“الحرّاقة”.. لماذا لم تتوقف الهجرة غير الشرعية للشباب الجزائري عبر قوارب الموت؟

عربي بوست
تم النشر: 2020/08/04 الساعة 14:58 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/08/04 الساعة 14:58 بتوقيت غرينتش

ثمة جائحة عقلية وعسر خطير في الفهم يضرب بعضاً من رجال الحكم والنخبة في الجزائر، يكاد يكون رديفاً للقصة المستحيلة: "صيد الذبابة بالمطرقة".

يبدو الأمر سافراً في كيفية التعاطي "السطحي" مع ملف الهجرة السرية وعودة "التوابيت العائمة" التي أقلّت بين ليلة وضحاها أكثر من 400 شاب إلى سواحل إسبانيا عبر عشرات من فلائك السردين وقوارب التونة.

1- ثمن الجوار مع أوروبا والبعد عن صور الرفاهية

لا جديد فوق مياه البحر المتوسط، فالظاهرة التي تشهدها الجزائر وسواحل شمال إفريقيا ليست طارئة

أو استثنائية، إذ كان المتوسط دائماً وأبداً جسراً مائياً ممدوداً بين الضفتين لقرون وعقود، نظراً للتماس الجغرافي، تماس جعل شباناً يائسين حالمين بالهجرة يرددون نكتة ضاربة في سوق الطوباويين:

"لا تقلقوا من الجغرافيا، ستحقق الجيوفيزياء أحلام الهجرة، إذ إن الزلازل تؤدي إلى تقارب تكتوني بين طبقات الأرض بين شمال إفريقيا وجنوب أوروبا، بعدة سنتيمترات كل عام. لن نكون بحاجة للتأشيرات والقوارب، فخلال عقود ستأتي أوروبا إلينا".

في واقع الحال يمكن الجزم ودونما جدل، أن إرهاصات الهجرة كانت من آثار العولمة الرقمية التي بدأت بواكيرها مع أولى الصور التي التقطها سكان الضفة الجنوبية نهاية الثمانينات ومطلع التسعينيات عبر البث المفتوح بالهوائيات المقعرة "الدش"، صور مختلفة وصافية تعاكس على النقيض، عيش المعافرة التي يحيونها في مجتمعات تكافح من أجل البقاء على حافة التاريخ وهامش الحداثة الاقتصادية. 

 ستفرض تلك الصور الصدمة الحضارية، وستفرز الوعي المستفز بحقيقة الوضع بعد المقارنة بين جحيمهم الخاص وبين المدن النظيفة والشوارع المرتبة والحدائق الشاسعة، والنمط الاستهلاكي المتفتح في المأكل والمعيشة والترفيه وفي الحياة، دون قترة وبلا طابوهات، وفوق كل ذلك فلسفة حقوقية ترسخ الإنسان كينونة قائمة بذاتها، متساوية مع الآخرين في نظام عدلي متكافئ الفرص، لا يفرق بين أمير وحقير، وبين وزير وغفير، شيئاً فشيئاً ستصبح الصورة صانعة لنموذج متكامل من الإغراء، ثم يصير النموذج هدفاً، وتصبح الهجرة فكرة متخمرة في العواطف الضارية عبر كثير من الأغنيات التي تحمل مفردة.

"البابور" – السفينة، من قبيل "بابور اللوح"

و"يا بابور أخرجني من البؤس" أو "بابور حراقة" ستحتل أغاني الراي الممزوجة بالراب، مساحات واسعة في المخيال الشباني، فهي تردد كما أيقونات شعبية في الأحياء ومدرجات الملاعب وفي الجلسات الخاصة، لتغدو الهجرة لا مجرد فكرة بل مشروع خلاص ولو كلف صاحبه الحياة، أليس هؤلاء هم  من يرددون "يأكلني الحوت في البحر ولا يأكلني الدود هنا"، فبالنسبة لهؤلاء المسحوقين، المغتربين في زهرة أعمارهم داخل بلدانهم، لم تعد تلك الأوطان سوى مقابر للدود، وأما الماء فصار قارب النجاة النهائي والوحيد، فـ"الفقر في الوطن غربة، والغنى في الغربة وطن".

