البقاء للدولة لا للبشر.. لماذا فشلت مصر في التعامل مع أزمة كورونا؟

عدد القراءات
656
عربي بوست
تم النشر: 2020/06/27 الساعة 08:08 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/06/27 الساعة 08:08 بتوقيت غرينتش
البقاء للدولة لا للبشر.. لماذا فشلت مصر في التعامل مع أزمة كورونا؟

أعلنت مصر، منذ أيَّام قليلة، الشروع في كسر الحظر الجزئيّ المفروض على البلاد، والبدء في عودة الحياة إلى طبيعتها، على ضوء خُطة ثلاثيّة المراحل للتعايش مع وباء كورونا. وهو الأمر الّذي فتح الباب أمام تقييم استجابة البلاد لهذه الأزمة.

وعندما نتحدَّث عن تقييم استجابة دولة ما، لفيروس وبائيّ، قاتل، عابر للحدود، في عالَم متعولم؛ فإننا نضع نصب أعيننا عدداً من المُحددات، على رأسها: طبيعة خطاب السّلطة خلال الأزمة، من حيث السرعة والشفافيّة وتقاسم المسؤولية مع المجتمع، وأعداد المصابين والوفيات، مع الأخذ في الاعتبار قدرات الدولة الاقتصاديّة بشكل عام، وكفاءة جهازها الصحي بشكل خاص، وتوقيت الوباء الذي أصابها وحدّته، قياساً على الدول الأخرى.

ولما كانتِ الأمور آلت إلى ما نعرفه جميعاً عن مصر، تزامناً مع قرار الفتح، من أزمات خطابيّة وفنيّة بين الدولة والكادر الصحي، ومئات المقاطع المصورة – بلا مبالغة – لاشتباكات بين الأهالي على أبواب المستشفيات بسبب رفض الأخيرة استقبال ذويهم، في ظلّ ارتفاعٍ هائل متتابع في أعداد الإصابات والوفيات، وهي أعدادٌ مُقننَة بفعل تدخُّل السلطة، كما أكَّد وزير التعليم العالي نفسه، أو لعوامل أخرى ثقافيّة تتعلق بنظرة المجتمع إلى المرض؛ فإنه لابدّ من محاولة الوقوف عند "الاستراتيجيّة" التي أدَّت إلى هذه النتيجة.

حالة إنكار

استهلّتِ الحكومة المصريّة استجابتها مع الأزمة بالإنكار، لا بإنكار وجود المرض نفسه بطبيعة الحال، ولكن بإنكار وصوله إلى مصر، رغم كلّ "المؤشرات" التي أكدت انتشاره في الأوساط السياحيَّة على الأقلّ، مما تسبب في حالةٍ من "السيولة" الافتراضية والذُّعر المجتمعي العام.

يعتبر الإنكار أسهل الطُّرق لحل أي مشكلة تواجه الفرد أو المجتمع أو المؤسسة أو الدولة، إذ لم يعد هناك مشكلة، وهو بذلك يرفع عن كاهل المتضرر عناء شروط الحل والتصرّف بمسؤوليّة. ولكنه، يُضيِّع على الجميع، فرصة إنقاذ آلاف الأرواح في المهد، عبر قطع الطرق والمنافذ البريّة والبحريّة والجويّة، أمام فيروس يتضاعف وفق دالةٍ أُسيّة.

انكشف الإنكارُ في البداية، عند إعلان عدد كبيرٍ من الدول استقبالَ كثير من الحالات الحاملة للفيروس قادمةً من مصر، وتوجُّه معظم دول الجوار لغلق الحدود المشتركة لنفس هذا السبب. فُسر الإنكار في البداية بأنّه نقص في "البيانات" والكفاءة اللازمة للرصد. لكنه بات حقيقةً ماثلةً للعيان خلال شهر كامل (مارس)، كانت تُصدَّر فيه بيانات الصحة بأرقام المتعافين قبل المصابين، مع الحفاظ على متوسّط عام للإصابات – والفحوصات بالضرورة – بحيث لا يتجاوز عدد المصابين 40 مصاباً في اليوم.

وبينما كانت معظم دول العالم تجتهد في تطبيق الإغلاق التام، الّتي تعلم أنّه لن يطول كثيراً لأغراض اقتصاديّة، ولكنّه قرار ضروريّ في المرحلة الأولى من المرض، لسرعة احتوائه، ومنح المنظومة الصحيّة وقتاً أطول للاستعداد البشريّ والفني واللوجيستي، مع تكثيف "الفحوصات" لتقدير انتشار المرض، واستخدام التكنولوجيا (علوم البيانات) لضبط المشهد العام وإدارته، كانت مطارات مصر، ومدارسها، ومؤسساتها الدينيّة "مفتوحة على البحري".

على سبيل المثال، فرضت "إسرائيل"، في منتصف فبراير/شباط الماضي، قيوداً مشددة على الرحلات القادمة عبر حزمة من البلاد الآسيويّة، تضم كوريا الجنوبية وتايوان واليابان وتايلند وماكاو وهونغ كونغ، وخاضت أزمةً دبلوماسيّة مع الصين الّتي اتهمت تل أبيب بعدم الوقوف معها في محنتها، وفي منتصف مارس/آذار، أوكلت إلى "الموساد" مَهمة تدبير 100 ألف تحليل من الخارج، كدفعة مبدئيّة، يليها دفعاتٌ أخرى لرفع عدد الفحوصات إلى 4 ملايين تحليل. 

