آلات تزداد ذكاءً وبشر يزدادون غباءً.. كيف نتحوّل إلى قنابل موقوتة؟

عربي بوست
تم النشر: 2020/08/13 الساعة 08:08 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/08/13 الساعة 10:36 بتوقيت غرينتش
iStock

مع مطلع القرن التاسع عشر، تفجرت الشرارة الأولى للثورة الصناعية باكتشاف الآلة البخارية ما مثل انقلاباً في صناعة النسيج والصلب، بعد أن سرّعت هذه الآلة الجهنمية من وتيرة الإنتاج، ومن ثم ازدهرت هذه الصناعات بشكل مدهش، ألقى بظلال الثروة على بريطانيا التي اخترعت هذه الآلة، خلال ستينيات القرن الثامن عشر، لتنتشر فيما بعد في أرجاء أوروبا ثم أمريكا الشمالية، وتغير وجه الصناعة في العالم وانتقلت أوروبا وأمريكا إلى صدارة الدنيا بهذا الاختراع المذهل. 

ومع التوسع في استخدام الميكنة تعاظمت الصناعة وتحولت كثير من المجتمعات من حياة الزراعة المعتمدة على الإنسان في المقام الأول والأدوات البدائية المساعدة التي تحتاج قوة بدنية كبيرة للوصول لمرحلة الإنتاج إلى عصر التصنيع والقوة المعتمدة على الماكينات. وهو ما عدّه المؤرخون إيذاناً بعصر جديد في حياة البشرية، وعمل الإنسان على تطوير تلك المعجزة البخارية لتعظيم فوائدها، ويضع "جيمس وات" بصمته على الآلة وكذا على تاريخ البشرية جمعاء ويرفع كفاءة هذه الآلة. حتى أصبحت تلك الحقبة وبحق تسمى الثورة الصناعية الأولى، وكان الهدف بالأساس السعي لزيادة الإنتاج، وتسريع الأرباح من خلال تسريع الإنتاج. ولا أظن أن الرأسمالية كانت تسعى في ذلك الوقت لتوفير راحة البشر ورفاهية العامل.

قد تكون الجملة الأخيرة في المقطع السابق حاكمة ومستبقة، لكنها نتاج نظر، وللحكم على ما قدمته الآلة البخارية علينا أن نتساءل عن تأثيرها في حياة البشر؟ والسؤال هنا يشمل كل تكنولوجيا جديدة ينتجها الإنسان، دوماً نسأل ماذا قدمت وماذا أخذت، فلا شك أن اختراع الآلة البخارية كان تتويجاً منطقياً لتطور العلم وعلامة من علامات النهضة الأوربية في حينها، ويعد ثمرة من ثمرات هذا التطور العلمي للإنسان الذي بذل الكثير للوصول لهذا التطور لسد الحاجة المتزايدة إلى أدوات إنتاجية تمكن من الاستجابة للحاجة المتزايدة للسوق العالمية، التي لم تعد الأيدي العاملة قادرة على تلبية رغباته، وهو ما زاد نهم الرأسماليين أكثر لمزيد من الثروة، وزاد كذلك من أعباء العامل البسيط لتحقيق رغبات الرأسمالي.

إضراب 1886

في الأول من مايو عام 1886 نظم العمال في مدينتي شيكاغو وتورنتو إضراباً عن العمل شارك فيه ما بين 350 و400 ألف عامل، هدفهم منه تحديد ساعات العمل بثماني ساعات، الأمر الذي لم يرُق لأصحاب المصانع والأعمال، كما لم يرُق للسلطات، وقد يكون رفض أصحاب العمال مبرَّراً. لكن العجيب رفض السلطات، وباختصار.. السلطات هي القوة الخشنة لحماية أصحاب العمل، لذا تجد السلطة دوماً في جانب أصحاب العمل، وللسلطة وأصحاب الأعمال ترتيباتهم لحماية مصالحهم المشتركة. لذا فمن ألقى القنبلة وسط التجمع العمالي، والذي أودى بحياة 11 عاملاً و7 من رجال الشرطة في شيكاغو لا يزال مجهولاً حتى يوم الناس هذا.

لكن الإضراب، في السياق، كان مؤشراً على الظلم الواقع على العمال من نهم الرأسمالية للثروة.

هذا ما أحدثته الثورة الصناعية الأولى، لكن الثورات المتتالية أصبحت أكثر شراسة مع مفهوم التخصص، الذي بدأت تبشر به وتخرّج عرابيها في الإعلام للحديث عنه، حتى أصبح العامل ترساً في آلة الإنتاج يتم برمجته عند استلامه العمل، يقضي حياته لا يحسن إلا ما تم برمجته عليه خلال سنواته الثلاثين في ذلك العمل حتى التقاعد، فتجد العامل يضع القطعة (أ) ليقوم زميله بوضع القطعة (ب) وهلم جرّا حتى ينتهي تصنيع المنتج، لا تعرف يمينه ما قدمت شماله، وتبقى الرؤية الشاملة لدى واحد فقط هو العقل المدبر والرأس المفكر، فقتل بذلك الإبداع في حياة البشر، وعلى نفس النهج توسعت الأنظمة في سياساتها التعليمية لإخراج أدوات صناعة لا طلاب واعين يدركون الكليات.

وبرغم ذلك فإن الرأسمالية لم تنس للعامل انخراطه في عام 1886 في الإضراب الكبير في شيكاغو، والذي ذاع صيته حتى أصبح حركة عمالية كبيرة لها حقوق تناضل من أجلها وتدفع لتسن القوانين لحمايتها وذهبت بتلك المطالب إلى الأمم المتحدة فاستصدرت مواثيق دولية تحمي تلك الحقوق، فكان رد الفعل أن موَّلت الرأسمالية الأبحاث للاستغناء عن العامل بالكلية، فالعمل الآن على إيجاد آلات مبرمجة على أن تحاكي القدرات الذهنية البشرية وأنماط عملها، حتى وصل الحال إلى محاولة اختراع آلات لديها القدرة على التعلم والاستنتاج ورد الفعل، ولعل بعض الصناعات الحربية، وهي في الغالب متقدمة خطوة عن الصناعات المدنية، أظهرت بعض الروبوتات تستطيع القتال وتفرق بين العدو والصديق، وهو ما يعني أن التقنية قاربت على إنتاجها مدنياً.  

لكن ماذا بعد أن يصبح البشر أدوات، سيزيد الإنتاج وستقل التكلفة وسيبرأ الرأسماليون من صداع المطالبات العمالية، لكن ماذا عن الإنسان، ستزداد أرباح ملايين الأغنياء، لكن ماذا عن مليارات البشر، ماذا سيكسبون.. سيكونون قنابل موقوتة في وجه هؤلاء الجشعين الذين جمعوا المال من خلال الغباء الاصطناعي.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
ياسر عبدالعزيز
كاتب وباحث سياسي
ياسر عبد العزيز هو كاتب وباحث سياسي، حاصل على ليسانس الحقوق وماجستير في القانون العام. كما حاز على دبلوم الإدارة والتخطيط الاستراتيجي، وهو الآن عضو مجلس إدارة رابطة الإعلاميين المصريين بالخارج في اسطنبول ومدير مركز دعم اتخاذ القرار بحزب الوسط المصري.
تحميل المزيد