2- صرخة الروائي التي ذهبت في ثرثرة بوتفليقة

ثم وفي خضم تلك التطورات هنا، سيشهد العالم انكماشاً، غير مسبوق، على ذاته، بسبب صعود تيار الإرهاب الدولي وتردي الأحوال المعيشية، ونشوء المجاعات والنزاعات الحربية، التي تسببت جميعها في فرض نظام التأشيرات لدواعٍ أمنية وسياسية واقتصادية، فلم يعد متاحاً -منذ تلك اللحظة- للكثيرين التنقل الحر بخاصة لأولئك الذين لا يملكون شهادات وحرفاً مهنية، تتيح لهم الحصول على قشة أمل في سوق العمل المحلي المختنق. لم تكن الهجرة السرية، وتدفق السيول البشرية من شمال إفريقيا نحو جنوب أوروبا بالأمر غير المتوقع لدى شبكات الرصد الأوروبية، حينما نعلم أن كياناً مثل الاتحاد الأوروبي كان أسس في الأصل، خلال عام 1990، لمواجهة ثلاثة تحديات كبرى لخصها الرئيس الفرنسي الأسبق جيسكار ديستان في: الإسلام السياسي، والقوميات العرقية الأوروبية الناشئة، والهجرة المتربصة من وراء البحر.

تشير إحصائيات نشرتها الباحثة فاطمة الزهراء شبيلي إلى أن عدد المهاجرين غير الشرعيين بلغ 10.000 شخص خلال عام 2018، فيما أكدت وزارة الدفاع الوطني أنها أحبطت عبر خفر السواحل في ذات الفترة 4000 محاولة هجرة، ما يدلل أن الظاهرة باتت تشهد تجذراً في الواقع بعد تاريخ انفجارها الأعظم عام 2005، وكانت تلك لحظة الطفو فوق السطح، قد واكبتها رواية مستشرقة للكاتب الجزائري المثير للجدل بوعلام صنصال تحت عنوان "حرّاقة" الصادرة في ذات العام. فقبل 15 عاماً تفطن الكاتب الروائي الفرنكوفوني من خلف نافذته المطلة على خليج الجزائر، لعشرات الشبان الذين يجلسون في خلوات مديرين ظهورهم للعاصمة البيضاء، مادين عيونهم المشرعة صوب الأفق الأزرق حيث "الجنة" الواقعة عند الضفة الأخرى للمتوسط.

إن أولئك الشبان الراغبين في الرحيل، ولو بالتسلل خفية في بواخر الشحن، كأي سلعة مكدسة في الرطوبة وبين القوارض، يدركون أنهم يعيشون في بلدان بعيدة عن معايير الرفاهية قريبة من أوروبا التي لا تقع سوى على بعد مئات أو عشرات الكيلومترات، ليدوّن بعدها روايته "حرّاقة" التي دقت جرس الإنذار المبكر دون أن يكون لذلك التنبيه أي رجع صدى، في بلد مليء بالبرامج والمخططات وأحاديث الصالونات والنقاشات السياسية الفارغة من المحتوى الاقتصادي الدقيق، فقد كان الرئيس بوتفليقة منهمكاً في المصالحة الوطنية وفي شراء السلم الاجتماعي لتحقيق حلمه الخاص بالحكم مدى الحياة تبعاً لشعاره الذي أسره لمقربين منه  "من قصر المرادية إلى مقبرة العالية".

