شهدت مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة جدلاً كبيراً في العديد من القضايا التي تخصُّ المرأة، كان آخرها الجدل المتعلق بقصة "المايوه الشرعي" أو "البوركيني" الذي ترتديه المحجبات كملابس للسباحة، بدأ الموضوع من خلال انتشار مقطع فيديو داخل أسوار منتجع سياحي في الساحل الشمالي، عندما اعترضت إحدى السيدات على أخرى ترتدي البوركيني، قائلة لها "المايوه ده مؤذي للعين"، لينتقل بعدها هذا الخلاف إلى ساحات النقاش على مواقع التواصل الاجتماعي، فما الذي حوّل الخلاف بين اثنتين من نساء الطبقة البرجوازية في منتجعات الساحل الشمالي التي لم يرها أكثر من نصف المجتمع المصري المكافح على خط الفقر، إلى تريند يتحدث عنه الكثيرون؟
كيف بدأ التريند؟
بالنظر إلى السياق المجتمعي المستمر لشكوى النساء من التحرش والعنف والتمييز، لا يمكننا أن نفصل هذه القضية عن غيرها من قضايا النساء السابقة، فإذا نظرنا للأشهر القليلة الماضية، سنجد عدداً من القضايا المتعلقة بحقوق النساء التي أثارت الجدل في المجتمع المصري بشكل متتابع، مثل قضية اغتصاب طفلة ونشر مقطع فيديو للجريمة، والقبض على فتيات التيك توك بتهم مُستحدثة غير واضحة، وقضية طالب الجامعة الأمريكية المغتصب، التي فتحت الباب على مصراعيه للكثيرات ليتحدثن عن تجاربهن مع التحرش الجنسي، فثار الجدل أكثر حول لباس المرأة، ولم تنته كل هذه السجالات حتى نجد بعدها بأيام قصة البوركيني تقتحم قائمة التريندات في مصر.
بالطبع تعرفون أن المرأة نصف المجتمع، فكيف يمكن أن يعاني نصف المجتمع من كل هذا التعنيف دون أن يعبر عن غضبه، فالنساء أصبحن أكثر وعياً الآن بقوة التضامن والحديث على مواقع التواصل الاجتماعي، فهذه المرة لم تكن المرة الأولى التي تتحدث فيها النساء، بل هي امتداد لسنوات من الحديث عن أزماتهن في المجتمع المصري بأشكال مختلفة، ولكن كيف استطاعت النساء أن تحتل التريند.
نظراً لغلق المجال العام أمام حرية الرأي والتعبير، وتوجيه الإعلام والصحافة والسينما لتعمل على حسب أهواء الدولة، اختفت الحياة السياسية بشكل كبير في المجتمع المصري، بالرغم من وجود قضايا تستدعي الحوار المجتمعي السياسي، مثل قضية سد النهضة على سبيل المثال، لكن من الواضح أن إدارة الدولة لا تسمح بالأحاديث السياسية في البلاد، ومناقشة قضايا المرأة أيضاً هي جزء من الحياة السياسية، ولها أبعاد طبقية واجتماعية واقتصادية، ولا يمكن اجتزاؤها من هذه السياقات، فجزء كبير من أزمات النساء يقع على عاتق الدولة التي تُكمم الأفواه ولا توفر القوانين المناسبة لحماية حقوق وحريات النساء، وأيضاً على عاتق الذكور ورجال الدين، ممن يعانون من هوس تجاه أجساد النساء وملابسهن، وكل ما يتعلق بحياتهن وحريتهن الشخصية، وكذلك الإعلام الذي لا يتناول ملف الحريات الشخصية بشكل واقعي يظهر التناقضات الموجودة في المجتمع.
أذكر هنا قانون مناهضة العنف ضد المرأة، الذي يعمل على تحديد مفاهيم جديدة للجرائم الجنسية، من شأنها توفير حماية أكبر للنساء والفتيات من الابتزاز والاستغلال الجنسي، وإضافة تعريفات وأشكال مختلفة من العنف ضد المرأة، والذي حصل بالفعل على توقيع 66 نائباً ونائبة في البرلمان المصري، ودخوله لجنة التشريع، إلا أن مصيره النهائي لم يتحدد حتى الآن.
