئاً لم يحدث.. إننا لمسرورين لأن محمد علي ما زال يدخن غليونه ويجبي الضرائب ويستهزئ بمستشاريه في الإسكندرية".
تبدو الكلمات السابقة مغايرة تماماً للنبرة القومية التي تبناها المؤرخون المصريون لفترة حُكم محمد علي، لاسيما أنها جاءت في مقال لجريدة "Illustrated London News" الشعبية بتاريخ 31 أغسطس عام 1844. ويبدو أن الإنجليز لم يروا تهديداً لمصالحهم ببقاء الباشا على سدة الحكم. ما يقوض الحكم بأنهم كانوا السبب الرئيسي في انهيار إقامة دولة مصرية مترامية الأطراف، لكنه رغم ذلك لا ينفيها تماماً داخل الإطار البحثي.
هناك مسلمات ثابتة وراسخة في التاريخ المصري، ظل التعامل معها طويلاً على أنها حقائق وجودية لا تقبل الشك أو إعادة التأويل. فكانت كما أشار المترجم شريف يونس في توطئته لكتاب "كل رجال الباشا" لمؤلفه خالد فهمي، فن حربي يدرس الطبيعة والموقع الجغرافي لتشييد حصون منيعة أمام الاختراق، لكنْ هناك فن حربي آخر، يدرس ويوسع الثغرات لفتح فجوة يمكن اختراقها، وبالتأكيد ينتمي كتاب د. خالد فهمي للفن الأخير.
تكمن أهمية كتاب كل رجال الباشا في كونه دراسة جديدة من نوعها، اختصت بالبحث في الجيش، قلب المؤسسة التي بني حولها دولة محمد علي، ليس من إطار عسكري يبحث في انتصارات وهزائم القوات، بل تاريخ اجتماعي للأفراد، يسبر أغوار تلك الفترة من أسفل لأعلى، عبر تتبع فلاح تحول إلى جندي، في رحلة تضمنت تجنيده، تدريبه، حياته في الثكنات، الرعاية الصحية، ونمط تغذيته حتى محاولات هروبه.
ولا يخفى على أحد المشقة المضنية لإيجاد توثيق لحياة الجندي حينها، نظراً لأن غالبية الشعب كانوا من الأميين، لذا لم يتبق منهم ما يصف شعورهم وما كابدوه خلال تلك التجربة، ويحاول الكتاب لكن لا يدعي أنه استطاع تقديم تلك القصة التي تكشف الوجه الخفي خلف قناع مجد محمد علي وجيشه، الوجه ذو ملامح المهانة والعبودية والاستغلال الذي وقع على هؤلاء الفلاحين.
خاض محمد علي خلال حكمه الممتد من 1805-1848 حروباً جمة، بدأت من الحملات العسكرية في السودان، ومحاربة التمرد الوهابي في أرض الحجاز وتمرد آخر باليونان، تحت راية الدولة العثمانية، وصولاً للحملات العسكرية في سوريا وما تلاها ضد الجيش النظامي للدولة العثمانية نفسها.
تلك الحروب احتاجت جيشاً قوياً؛ كانت مهمة تأسيسه الشاغل الأكبر لمحمد علي. في البداية انصب تركيزه على تجنيد السودانيين، لكن لأن الذين جمعوا كانوا في حالة صحية سيئة، ماتوا "كما تموت الخراف المصابة بوباء العفن"، فتحول بصره للمصريين.
"ضباط التجنيد يهبطون على أية قرية تُحدد لهم بمجرد أن يتلقوا الأوامر، ويلقون القبض على أكبر عدد يمكن الحصول عليه من الرجال بلا نظام ولا ترتيبات ولا تسجيل ولا اقتراع؛ وحينئذ يربط هؤلاء الرجال بحبال حول أعناقهم في مجموعات من ستة أو ثمانية أفراد، ثم يساقون إلى معسكر التدريب في حراسة "فصيلة التجنيد"، تاركين خلفهم جماعة حزينة محطمة القلب من الزوجات والأمهات والأطفال يولولون ويصرخون محاولين بلا أمل أن يمنعوا الجنود من الرحيل برجالهم".
كابد المصريون أهوالاً تحت حكم محمد علي، انتُزِع الأهالي من قراهم لخدمة آلة الدولة، وفيما يرى المؤرخون المتيمون بانتصارات الجيش وقلة أعداد الوفيات في صفوف الجنود خلال المعارك مدعاة للفخر المتجدد، قدم الكتاب صورة لشعب بائس، وجندي تزداد بشاعة الأيام خلال وجوده في المعسكرات؛ يجهل متى يعود إلى قريته، وإن عاد قد يجد القرية خاوية هاجر أهلها دون وجود أثر لكارثة تسببت في رحيلهم.
يرى الرافعي أن التجنيد الإجباري واقتياد الفلاحين من قراهم بالقوة كان لزاماً لبلوغ السيادة الوطنية وتحقيق الاستقلال. ويفسر العصيان ومحاولات الهروب المتكررة؛ بكسل هؤلاء وعدم اعتيادهم الجهاد. في حين، يبحث خالد فهمي في الظروف القاسية التي دفعت هؤلاء للحنين إلى أسرهم، القلق على حالهم بعد فراقهم، والخوف على بوار الأرض التي كانت مسؤوليته.
