في الحديث عن الأنظمة الديكتاتورية، التي عرفتها البشرية في العصر الحديث، يمكننا ملاحظة الفارق الكبير بين نموذج الديكتاتور في أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية، والديكتاتور/الطاغية كما تمثل في حكام بعض البلدان العربية، وكانوا وبالاً عليها وعلى مجتمعاتها.
فبغضّ النظر عن صحّة التعميم، أو النمذجة، فإن عقد أبسط مقارنة بين فرانسيسكو فرانكو في إسبانيا وأحمد سوهارتو في إندونيسيا وأوغستو بينوشيه في التشيلي وفرديناند ماركوس في الفلبين، ومن دون أن نضفي عليهم أي قيمة إيجابية، والنماذج التي عرفها العالم العربي، خاصة الأسد (الأب والابن) والقذافي وصدام حسين وعلي عبدالله صالح والبشير، تبين أن ثمة فارقاً كبيراً، ونوعياً، بين النموذجين.
ففي آسيا حيث حكم الجنرال سوهارتو إندونيسيا 31 عاماً (1967– 1998)، وفي الفليبين حكم ماركوس 21 عاماً (1965- 1986)، وفي أمريكا اللاتينية حكم الجنرال بينوشيه التشيلي 16 عاماً (1974- 1990)، وفي أوروبا حيث حكم الجنرال فرانكو إسبانيا 39 عاماً (1936- 1975)، وقد انتهى حكم الأول (سوهارتو) بعد انتفاضة شعبية سلم بها وخرج من الحكم، وانتهى الثاني (ماركوس) إلى المنفى بعد حراكات شعبية أيضاً، في حين تنحّى الثالث (بينوشيه) إثر سقوطه في استفتاء ووفق حكم المحكمة والدستور، وهو أمر لافت، أما الرابع (فرانكو) فسقط نظامه بعد رحيله عن هذه الدنيا.
ما يلفت الانتباه أن جميع تلك النماذج لم تعاند أو تقاوم انتهاء نظامها، كما لم تشتغل وفقاً لمقولة: "الأسد إلى الأبد أو نحرق البلد"، مثلاً، التي وجدت ترجماتها في ليبيا والعراق واليمن، أيضاً. وتالياً، فهذه النماذج لم تمانع قيام تحولات دستورية وديمقراطية في البلدان التي تحكمت بها، والمذكورون، مع كل الجرائم المشينة التي ارتكبوها بحق شعوبهم، ومع تسلطهم، وجبروتهم، ظلوا يعتبرون البلد بمثابة ملكية عامة، ولم يذهبوا إلى حد تقويض الدولة، أو اختصار المجتمع في ذاتهم، أو اعتبار تاريخهم الشخصي تاريخ بلدهم.
هكذا، وبالمقارنة بمآلات ديكتاتورياتنا، لا يمكننا تفسير هذا التمايز بالإحالة فقط إلى طابع الاستبداد الآسيوي، على ما يرى البعض، فهذا سهل، لكنه لا يقدم إجابة مقنعة أو وافية، لهذه الظاهرة، كما لا يمكن تفسيرها حصراً بالواقع الاجتماعي أو الاقتصادي أو الثقافي، لأن مستوى التطور متشابه بين البلدان التي حكمتها تلك النماذج والبلدان العربية، وهذا ينطبق على التفسير بالاعتماد في السيطرة على الجيش وأجهزة المخابرات.
والحال، فالديكتاتورية في تلك البلدان كانت مجرد شكل من أشكال النظم السياسية التي عرفتها المجتمعات البشرية، إذ يجمع الديكتاتور بين شهوته للحكم وسعيه للمجد الشخصي، مع طموحه لبناء دولة ومجتمع قويين، بغض النظر عن الوسيلة أو أي شيء آخر.
مقابل ما تقدم فالديكتاتورية في بلداننا لم تأتِ على هذا النحو بالضبط، لأنها كانت تتأسس على النزوات الذاتية، من دون صلة بفهمها كحالة نظام سياسي، ولأنها كانت تختزل في مجرد التسلط، واحتكار السياسة، والحرمان من الحقوق، وتقوم على الكبح والتدجين والتهميش للمجالين الدولتي والمجتمعي وحتى السعي لتقويضهما. وهذه فوارق على غاية الأهمية، ما يفسّر سلاسة تحوّل الدول المذكورة إلى الديمقراطية، وتعثرها عندنا.
