من المفترض أن يتزايد اهتمام الشعوب العربية بالقضية الفلسطينية لأسباب كثيرة، على رأسها زوال الهيمنة السلطوية على وسائل الإعلام نتيجة الانفتاح الاتصالي بين الشعوب في العالم. فقد مكّن الإنترنت كل فرد في كل بقعة في العالم العربي من توصيل صوته، والتفاعل مع الآخرين، وكسر حواجز الاتصال التي كانت تفرضها الحكومات. وزال الخوف من الحديث عن المقاومة والتصدي للاحتلال، وكذلك دعم الصمود الفلسطيني، والحشد الشعبي في وجه القوة المتجبرة التي تحتل فلسطين (رغم وجود الرقابة والحذف التي تمارسها بعض الحكومات وشركات مواقع التواصل الاجتماعي)، بل وفتح الإنترنت الآفاق أمام المواطنين والدول والمؤسسات والأحزاب والجمعيات لتوصيل الرسالة إلى العالم، وتشبيك العلاقات مع المنظمات الدولية والحكومات المؤيدة للشعب الفلسطيني. وبالتالي امتلك الجميع الأداة التي افتقدها لعقود طويلة للدفاع عن عدالة القضية الفلسطينية، وإقناع الرأي العام العالمي بحقيقة الصراع والظلم الواقع على الشعب الفلسطيني.
ومن الأسباب التي كان من المفترض أن ترفع مستوى اهتمام الشعوب بالقضية الفلسطينية تزايد العنجهية الإسرائيلية، وتغوّل سلطة الاحتلال في قمع الشعب الفلسطيني بشتى الأشكال، من هدم للمنازل، والاعتقالات اليومية، ومصادرة الأراضي، وبناء المستوطنات، فضلاً عن استخدام كل أنواع العنف والأسلحة في مواجهة المقاومة، هذه السياسات والممارسات الإسرائيلية كان من المفترض أن ترفع حدّة الانفعال لدى المواطن العربي، وتعزز تلاحمه مع الشعب الفلسطيني، وتزيد من أساليب الدعم المختلفة للقضية الفلسطينية.
وبالتأكيد، هناك أسباب وعوامل أخرى يفترض أن تعزز التلاحم العربي مع الشعب الفلسطيني في ظروف بالغة التعقيد، وفي ظل إجراءات غير مسبوقة تقوم بها سلطات الاحتلال لتكريس السيطرة على الأرض والإنسان، والإمعان في إذلال الشعب الفلسطيني وتشريده وخنقه، بهدف دفعه لترك أرضه والتخلي عن قضيته. ولا يفوتنا هنا الإشارة إلى الانتهاكات اليومية للمسجد الأقصى المبارك، والحرم الإبراهيمي الشريف، والذي يشهد اقتحامات شبه يومية من قبل المستوطنين، بحماية ودعم من سلطات الاحتلال، وهو الأمر الذي يُفترض أن يشكّل استفزازا لمشاعر العرب والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
غياب الصوت العربي
رغم كل ما ذكرناه، فإن ما يحدث هو أمرٌ مريع، حيث لا يغيب فقط الصوت العربي، والصورة الناصعة من التضامن العربي مع القضية الفلسطينية، بل نجد هرولةً من بعض الحكومات العربية للتطبيع مع الاحتلال، وهو أمرٌ يثير الاستغراب لدى المراقب، ومن شأنه أن يزرع بذور الخوف لدى المواطن العربي من ضياع القضية الفلسطينية. فما الذي حدث للأمة العربية؟ وكيف تمكن الاحتلال من تحويل النقمة تجاه سياساته إلى ما يُشبه المكافأة على خطواته العدوانية؟ كيف يمكن للأخ أن يدير ظهره لأخيه الذي يرزح تحت نير العذاب والظلم والاضطهاد؟
وحيث إن العوامل التي أدّت إلى هذه النتيجة كثيرة ومتشعّبة، فسوف نتطرق إلى بعضها في سطور قليلة، على أن يتم البحث فيها وتحليلها من قبل المثقفين والكُتّاب والصحفيين العرب.
فأول هذه العوامل: الدعم الأمريكي اللامتناهي للاحتلال الإسرائيلي، وبخاصة وجود ترامب على رأس السياسة الأمريكية، فالسياسة الأمريكية الحالية تجاوزت ما قامت به الحكومات السابقة من السعي لعدم إغضاب العرب، والحفاظ على درجة من التوازن تجاه الاحتلال من جهة، وتجاه العرب الرافضين له من جهة أخرى، إلى العمل على ربط "الرضا الأمريكي" بمدى قوة علاقات الدول مع الاحتلال الإسرائيلي. فكلّما كانت الحكومات معادية للاحتلال تراجعت العلاقات الأمريكية مع تلك الحكومات. وبالطبع فإن ذلك يؤثر على المصالح المشتركة والدعم الذي تحصل عليه تلك الحكومات.
وفي هذا السياق، ندرك مغزى التصريحات الأمريكية المتكررة من أن الدعم الأمريكي هو السبب في بقاء واستمرار هذه الحكومات، وأن الحماية الأمريكية لها يجب ألّا تكون بلا ثمن.