لكن حتى لو ذهبنا نحو تفسر الرافعي الموالي لقرارات محمد علي، هل حقاً كانت الحروب التي خاضها الجيش المصري حروباً تهدف في الأساس للاستقلال عن الدولة العثمانية؟ هل رغب محمد علي في تأسيس جيش وطني يدافع عن الأرض؟
اتفق أغلب المؤرخون على النزعة الوطنية التي تنظر لمصر كفاعل تاريخي، توحد الشعب خلف راية الحاكم، مصر التي تبدو في التأريخ القومي واحدة المعالم ومتجانسة الصفات، إلا أن "كل رجالة الباشا" معركة تقوض الخطاب الذي ألفناه في الكتب المدرسية والأغاني وكتب التاريخ الوطنية.
وتسلط الضوء على نظرة محمد علي الحقيقة تجاه مصر والمصريين، النظرة التي تبناها المؤرخون سواء الغرب أو العرب عند تأريخ حكمه، سرد مستمد منه ذاته، إذ يحلل الكتاب مراسلات الباشا مع سفراء الدول الغربية، التي كتب فيها دائماً عن دوره الإصلاحي في مصر.
"أنا الآن أهم رجل في الدولة العثمانية كلها. فقد أعدت المدينتين المقدستين –مكة والمدينة– إلى المؤمنين الحقيقيين؛ وأرسلت جيوشي المنتصرة إلى مناطق لم تعرف من قبل سلطة السيد الأعظم – السلطان العثماني – وإلى مناطق لم تكن قد سمعت بعد عن البارود، وسوف يفتح ابني وذراعي الأيمن –إبراهيم- المورة".
- محمد علي باشا
هل حاول محمد علي بعث الروح الوطنية في الجنود أملاً في تحرير مصر؟ الإجابة السهلة ترى في عصره فترة مجيدة، فكت قيود الاستبداد عن كاهل الوطن، لكن بالنسبة لخالد فهمي، المحاجة ضد تلك الإجابة إحدى سبل نقد الخطاب الحداثي وفهم آليات السلطة في تلك المرحلة، عبر مراجعة وثائق الدولة العثمانية ومراسلات الباشا، الوثائق التي حررها "سادة هذا الجندي ومستعبدوه"، على حد تعبير شريف يونس.
قُدم الفلاحون قرابين لإله الدولة الحديثة، النهضة الوطنية التي تحققت رغم أنف الكسالى، بتعديل سلوكهم وتوجيهم نحو غاية معينة، خلف الزعيم الوطني الأوحد.
"كانت الخدمة في جيش محمد علي إذن تجربة مروعة، لقد كان جيش الباشا يجر الجنود إليه جراً ضد رغبتهم وباستخدام حد متدنٍّ من الإقناع، كان جيش يجندون فيه عملياً مدى الحياة، ويجبرون فيه على القتال في حروب تكاد تكون بلا معنى بالنسبة لهم. كان جيشاً يهانون فيه بلا انقطاع ويعيشون في معسكراته في شروط حياة مقززة".
- المؤرخ خالد فهمي
يعيد خالد فهمي قراءة تاريخ القرن الثامن عشر، ضمن السياق العثماني العام، حيث توصل إلى نتيجة مفادها بأن قراءة محمد علي لن تفهم إلا على أساس تمرد على سياسات الدولة، ضمن إطار يهدف إلى إصلاح الدولة العثمانية كلها، ويحمل دوافع وأهدافاً شخصية ولا تتعلق بالسيادة الوطنية والاستقلال، بل بالحصول على حكم يسمح له ولأولاده بالتربع على عرش مصر، وهو ما نجح في تحقيقه عام 1841.
يقول فهمي: "المصادر التاريخية جرى التلاعب بها منذ فترة حكم محمد علي نفسه ولأسباب مختلفة وبطرق متباينة حتى يتم إظهار محمد علي كالمصلح المستنير الذي أتى بمشروع طموح لتأسيس مصر الحديثة وحتى يتم تجاهل الثمن الفادح الذي دفعه المصريون في سبيل تحقيق الباشا لأهدافه ومطامعه".
يكمن السر في إعادة تشكيل سردية التاريخ بإمكانية التعلم منه، واستيعاب الحاضر بشكل أفضل، عبر السؤال عن ما حصل؟ وكيف حصل؟ ولماذا حدث هذا؟ وكيف لهذه النتيجة أن تحدث؟ أعاد خالد فهمي تلك الأسئلة، ووفر إطاراً تفسيرياً بعد إعادة سرد الأحداث من شتات المصادر التاريخية، وجاءت الإجابة بتأويل الأفعال والمعاني والمقاصد بالنسبة لعامة الشعب، لا بلسانهم؛ لتصل لنتيجة أن هؤلاء كانوا بالفعل رجال الباشا، لا رجال الدولة، وأنه لم يكن يوماً رجلهم المنشود.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.