3- رفض مغامرة "عيش" الآباء والمقامرة بنمط "حياة" أخرى

تعني كلمة حرّاقة بالعامية الجزائرية والمغاربية "المهاجرين السريين"، الذين يحرقون الحدود تماماً كحرق وتجاوز إشارات المرور، أو يحرقون وثائقهم الشخصية كي لا تتم إعادتهم لبلدانهم الأصلية، وهي مشتقة من مصدر "الحرقة" تلك الكلمة المركزة ذات المدلول النفسي والاجتماعي المختزل لكمّ هائل من الترسبات ذات التناظر الغريب مع كلمة أخرى لا تقل شحناً عن سابقتها، هي "الحقرة" التي تعني الاحتقار والظلم الاجتماعي والقهر السياسي، فليس ثمة حد فاصل بين "الحرقة" و"الحقرة"، اللتان تخرجان من مشكاة أتون واحد هو "القلق الاجتماعي"، الذي يبدأ من مشكلات البطالة وانعدام فرص الشغل والسكن والزواج لدى فئات، ليتمظهر في انعدام مجتمع الحريات الفردية والجماعية والمشاركة السياسية لدى فئات أخرى، متحولاً إلى مشروع لا متعلقاً بالبحث عن بلد آخر، بل عن نمط حياة أخرى وفق مفاهيم الحرية والاستقلالية وتحقيق الذات، طبقاً لمقولة "بول لانجوفان" الشهيرة "نريد أن نعيش في الأنوار، أن نكافح في الانوار، وأن نموت في الأنوار، لا كجرذان في عتمة الأقبية". يؤكد المحامي الحقوقي الشهير كسيلة زرقين، المختص في ملفات الهجرة السرية والممسك بثنايا ملفاتها المعقدة منذ ظهرت موجتها الأولى بشاطئ سيدي سالم قرب عنابة عام 2005.

"في تلك السنوات بلغ عدد المهاجرين في بعض الليالي 200 شخص بينهم عائلات نساء وأطفال وإطارات لكن غياب وسائط التواصل الاجتماعي في تلك الفترة لم يمنحها "البوز الإعلامي" مقارنة بما وقع قبل أيام بسواحل إسبانيا، وطالما لا تقدم السلطات الجرأة المطلوبة للإجابة عن الأسباب بدل معالجة النتائج، ستزداد الظاهرة اتساعاً أفقياً وعمودياً، ذلك أن الأجيال الجديدة تريد أن تعيش نمطاً آخر من الحياة، ليست مستعدة أن تتكدس في طوابير مهينة للذات الإنسانية، أمام مراكز البريد لساعات لشراء كيس حليب، هؤلاء لا يريدون أن يكونوا نسخا مكررة عن أوليائهم".

أما الباحثة السوسيولوجية زهية بن عبدالله فتحلل الظاهرة من زاوية أخرى بقولها: "بالطبع هي مؤشر سلبي فالمهاجر السري الذي يركب قارب الموت ليس مغامراً، بل هو مقامر، يفر من الواقع للمجهول، سيذهب لبيئة لا تتوافق مع معتقداته وثقافته وأنماطه الاجتماعية، أما الفعل في حد ذاته فيعكس مشكلة مخيال كما يقول غاستون باشلار يتكدس فيه المثالي. وفي موقع آخر، يعكس العالم المثالي لدى هؤلاء مشكلة في "التمثلات" فالشاب الذي يعبأ ذهنه بأحلام يريد تحقيقها هنا على مدار سنوات بما تمليه عليه تلك التمثلات سيشعر في حال الفشل بالإحباط الذي يدفعه في نهاية الأمر بمقايضة حياته مقابل تحقيق مثاله".  

4- الردع القانوني والديني حوّل المهاجرين من "ضحايا" إلى "جنّاة"

