كيف نغتصب الضحية مرتين؟

عدد القراءات
12,935
عربي بوست
تم النشر: 2020/07/03 الساعة 14:56 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/03/09 الساعة 16:30 بتوقيت غرينتش
Man hands holding a woman hands for rape and sexual abuse concept isolated on black background

لأننا شعبٌ متدين بطبعه، ولأننا في الوقت ذاته نقول: "الصيت ولا الغنى"، فإن الواقع يكشف لنا بوضوح عن أن تديننا مجرد صيت، وأننا فقراء في العُرف والشرع والمنطق، ومع عصبيتي التي قد تتحول -دون قصدٍ- إلى قومية أحياناً، فإنني أقف لأعترف -على طريقة الفنان "أحمد زكي"- بأن كلنا مجرمون، لا أستثني أحداً.

تبدو على المجرم أمارات الوسامة، يبدو جميلاً أكثر مما يحسب الجميع، يبدو غنياً وغناه في مظهره فقط، يبدو طالباً يدرس في الجامعة الأمريكية، من عائلة ثرية، قادرة على أن تقدم بلاغاً ضد فتاة اتهمت ابنهم من قبل بالتحرش، مما دفعها إلى التراجع. نجمنا الليلة "أحمد بسام زكي"، وظيفته طالب، ومهنته التي يمارسها بعيداً عن أضواء المظاهر البرّاقة- اغتصاب الفتيات، واغتصاب الأولاد، وتقييدهم لإجبارهم على ممارسة الفعل الشنيع معه، ثم يتركهم عظماً بلا لحم بعد أن يكون قد استوفى نصيبه منهم، ويهددهم أن يفعل بهم ويفعل.. إذا نطقوا.

وبقيت الأمور مكتومة حتى خاطرت الفتاة ونشرت، وقالت إن الشاب المذكور تحرش بها، وبعدها انطلقت العشرات -حرفياً- من الفتيات يحكين مواقف لهن معه، وعن تغريره بهن، إلى أن يستدرجهنّ لأي مكانٍ ليمارس دناءته، وكلهن يحاولن المقاومة، وكلهن يفشلن فيها، إلى أن تنتهي الأمور، ويعود أحمد إلى والده ووالدته يسألهما عن عشاء الليلة، وعن فيلم السهرة، وعن مكان العطلة القادمة، وتعود الفتاة، ولا تعود، تركت نفسها هناك، ماتت روحها على يد الطالب أحمد، بينما عادت بجسدٍ مقتول، لكنه -دون درايةٍ منه أو إرادة- يعود إلى البيت، وتعيش الفتاة في جحيم يزداد لهيباً كل يوم.

وتكلمت الفتيات، وصرخن، وبدأ المجتمع -الافتراضي- يتفاعل، ويندد ويستنكر، وبقي المجتمع الحقيقي على أرض الواقع يراهنّ قليلات أدبٍ لأنهن تحدثن معه من البداية، ويا سيّدي ولو صاحبنه حتى، هل ذلك يعطي مبرراً عندك للاغتصاب؟ هل سير المرأة عاريةً من حيائها يدعو لتعريتها من حياتها كذلك؟ ولا أحتاج إلى توضيح معارضة الشرع والعرف لسيرها عارية، لكن الشرع والعرف نفسهما منحاك الحق لتستنكر فعلها، هما أيضاً يمنعانك من النظر إليها أو التعرض لها، وليس فقط اغتصابها.

وهذا يا سيدي للأسف الجديد، وأعتذر أنني سأصدمك، ليس محصوراً في اللواتي تراهنّ "يستاهلوا" وإنما هو فعل قذر، ومرض مزمن، ممتد إلى ابنتك الفاضلة ولو كانت مختمرة أو منتقبة أو في ثوب رجل حتى، لأننا سمعنا كثيراً من قبل، عن ذكرٍ يغتصب رضيعة، وما المغري في الرضيعة؟ عن ذكرٍ يتحرش بطفلة، وأين مفاتن الطفلة؟ عن ذكرٍ يتحرش بطفل، وأين أنوثة الطفل المذكر التي تجعل لعاب المجرم يسيل؟

إذَن، وبوضوح.. نحن في مجتمع مريض، نتعامل مع المرض بإنكار، حتى يذوق كل منا لسعته فنفيق حينها على الكارثة الكبرى، وهي تفشي تلك الجريمة فينا جميعاً، لماذا؟ لأننا أنكرنا منذ البداية وجودها، بل بررنا لخطفها أرواح المساكين، وقلنا إنهم "يستاهلوا"، ولم يكن يضيرنا أبداً أن نقف بحزمٍ ورجولة ومروءة، لنقطع على المتحرش طريقه، لا لنقطع رقبة الضحية لأن حظها ونصيبها أن تكون ضحية.

ونحن بذلك يا سيدي المحترم، نغتصب الضحية مرتين، المرة الأولى بترك المجرم كالثور الهائج ينطح في الجميع، والمرة الثانية بقسم اللوم على اثنين، على الثور لأنه -يا حرام- ارتكب جرماً، ثم اللوم الأكبر على السيدة التي كانت في طريقه حين بقر بطنها بقرنه، وانتهك قدسيتها بقذارته.

