كانت الفكرة تجول بخاطره منذ الصبا، وكان يطمح إلى تحقيقها شأنه شأن أقرانه أو ربما من هم أكبر منه سناً، كفل رأسه الصغير تلك الفكرة، فنشأت وترعرعت وأحبت عقل الفتى الذي أوشك على سن البلوغ وأبت إلا أن تعشش فيه وأن تمر بين الفينة والأخرى عبر مخيلته إلى أن ظلت هاجساً أو قل حلماً يطمح الفتى أن يحققه بأية طريقة كانت.
وفعلاً، تحولت الفكرة مع مرور الزمن إلى حلم جميل، وعزم الشاب حينما اسودت الدنيا في عينيه ولم تعد ترق له حياة البادية ولا أهلها ولا حتى الأرض التي كان يعتني بها بدلاً من والده. أصبح يشكو بكرة وأصيلاً وهو غاضب ساخط عن الأوضاع المزرية وخاصة تلك التي تحياها القرى المهمشة النائية كتلك التي يقطنها هو وأهله وذووه. باتت القرية بالنسبة له كسجن مظلم لا يسوده النور، وأصبحت البادية وأمست جحيماً يشوي جسده -رغم وجود والديه وأهله بها- كان الجو هناك يبدو أمام مقلتيه مكفهراً قاحلاً يابساً لا حياة فيه.
وفي اليوم الموعود، ترك كل شيء وراءه، الأرض وتربتها، الدم والأهل والقرابة، ابنة العم الخطيبة، فرط في كل غال ونفيس اللهم إلا ما كان قد جمعه من نصيب أرض كان قد باعها هي وبعض النعاج كان قد أخذها من والده بالغصب والكره.
رحل الفتى دون رجعة ولا يدري إلى أين وكيف وما هو المصير؟
المهم عنده هو الرحيل، والهدف لديه هو الهجرة إلى أوروبا هرباً من وطن لم يسعفه في شيء. وصل إلى بلاد الإسبان مكث هناك مدة ليست بالقصيرة إلى أن ابتسم الحظ في وجهه وحصل على الوثائق التي كانت بداية بالنسبة له لتحقيق ما كان يرجوه. لم يكترث لأي صعب واجهه، بل تصدى لكل ذل وعنصرية، مسح الأرض وغسل الصحون، ثم شعر بالسعادة حين ظن أن رتبته في الحياة وفي العمل قد ارتفعت وهو يشتغل بحانة كنادل يسقي الزبناء الخمر ويقطع لهم لحم الخنزير، وبعد ذلك لم تعد تلك المهنة تروق له، فكر طويلاً لكن بعض رفقائه شجعوه على الانتقال معهم إلى ألمانيا ففعل، وهناك كان مستقره ومقامه، بدأ حياة جديدة، حياة تصورها ابتسامة حظ جميل لا يعرف النهاية.
قرر الشاب البدوي المهاجر الذي فرط وضحى بكل غال ونفيس أن يعيش بالأسلوب أو بالنمط الذي خططه لنفسه، صحيح أن المرء يختار أسلوب عيش يرتاح له ويشعر أن ما انتقاه ليحيا به أريح وأنسب. لكن التخطيط مع بعد النظر واتخاذ القرارات الصحيحة والمناسبة مع العمل بنصائح الأهل أمر لا مفر منه لأنه سبيل يدعم القرارات ويحميها من الوقوع فيما يجلب بالنهاية ما لا يكون في الحسبان. تعرف الشاب الريفي على سيدة تكبره سناً لكنها لم تكن من نفس وطنه ولا حتى من ذلك الوطن الذي هاجر إليه، إنها يهودية الأصل، لا تعتنق أي دين حالياً. انتهى به المطاف بأن اقترن بها وأنجبت له أربعة أطفال كانوا كلهم ذكوراً ما عدا ابنة واحدة، عاشت الأسرة في سلام وأمان، لكن الشاب والذي أصبح أباً لأربعة أطفال لم يفكر يوماً حتى في الاتصال بأهله البعيدين عنه ولم يبادر ولو لمرة للسؤال فيمن ربوه وكبروه وعانوا من أجله كي يدرك مرحلة الشباب تلك. لكن جاء الزمن الموعود والذي لم يجل قط بمخيلته، زمن سيعصر فؤاده، وسيعكر عليه