رغم ما يكتنف الملف من معاناة إنسانية رهيبة، خاصة ما تعلق بالتمزقين الهوياتي والأسري، كفراق الآباء والأمهات والشقيقات والحبيبات، والامتداد المستقبلي في المجهول، ترفض الحكومات الجزائرية النظر في عين المأساة لأنها تعكس عجزها البنوي والهيكلي والتصوري المزمن في بناء اقتصاد بديل ومتنوع، وقد تحكمت تلك الرؤيا المبطنة على هيمنة سياسية شمولية طيلة العقدين الفارطين، أهدرت فيهما قيم الانفتاح والديمقراطية ومكاسب سياسية ثمينة أعقبت انتفاضة أكتوبر 1988، كما صرفت موارد مالية فاقت 1000 مليار في مشاريع أدرجت في نطاق " الإنفاق العمومي الأصم"، غير المصنفة في ما يعرف باقتصاد القيمة المضافة، أي أنها بدل أن تضخ ريوع النفط في مشاريع منتجة مدرة للمال الإضافي المنتج للثروة المنشئ لفرص العمل، صرفت أغلفة مالية ضخمة في بناء مرافق و طرقات و منشئات، أنتجت طبقة رجال أعمال كومبرادوريين من المنتفعين من الصفقات العمومية دون القدرة على تحويل الأرباح لرأسمال استثماري، كما وزعت قروضاً ضخمة على فئات شبانية أنشأت مؤسسات في مناخ يفتقر لمعايير سوق مفتوحة على العالم، كما لو أنها كانت تريد أن تبني دولة لا تنتمي للعالم وعالماً خاصاً لا ينتمي للعالم، و"قيطو"  تمارس فيه طبقة سياسية تفوق الستين من العمر، طرائق سياسية و اقتصادية لم تعد تلبي رغبات أجيال متوثبة للمستقبل رافضة وضعية العيش رهائن للماضي أو في صورة كاريكاتورية لمواطن زبون منفوخ أيديولوجياً وخاوٍ اقتصادياٍ.

وإنه لأمر مفارق إذ عوّض أن تلتفت الحكومات لمجتمع يشبه برميل بارود بعد استفحال الهجرة السرية سنوات 2005 و2006 و2007 و2008، كأن تعالج اختلالاتها الهيكلية المنطوية على فساد بنيوي، وتعيد النظر في ورقتها الاقتصادية لإنتاج مناخ سياسي واجتماعي وسياسي متفتح يكون عناصر إجابة لأسباب الفرار من الوطن، أو حدا من مآسيه، إذ ليس بوارد أن ننسى أن ذلك البحر الذي يعد مهربا أخيرا للآلاف، هو أيضا مقبرة نهائية للألوف الذين أغرقهم الماء ومزقتهم القروش والحيتان لا فظة نعالهم على حفوف شواطئ لامبيدوزا و سردينيا بإيطاليا و سان خوسي  ألميريا  بإسبانيا، كما أن العشرات منهم وجدوا أنفسهم سلعا بشرية و عبيدا للبيع في رومانيا، فيما لا يزال المئات منهم في حالة فقدان جرّاء الغرق، أو جراء الإعدامات الصورية التي يتعرضون لها من قطاع الماء، أو من خفر سواحل دول ترفض استقبال مهاجرين فوق أراضيها مثل قبرص و مالطا و اليونان… عوض أن تلتفت الحكومات لتجفيف منابع الهجرة السرية راحت تطور أساليب أخرى في إدانة الفعل بخطابات أخلاقية للمؤسسة الدينية عبر فتاوى الأئمة بتحريم " الانتحار" قبل أن تشحذ سلاح القانون، من خلال القانون 11/ 08 المتعلق بشروط دخول الأجانب للجزائر والإقامة  و التنقل فيها، ثم شرعت قانونا آخر برقم 11/09 المؤرخ في 25 فيفري 2009، الذي جرم المهاجر السري بعقوبة حبسية تتراوح بين شهرين و ستة أشهر زائدا غرامة مالية مقدرة بين 2 إلى ستة ملايين سنتيم، فيما رفعت العقوبات ضد الناقلين إلى الحبس المتراوح من 5 إلى 10 سنوات، تنطوي هذه القوانين على جدل مؤسس، إذ أنها حولت " الحراق" من ضحية إلى جان، ثم اعتبرته ضحية مرة أخرى في يد الناقلين و تجار البشر، ولا غرو في ذلك فقد حافظت الحكومات على وفائها المزمن لعدم الاعتراف بالمسؤولية الأخلاقية و الاقتصادية و الثقافية فيما يجري. واصلت طريقة "قتل الذبابة بالمطرقة"، وسلطت عقوبات على الفارين من "جحيم" لا أحد ينكر بأن لها يد في صناعته وفي عدم تلطيف حرائقه المستمرة.