ولا تتخيل نفسك آمناً، إن قررتَ السكن في أفخم مكانٍ بمصر، فالجريمة يا سيدي تمت من طالبٍ في الجامعة الأمريكية، مع فتياتٍ يدرسن بالجامعة ذاتها، في أماكن متفرقة بالقرب من بيته بمنطقته الـ"هاي كلاس"، فكان وارداً جداً حتى وأنت تسكن هناك، أن تكون إحدى رعاياك -لا قدر الله- إحدى ضحاياه، فهل ما زال بعيداً عنك؟ وهل ما زلت تستنكر على الفتاة شكواها بدلاً من تشجيعها وحمايتها؟

ثم رسالتي إلى السيدة الكريمة أن لا يغرها وسامة الشاب ولا حلاوة لسانه، فعليها أن ترى جيداً مع مَن تتعامل، ولمَن تفضي بحياتها وسرها، ومَن الرجل الكريم ومن اللئيم، وكيف يستدرجها حتى تكون ضحيةً بين يديه، فريسةً يستمتع بنهش لحمها، بينما هي تصرخ في مجتمع أصمّ، يحب أن يتحدث فقط، ويجيد التنظير دائماً، ويريد أن يخالف الجميع، وأن يقول بكل تفلسف عكس ما يتوجب عليه قوله، ويرمي بلاه على المبتلاة.

ثم للآباء، أن يربوا أولادهم على غنىً من نوعٍ آخر، غير الذي يملؤونه بالسيارات وأرصدة البنوك، وغير الذي في أشكالهم وألوانهم ومظاهرهم، هناك غنى من نوعٍ آخر لن تجده إلا في العين، أن تكون عيون أولادهم ملأى، ليست فارغة تطمع دون شبع، وتلتهم دون توقف. وأرجوكم أن تعطوهم شيئاً صغيراً مع المصروف الكبير، ساعةً من وقتكم، تربوهم فيها، وتعرفوهم الفرق بين الصح والغلط، والحلال والحرام، والعادي والمعيب.

وعلينا يا سادتي الرجال، ألا يمارس أيٌّ منا ذكوريته على النساء، وخصوصاً في منطقة كهذه، فندافع دفاعاً مستميتاً عن شرف الرجولة، وعن طهارة الذكورة، كأن المجرم سيلطخ الجنس كله بسيرته القذرة، فنرى أن ندفع عنه تهمه وجرائمه، وندافع عنه، ونسأل الفتيات "إيه اللي وداهم هناك؟" بدلاً من أن تأخذنا الحميّة لأجلهن. وفي ذلك عوارٌ ونقص.

ويا أهالي الفتيات، أرجوكم لا تعلقوا لهنّ المشانق، كيف سيحكين تعرضهن للاغتصاب وهنّ غير مطمئنات لرد الفعل؟ كيف سيقلن إنه تم التحرش بهنّ اليوم وهنّ لا يضمنّ عدم حبسهنّ في البيت؟ كيف سيشكين من انتهاك أعراضهنّ، وفي البيت ستنتهكون حريتهنّ إن تفوّهن بنصف كلمة؟ أعطوهنّ الأمان، ثم عالجوا جروحهنّ، ثم جمّلوا أماكن الندبات. لأن الجرحى في الحروب وإن أخطؤوا الهدف، لا يعاقبون، وإنما تضمّد جراحهم أولاً، ثم يقال لهم: كان الأولى بكم أن تفعلوا كذا لتتجنبوا الإصابة، ثم يعانقونهم عناقاً طويلاً، ويقولون: لا بأس.

ولا يجب علينا أبداً السكوت عندما تفوح الرائحة، لأنها ستقتل كل شيء تصل إليه، بما فيه نحن، وتحضرني رواية "رجال في الشمس" للمناضل الفلسطيني "غسان كنفاني" حين مات الشباب من الحر والشمس والجوع في خزانٍ يحمله السائق في صندوق سيارته، وكتموا أصواتهم حتى وهم يموتون، ثم في النهاية حين وجدهم ميتين، سأل سؤال بديهياً جداً: "لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟".

وهنا قبل أن نموت من الصمت، وأن نموت من العجز، وأن نموت من اللوم وقلة الشرف.. أقول "دقوا جدران الخزان" وأقول اصرخوا، وأقول للمستمعين حين يصرخ الضحايا، لا تغلقوا عليهم الخزان فيموتوا، وغداً حين يوقعنا القدر في الخزان نفسه، لن ينفع الطرق ولو للأبد.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

يوسف الدموكي
كاتب وصحفي مصري
كاتب وصحفي مصري، تخرج في كلية الإعلام، قسم التلفزيون والسينما، يعمل بالصحافة وكتابة المحتوى والسكريبت، نُشر له 3 كتب مطبوعة، وأكثر من 200 مقال.
تحميل المزيد