وأذكر أيضاً دور الأزهر، الذي جاء منصفاً للمرأة مؤخراً، ولم يبرر للتحرش أو الاغتصاب بملابس المرأة، وكذلك الحماية القانونية التي وفرتها النيابة للناجيات من خلال إخفاء هويتهن، ولكن كل هذه التحركات لم تحدث إلا بعد قضية مُغتصب الجامعة الأمريكية، حيث كانت ضحاياه من فتيات الجامعة الأمريكية من الطبقة العليا في مصر، هن مشكورات بالطبع على الشجاعة وعلى التضامن وعلى هذا الحراك النسوي، وما تلاه من بلاغات ضد متحرشين كثر، إلا أن الدولة لم تُحرّك ساكناً منذ شهرين في قضية اغتصاب الطفلة منة عبدالعزيز، التي تم نشر مقطع لها، وبالرغم من ذلك تم معاملة الطفلة على أنها متهمة، أيضاً اعتقال فتيات التيك توك لمجرد ارتدائهن ما يحلو لهن والرقص على نغمات الأغاني عبر تيك توك، وهو ما تقوم به كل الممثلات والنجمات وبنات الطبقة البرجوازية في مصر بشكل طبيعي لا يزعج الدولة.
وبعيداً عن دور الدولة المتخاذل أيضاً في حماية النساء، والذكورية القابعة على أنفاس المجتمع منذ سنوات، تلعب أيضاً الطبقية دوراً كبيراً في هذا القمع، وتجتمع كل هذه العناصر معاً للدفع بأن يتم تحديد الشكل المطلوب للمرأة بحسب طبقتها الاجتماعية، فإن كنتِ من سيدات الطبقة الوسطى أو الطبقة الكادحة فلا بد من ارتداء الحجاب، أو على الأقل الالتزام بملابس تغطي جسدك بالكامل والحفاظ على "سمعتك وشرفك"، أما إن كنت من سيدات الطبقة البرجوازية فلك مطلق الحرية في ارتداء ما يحلو لك والقيام بأي شيء، ولكن أيضاً عليك أن تلتزمي "بالمظهر الحضاري" لأبناء هذه الطبقة على الشواطئ، وعدم ارتداء البوركيني، لأنه يشوه الصورة الجمالية لمنتجعات الأثرياء، وبالطبع كل ما يهم الدولة هو إرضاء الأثرياء، حتى وإن كانت القوانين لا تقرّ بذلك.
بعيداً عن التشاؤم
لكن حتى لا نكون متشائمين، استطاعت النساء في الآونة الأخيرة أن تستغل الأدوات والمساحات الباقية للتعبير عن غضبهن على مواقع التواصل الاجتماعي، والحصول على التريند، وزيادة الدعم لهن فيما يمررن به من تعنيف وتمييز وطبقية، وكل هذا ما هو إلا استكمال للبناء على نضالات الأجيال السابقة من النساء، التي وقفت في وجه الدولة والذكورية والمجتمع.
نجد الكثيرات الآن يتحدثن بلا خوف، هن يتعلمن الآن بأنفسهن كيف يمكن أن تجتمع العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والطبقية على قمع حريتهن الشخصية، وكيف يمكن كسر هذه القيود من خلال التضامن مع كل النساء المضطهدات في أي قضية، ومن أي طبقة اجتماعية، حتى وإن أثارت هذه القضايا استقطاب المجتمع، والدفاع عن الجناة وتبرير الجرائم والانتهاكات ضد النساء، فقد عانى المجتمع من الجهل وثقافة البلطجة منذ عقود، ولا بد للنساء من خوض معارك كثيرة حتى ينتزعن حقوقهن الآدمية في هذا المجتمع.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.