 لم تفلح هذه القوانين الردعية في توقيف النزيف عبر البحر. ستمنى سياسة مداواة الغرغرينا بالأسبرين بفشل ذريع، وسيستمر تدفق قوارب المقامرين حتى لدى أولئك الذين عوقبوا بالحبس بسبب الهجرة السرية عدة مرات، بدا كما لو أن الهجرة السرية لم تعد ذبابة بل صارت فيلا ضخما يُقتل من حكومات بوزن ذبابة لكنها تواصل شد مقذف مركب التنمية الجانح والضرب بالمطرقة.

يفصل كسيلة زرقين محامي المهاجرين السريين المشهد:" فشلت هذه القوانين، لأن الظاهرة لا تحتاج لردع قانوني، بل تتطلب حلولا اقتصادية واجتماعية وسياسية. لا بد من مشروع واضح متعلق بمناخ الحريات الفردية والعامة، لا بد من إجابات اقتصادية. يريد الشبان التنفس في مجتمع يتحرك، ربما نحن البلد الوحيد الذي يتجاوز فيه سن المتنفذين السياسيين حاجز الستين سنة، فكيف يقدم هؤلاء حلولا لأجيال لا تنتمي لدورتهم الحياتية".

 وكما أنه لا يمكن الزج بالآلاف في السجون اتضح أن تلك القوانين لاغية واقعيا، إذ إن الراغب في الهجرة على قارب موت يكون آخر همه الاكتراث بزنزانة في سجن. ثمة أمر آخر حير المختصين، ورغم أن الجزائر صارت في السنوات الأخيرة من أكبر البلدان المصدرة للمهاجرين السريين، فإنها لا تتوفر على هيئة رسمية مكلفة بشؤون الهجرة السرية مقارنة بدول المنطقة التي تشترك معها في الحالة كتونس والمغرب وليبيا والسنغال، توضح الباحثة زهية بن عبد الله ذلك " لم يكن الحكم البائد يهتم للأمر، بدليل أن الاعتناء بالأدمغة المهاجرة لم يعن لها شيئا، ما بالك بالفئات الأخرى الأقل تعلماً وتكويناً، يتطلب الأمر إنشاء هيئة مختصة تتابع الملف وتقدم المقاربات الصحيحة لمعالجة الظاهرة، التي أرى أنها تستلزم تكفل المجتمع المدني وانخراطه في مسألة "الرفاهية"، لا بد من بناء نسق اجتماعي يضمن العيش المشترك، الترفيه، الثقافة، الفنون، القبول بالتنوع، هذه لبنات مهمة تتضافر مع نمط اقتصاد يساهم في ربط السكان بالأرض، ليحقق الفرد  قسطا من "تمثلات المخيال" حول الرفاهية داخل بلده بدل مطاردتها في مجتمعات في نقيض مع معتقداته وتقاليد وأنماط تفكيره".

5- كورونا والحراك وثورة ابتسامة في ربيع بلا تنمية

لم تتحقق الرفاهية رغم إنفاق غلاف يقارب الألف مليار دولار خلال العقدين الماضيين، رقم فلكي كان كفيلا، حسب خبراء، بإنشاء دولة جديدة بحجم البرتغال، و لم تتوقف بسبب الردع القانوني ولا الوازع الديني و لا بالخطابات العقائدية و الرومانسية، لكنها دخلت في بيات شتوي طويل في فيفري 2019 و دون سابق إنذار، خلال فترة الحراك الجزائري الموسوم إعلاميا " ثورة الابتسامة"، حيث انخرط المجتمع بمزيج ألوانه وثقافاته في حركة سياسية رومانسية، أنهت عملياً حكم الرئيس بوتفليقة و"عصابته" دون طلقة بارود ولا قطرة دم واحدة، في تكرار لافت للتراجع الملحوظ لظاهرة الهجرة السرية خلال فترة كأسي العالم 2010 و2014. يفسر الباحث نورالدين بكيس، الدكتور في الاجتماع السياسي ذلك التناقص الذي لا يعني الاختفاء التام بقوله " كلما ارتفع سقف الأمل قلّت ظاهرة الهجرة السرية وكلما قلّ الأمل كلما زادت الهجرة السرية، وبالفعل شكل الحراك محطة أمل كبرى للتغيير وقد منح ذلك ما نسميه الدور الاجتماعي في المشاركة لكل إنسان لم يجد مكانه في المجتمع، لأن فئات طاغية منه رأت في التحول الكبير فرصة لإنهاء التهميش الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الذي طالها لأمد طويل.  خلال مرحلة الحراك شيد الناس سقفا عاليا من التوقعات الوردية، بعضهم بقي في حالة انتباه لرصد التطورات، لكن ومع مرور الوقت تلاشت تلك الأحلام، بسبب أن لا حلول جاهزة للأزمة الاقتصادية المتعاظمة، حيث بات واضحا أن نظام الحكم لن يسيرها بل سيسايرها".