صفو حياته، كانت رغبته – رغم بداوته فهو كان متفقهاً في دينه متضلعاً بأركان العقيدة الإسلامية حيث تفقه على يد والده هذا الأخير الذي كان إلى جانب مهنته كفلاح يمارس الشعائر الدينية بمسجد البادية وكان يعمل كإمام وكمؤذن هناك- تحمس هذا البدوي المهاجر بشكل شديد كي يغرس في فلذة كبده تعاليم الدين الإسلامي، لكن وللأسف عارضت زوجته الفكرة ورفضت أن يؤثر عليهم والدهم في ذلك. وانتهى الخلاف بينهما بأن هربت بأولادها ورحلت بهم إلى غير رجعة. كاد المهاجر البدوي يفقد عقله، وأنهكت قواه وهو يبحث عن الأسرة دون كلل أو ملل، ومرت فترة زمنية ليست بالقصيرة والمهاجر لم يفقد الأمل ظل باحثاً مستكشفاً أمر زوجته وأولاده وفي نهاية المطاف عثر على مقصده لكن الوقت كان قد فات والظروف قد تغيرت، كبر الأولاد والبنت في كنف ورعاية أمهما ولم يكترث أي منهم لغياب والدهم، فقد تابعوا حياتهم بين أحضان والدتهم والتي اكتفت بمدخول عائلتها الجيد التي دعمتها وساندتها كي تلبي كل طلبات أولادها من غير حتى أن تكترث أو تشعر بافتقادها للزوج وأب الأولاد. في البداية لم يستطع المهاجر التعرف على أولاده، لكن وجه الأم لم يغب ولو لبرهة عن مخيلة البدوي المهاجر، وجد أولاده في صورة أخرى غير التي كان يرسمها هو لهم، عثر عليهم جميعاً وكأنهم أناس أوروبيون غرباء عنه وفي ساعة اللقاء لم يحركوا ولو ساكناً، لم يتلهفوا للقاء والدهم، كانوا أمامه وكأنهم ينظرون إلى رجل غريب حضر يستفسر عن شيء أو يطلب مساعدة. كانت والدتهم وكأنها غسلت أدمغتهم ومسحت حب أبيهم من قلوبهم وزرعت في أفئدتهم والتي كانت صغيرة آنذاك، أن والدتهم هي أبوهم في نفس الوقت. حينها دخل الوالد المهاجر في دوامة من الحيرة والاستغراب صاحبتها موجة عنيفة من الغضب والرغبة في الانتقام. تساءل: " لماذا؟ ما ذنبي أنا؟ كيف لي أن أستعيد أولادي؟ ما الحل الآن؟ كان وقتها يحملق في وجوه أولاده وزوجته في حديقة بيتهم وهم ينظرون إليه باشمئزاز وكأنهم جميعهم يرغبون في طرده وفعلاً صرخت في وجهه قرينته بصوت عالٍ ملؤه الضغينة والكره: "اغرب عن وجهي واتركني في حالي وإن عدت سوف يكون مصيرك بيد الشرطة، يالك من إنسان وقح. لن يدعمك القانون ولا العدالة لأنك رجعي لا يؤمن بالحرية. دعنا وشأننا نحن لا نريد معرفتك".
كانت بالحديقة طاولة وكراس من حديد ومن شدة هول الصدمة سقط البدوي على إحدى كراسيها جالساً لم تحمله رجلاه وعجز عن استيعاب ما يقع أمام عينيه. شده أحد أبناءه من كتفه مضيفًا: "غادر أيها المحتال، فوالدنا مات منذ زمن بعيد وما أنت إلا مجرم متهجم على ملك الغير. حملق في ابنته الوحيدة فوجدها ترتدي ملابس شبه عارية وذراعها يحمل وشماً يكاد يغطي كل كتفها. تملكه الألم والحسرة وشعر بالمذلة والندم، وما كان إلا أن رفع فجأة أحد الكراسي وشق به رأس زوجته وفر كالذئب الهارب من الكلب غير متلفت وراءه. غرقت الزوجة في دمائها وأدركت الشرطة مرتكب الجريمة وأحيل على القضاء لتتخذ العدالة في قضيته مجراها. ضاعت أحلام الرجل ورحل، أجل رحل فقد عثرت عليه الشرطة منتحراً داخل زنزانته.