يستنتج من ذلك أن ثمة فوارق كثيرة ونوعية بين شخصية الديكتاتور عندنا، وشخصيته في بقية العالم، حتى من الناحية السيكولوجية، مع ميل كثيرين لتفسير هذه الشخصية وفقاً لمدارس التحليل النفسي. مثلاً الديكتاتور لدينا، وهو في أي مكان في العالم وصف للحاكم الفرد المستبد، ينحو نحو اختصار كل شيء في ذاته، فهو التاريخ والبطل، والدولة والشعب، والشرعية والقانون، والحاكم والحكم، والوطن والوطنية.
وعند ديكتاتور كهذا، فالبلد الذي يحكمه هو بمثابة مزرعة خاصة، ما يفسر عقلية التوريث، والشعار الذي مفاده أن "سوريا الأسد إلى الأبد"، والذي سارت عليه الأنظمة الديكتاتورية الأخرى، والتي بدت وكأنها نكصت عن فكرة النظام الجمهوري، بحيث بتنا إزاء جمهوريات ملكية ووراثية. وبديهي أنه في هذه "المزارع" لا يوجد شعب، وإنما جمهور يصفق ويهتف للرئيس، أي مجرد جمهور لا حقوق له، ولا معنى، بل ثمة دَين عليه لسيادة الرئيس يستوجب طقوس الولاء والطاعة والوفاء.
لنلاحظ أيضاً أن نموذج الديكتاتور عندنا لا يحكم مباشرة، بل يترفّع عن ذلك، ويتركه لمن هم دونه، علماً أن الحكم هنا ليست له صلة بالحكمة، إذ هو مجرد إدارة للوضع، وتسيير لعلاقات الإخضاع والتطويع والهيمنة، يتولاه أتباع آخرون برتبة رئيس حكومة ووزراء وقادة أجهزة أمنية وفرق عسكرية، فالرئيس الديكتاتور بمثابة سلطة عليا، بالكاد تكون مرئية، فهو بمثابة الروح أو الطاقة التي تمنح الآخرين الفاعلية والتحكم والوجود والاستمرار. والفكرة هنا أن الديكتاتورية العربية جعلت من الدولة مجرد سلطة، وأداة تحكم، ما قوض وظائفها الأساسية، وأفقدها معناها، فهي باتت مجرد جهاز إداري، وجهاز إخضاع وسيطرة وتنميط، فضلاً عن كونها جهاز إفساد عام سياسي واقتصادي وثقافي وسيكولوجي.
الميزة الأهم التي تميّز الديكتاتور العربي عن غيره هي اعتقاده أنه هبة التاريخ، أو بمثابة مبعوث رسولي، أي أنه أكبر من شعبه ومن بلده، والأنكى أن هذه المهمة الرسالية لا تقتصر على بلده، وإنما تشمل محيطه، أو الدول المجاورة له، وربما تشمل العالم أيضاً. والقصد أن داء جنون العظمة مستفحل، بطريقة فجة أحياناً، وكاريكاتورية أحياناً أخرى، في ديكتاتوريينا الذين رأوا في أنفسهم رقماً لا يمكن تجاوزه، وأنهم قادرون على تغيير الخرائط، وتحدي القوى الكبرى في العالم، في حين أن شعوبهم تعيش في حال من الفقر والحرمان، وبلدانهم ذاهبة لحال مريعة من التدهور الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، مع ملاحظتنا أن هؤلاء في أوهامهم هذه تحكموا بالعالم العربي إبان العقود الخمسة الماضية.
باختصار، المصيبة أننا حتى في نموذج الديكتاتور، نختلف عن بقية العالم، إذا استثنينا بعض ديكتاتوريات فظيعة وغريبة، كحالة الإمبراطور جان بيديل بوكاسا في إفريقيا الوسطى (1966- 1979)، وفخامة الرئيس المشير الحاج الدكتور عيدي أمين في أوغندا (1971- 1979) "قاهر الإمبراطورية البريطانية"، لمن يتــذكره. وبالطبع فإن سلالة كيم إيل سونغ، "الزعيم المحبوب لأربعين مليوناً من الشعب الكوري"، و"الشمس التي لا تغيب"، والتي تحكم كوريا الشمالية منذ 1948، تدخل ضمن ذلك.
ومعنى ذلك أننا نمتلك النسخة الأكثر انحطاطاً من الديكتاتوريات، أي تلك التي تفتقد أي قيمة إيجابية للإنسانية، سيما أن الديكتاتور عندنا يورث البلد لأبنائه، كأنها ملكية خاصة، على نحو ما حصل في توريث كيم إيل سونغ البلد، أي الدولة والشعب، لابنه.
لاحظوا أن بشار الأسد يحكم منذ 20 عاماً، وما زال يريد أن يرشح نفسه، وذلك بعد أن ورث الحكم عن أبيه الذي حكم 30 عاماً، فيا للهول!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.