أما العامل الثاني فهو إيران، فمن المعلوم أن توتر العلاقات بين أمريكا وإيران وصل إلى أقصى الحدود خلال السنوات القليلة الماضية، كما أن العداء بين إيران والاحتلال استفحل ووصل أوجه (بصرف النظر عن حقيقة هذا العداء الذي يرى عدد من المحللين أنه لا يعدو أن يكون شكلياً). وفي الوقت نفسه، فإن العلاقات العربية الإيرانية متردية للغاية، وكانت هذه فرصة الولايات المتحدة والاحتلال الإسرائيلي في الضغط السياسي والإعلامي على الدول العربية، لضرورة إيجاد تحالف إقليمي ودولي لمواجهة إيران. وتم توظيف هذه المسألة للوصول إلى النتيجة التي تهدف إليها أمريكا (وكذلك الاحتلال الإسرائيلي)، بأن التناقض الأساسي في المنطقة هو بين الدول العربية وإيران، وأن الاحتلال الإسرائيلي لا يشكّل خطراً على العرب، كما أوحت أمريكا أكثر من مرة للعرب بأن الصراع في فلسطين محصور بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وأن عملية السلام، ورؤية ترامب بشكل خاص، كفيلة بحل هذا الصراع.
من هنا، برزت بعض التصريحات العربية بأن إسرائيل لا تشكّل خطراً على العرب، وأنها ليس لديها أية أطماع تجاههم، وبالتالي فلا مانع من تطبيع العلاقات معها، مع تجاهل تام لما تقوم به من انتهاكات وجرائم بحق الشعب الفلسطيني.
ورافق كل ذلك خروج بعض الأفراد (بعضهم فنانون، وبعضهم مثقفون وصحفيون، وكذلك عدد من السياسيين) في الدول العربية بأصوات جريئة صادمة، تتناقض تماماً مع مواقف الشعوب العربية من القضية الفلسطينية. وتُوّجت تلك المواقف والأصوات بزيارات لدولة الاحتلال، في تحدٍّ صارخ للمواقف العربية (العلنية) الرافضة للاحتلال، وكذلك عدد من التصريحات غير المسبوقة التي تغازل الاحتلال، وتغضّ الطرْف عن آلام الشعب الفلسطيني.
هذه الأصوات ما زالت نشازاً، وما زالت تفتقر إلى أي رصيد في الشارع العربي، إلا أنها تؤثر سلباً على معنويات العرب والفلسطينيين الذين لديهم قناعة بعدالة القضية الفلسطينية، وأحقية الشعب الفلسطيني بوطنه وحقوقه المشروعة.
وهناك عوامل أخرى، مثل الربيع العربي، الذي برز فيه العداء للاحتلال مترافقاً مع العداء للأنظمة العربية التقليدية، وبخاصة بروز التيار الإسلامي في هذه الثورات، وهو ما أثار المخاوف من تحول المنطقة إلى أنظمة تشكل تهديداً لحالة الاستقرار للنظام العربي ولمسار الصراع مع الاحتلال. وكان لهذا الأمر تأثير على انتهاج عدد من الدول العربية لسياسة "الاعتدال" تجاه الصراع ضمن السياسات العامة للتجديد والانفتاح والخروج من دائرة الصراع. وبالتالي ظهرت اصطفافات جديدة في مواجهة "التطرف" والثورات التي اعتبرها البعض مؤامرات على العرب بالدرجة الأولى. وبالإضافة إلى ذلك، تتذرع بعض الدول العربية (ولو بالتلميح) بوجود علاقات سياسية رسمية بين السلطة الفلسطينية والاحتلال (والتي تم تجميدها من قبل السلطة الفلسطينية بسبب السياسات الإسرائيلية)، وحتى بين دول عربية وإسلامية وبين الاحتلال، مثل مصر وتركيا. وترى تلك الدول أن تلك العلاقات تبرر سياسات التطبيع الآخذة في التصاعد.
إن سياسات الحكومات العربية، وكذلك اتجاهات الإعلام العربي في معالجة القضية الفلسطينية، لها تأثير واضح على مواقف الشعوب، أو على الأقل على الحراك الشعبي العربي ضد سياسات الاحتلال، وهو ما جعل الصوت العربي خافتاً إن لم يكن غائباً.
ورغم كل ذلك، فيمكن القول إن قلوب الشعوب العربية ما زالت تنبض بحب فلسطين، حتى لو لم يتم التعبير عن ذلك في ظل الظروف المعقدة التي تمر بها المنطقة، وإن مكانة فلسطين لدى المواطن العربي لم تتغير، والدليل على ذلك هو فشل اتفاقيات السلام التي وُقّعت بين عدد من الأنظمة العربية ودولة الاحتلال في الوصول إلى مرحلة التطبيع، فما زالت الفجوات كبيرة بين العلاقات السياسية والتطبيع بين الشعوب، رغم مرور عشرات السنوات على تلك الاتفاقيات، وليس من المتوقع أن تتحول تلك الشعوب إلى حليف للاحتلال، وتخلٍّ عن الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، لأن الاحتلال هو الذي يروي بذور الصراع بسياساته وإجراءاته الغاشمة بحق فلسطين وشعبها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.