إننا في هذه الحياة نشبه من يوشك على الغرق بين أمواج بحر عاتية، ونحن في هذه الدنيا كذلك الصياد الذي يرمي شباكه ويظل طول اليوم منتظراً رزقه من أعماق البحر، فتارة يعود بسلة ممتلئة وتارة أخرى يعود إلى بيته خالي الوفاض. علينا أن نتعلم السباحة بنفس عميق وبذراعين قويين وإلا ابتلعنا العمق وأكلتنا الحيتان، وإن نحن اخترنا أن نكون مثل الصياد فتلزمنا العزيمة والإصرار، ومهما عادت قفتنا خاوية أكيد سوف يملؤها الرحمن لصبرنا وإيماننا. لا شيء في هذه الدنيا يستحق الانتحار لأن ذلك الفعل وباء مميت وخسارة دائمة، أضف إلى ذلك أن مجرد أن تراودنا فكرة الانتحار ذاك هو الفشل بعينه، والفشل من الواجب أن يكون نقطة بداية لا نهاية، وعيب أن نصحح خطأً بآخر فادح وأخطر منه، لأننا لن نستفيد من ذلك شيئاً ولن نضر سوى النفس التي هي أمانة لدينا وسوف يأتي علينا حال ونودعها لصاحبها.
لقد ضيع صاحبنا البدوي هذا كل أحلامه وخرب حياته بنفسه، صحيح أنه كان شاباً طموحاً لكن للأسف فقد كانت طموحاته محاطة بمثبطات مادية ومعنوية ربما يكون منها عامل الجهل وعدم الدراية باتخاذ القرارات الصحيحة أضف إلى ذلك عدم قدرته على مواجهة الشدائد، وتجنبه مواجهة العقبات المختلفة. اللامبالاة وعدم القدرة على اتخاذ القرارات، مما سبب له الانهزام أمام عقبات العيش فخسر المعركة من أول وهلة فما كان عليه سوى الإقدام على فعلين شنيعين -مع العلم أنه اتضح أنه فقيه وابن فقيه- ألا وهما القتل والانتحار وهذا ما نهى وحرمه الدين الحنيف.
الحياة معركة ولا يفوتني فيما كتبت أن أورد خير مقال خلده التاريخ الأندلسي للفاتح طارق بن زياد حين خطب في جيشه وهو محاصر بالعدو من الأمام وبالبحر من الخلف، جاء عند المقري في نفح الطيب، "لما بلغ طارق اقتراب لذريق بجيشه القوطي الكثيف قام في أصحابه، فحمد الله سبحانه وتعالى وأثنى عليه بما هو أهله، ثم حث المسلمين على الجهاد ورغبهم في الشهادة" ثم قال: "يا أيها الناس، أين المفرّ؟ البحر من ورائكم والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام وقد استقبلكم عدوكم بجيشه وأسلحته وأقواته موفورة وأنتم لا وزرَ لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات لكم إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم ولم تنجزوا لكم أمراً، ذهبت ريحكم وتعوضت القلوب من رُعبها منكم الجرأة عليكم فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية، فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة، وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت، وإني لم أحذركم أمراً أنا عنه بنجوة ولا حملتكم على خطة أرخص متاع فيها النفوس إلا وأنا أبدأ بنفسي".
واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلاً استمتعتم بالأرفة الألذ طويلاً فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي فما حظكم فيه بأوفى من حظي وقد بلغتم ما أنشأت هذه الجزيرة من الحور الحسان من بنات اليونان الرافلات في الدرِّ والمرجان والحلل المنسوجة بالعقيان، المقصورات في قصور الملوك ذي التيجان وقد انتخبكم الوليد بن عبدالملك أمير المؤمنين من الأبطال عربانا، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهاراً وأختانا، ثقة منه بارتياحكم للطعان واستماحكم بمجادلة الأبطال والفرسان ليكون حظه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته وإظهار دينه بهذه الجزيرة وليكون مغنمها خالصاً لكم من دونه ومن دون المؤمنين سواكم والله تعالى ولي إنجادكم على ما يكون لكم ذكراً في الدارين.
واعلموا أنني أول مجيب إلى ما دعوتكم إليه وأني عند ملتقى الجمعين حامل بنفسي على طاغية القوم لُذْريق فقاتله إن شاء الله تعالى فاحملوا معي، فإن هلكت بعده فقد كفيتكم أمره ولم يعوزكم بطل عاقل تسندون أموركم إليه وإن هلكت قبل وصولي إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه، واحملوا بأنفسكم عليه واكتفوا الهم من فتح هذه الجزيرة بقتله، فإنهم بعده يخذلون.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.