إن ما حدث في الجزائر من ارتدادات بعد عبوس "ثورة الابتسامة" وانكسار سقف التوقعات الذي أرجع قوارب الهجرة السرية للاستعراض العلني فوق مسرح البحر، يشكل إعادة مكررة لما وقع بعد ثورتي الياسمين في تونس وفبراير بليبيا، حيث قطع أزيد من 5.000 شاب البحر نحو لامبيدوزا في الأسابيع الأولى، بيد أن ثمة أمراً وافداً طرأ على المشهد منذ خمسة أشهر، إذ سيتحالف فيروس كورونا مع فيروس الإحباط ليزيد التركة ثقلاً. أرخت جائحة كورونا سدولها على الاقتصاد العالمي، وضربت كما إعصار غير مرئي البورصات وقطاعات اقتصادية، بخسائر يقدرها البعض بآلاف المليارات من الدولارات، ولم تكن الجزائر بمعزل عن الوباء الاقتصادي العام، إذ يؤكد الدكتور نورالدين بكيس ذلك.

جائحة كورونا مست أيضاً الاقتصاد الموازي الذي يشكل رأسمال هذه الفئات الشبانية بشكل مباشر عبر إجراءات التباعد الاجتماعي. اختفت العديد من الوظائف اليومية وشحت المداخيل بشكل مثير، هذا من الجانب الاقتصادي. أما من ناحية المجال السياسي العام، فقد احتلت اعتقالات المدونين والنشطاء السياسيين، صدارة القضايا الأكثر تداولاً في شبكة التواصل الاجتماعي في الأشهر الثلاثة الماضية، وطبعاً أعطى ذلك انطباعاً سلبياً وأوحى للمزاج العام ألا انفتاحاً سياسياً في الأفق وأن الأمور لم ولن تتغير نحو الأحسن، لذا يفضل هؤلاء اللجوء إلى هناك أملاً في تغير الحال في تلك الاقتصاديات القوية خلال ستة أشهر أو أقل من عام، عوّض البقاء هنا دون سلاح ودون أمل يلوح في الأفق الاقتصادي العاتم والمعتم".

تعارض فئة من الجزائريين طريقة اللاجئين من البلاد فوق صفحة الماء، لكن لا يختلف أحد على أن الأوضاع الاقتصادية فوق صفيح ساخن، لذا يطالبون الحكومة بمشروع اقتصادي ثوري، يمنح للجميع فرص البقاء هنا، وقطعا للطريق أمام هزات ارتدادية من الهجرة السرية، فلا سيادة وطنية لأحد على أحد، بلا تنمية وتكافؤ فرص للجميع.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

طاهر حليسي
كاتب صحفي جزائري
طاهر حليسي، كاتب صحفي، يعمل حالياً مديراً لمكتب "الشروق" الجزائرية في مدينة باتنة،التحق بالصحيفة عام 2000، بعد تجربة إعلامية كمحرر مزدوج اللغة (عربي فرنسي) بجريدة الجمهور الأوراسي، ثم صحفي كاتب مقالات رأي وتحاليل ومترجم بأسبوعية "الأطلس". عمل رئيس تحرير بعدة صحف أسبوعية منها "الراية" و"الوئام".
تحميل المزيد