فيما لم تقم الحكومة المصريّة بغلق المجال الجّوي للبلاد إلا في التاسع عشر من مارس/آذار، وتعطيل الصلوات في الحادي والعشرين من مارس/آذار (السبت) بعد أداء الصلوات الجماعيّة للمسلمين والمسيحيين. وبحلول نهاية مارس/آذار، كانت مصر قد أجرت 25 ألف تحليل فقط، مقابل أكثر من 100 ألف لدى "إسرائيل" وأكثر من 200 ألف في الإمارات. والمقارنة مع "إسرائيل" هنا مردُّها إلى كونها جارةً حدوديّة لمصر، بقوة الأمر الواقع، تعاني من كثافة سكانية هائلة، وضعف عام في البُنى الاجتماعيّة والثقافيّة في الداخل، وتسلُّط من الجنرالات ورجال الدين، إلّا أنّ طريقة إدارتها للأزمة، ومن ثم النتائج، كانت مختلفة عن مصر تماماً. 

تثبيت الحدود الرمزية 

نظرتْ معظم دول العالم إلى الأزمة من منظور مسؤوليتها السياسيّة والأخلاقيّة تجاه المجتمع، مما أدَّى إلى كثير مما شاهدناه من إجراءات ثوريّة/ استثنائيّة تهدف لحماية الطبقات الدُنيا صحياً واقتصادياً من تبعات الوباء، ولكن النظام المصري نظر إلى هذه الأزمة، في المقابل، كتهديدٍ سياسيٍّ واجتماعيٍّ ينبغي كبحه بكلّ قوة، إذا لم يكن باستطاعته الاستفادة منه كسياق استثناء.

في البداية، استنكف السيسي أن يتنزَّل ويبرر -ولو كذباً- للمصريين سرَّ اختفائه، حتى الثاني والعشرين من مارس/آذار، رغم ظهور معظم قادة العالم للتواصل مع شعوبهم، ورغم ما هو معروف عنه من حبٍّ للظهور، ليعرف المصريون من خلال عمليّة تحليل وربط للبيانات، أنه كان خاضعاً لعزل صحيّ مُصمم بدقة، إثر مخالطته للوائين أصيبا بكورونا في أحد الاجتماعات العسكريّة، ليُكرِّس بذلك لحدود العلاقة المستقرّة بين السلطة والمجتمع في البيئات الاستبداديّة: ما أُريكم إلا ما أرى.

وقد صمّم ونظامه حزمةً واسعةً من المساعدات الماليّة (100 مليار جنيه)، استفاد منها أصحابُ الأعمال والمستثمرون والمضاربون في البورصة وحدهم، وفرُغت من مضمونها، وربما زادت الأعباء على الفئات المستحقة بالفعل، كالموظفين في الجهاز الإداري وأصحاب المعاشات والعمالة غير المنتظمة، بفضل الزيادات الكبيرة في أسعار الطاقة، ومعاشات العسكريين، واقتطاع الرواتب، وفرض الضرائب، ومضاعفة البنوك قروض المستفيدين من ميزة تأخير السداد؛ مما بدّد أي آمال في حماية الشرائح الفقيرة المتضررة من الحظر الجزئيّ وانتشار الوباء، فضلاً عن ارتقائها.

ومن هذا المنظور أيضاً يمكن فهمُ رفض النِّظام لأيِّ مبادرات لتخفيف السجون، الّتي تعدّ مجالاً حيوياً قياسياً لانتشار الأوبئة بشكل عام، وبيئةً مثاليّة لإنتاجها من العدم في مصر الّتي يصل التكدس داخل مقرات احتجازها إلى 300٪ بشكل خاص، ولو تأسياً ببعض الدول الّتي أقدمت على هذه الخطوة، مثل تركيا وإيران والبحرين والأردن، وذلك اتساقاً مع الرؤية المسبقة للأزمة: لا تأثير استراتيجي، سياسياً أو طبقياً، على الخطط الموضوعة.

وفي المقابل، لم يجد السيسي حرجاً من التصريح بهذه الاستراتيجيّة (الاستفادة من الأزمة، أو لا خسارة)، من خلال الإشارة إلى أنّه استعان بالداخليّة، بدلاً من الجيش، لتنفيذ قرار فرض حظر التجول جزئياً، ليمنحها الثقة اللازمة في نفسها خلال العمل العام، وعبر فتحه ملفَّ "البناء العشوائيّ"، ليؤكد أن التجاوزات الاجتماعية ضد رمزية السلطة والتي حدثت في "يناير" لن تعود مجدداً، وفي تعبيره عن سخطه من رفض دفعة الأطباء الجديدة استلام العمل، بل والإفراج عن عدد من الضبَّاط المتهمين بالقتل في قضايا سابقة، ليحلّ محلهم عددٌ من الأطباء والباحثين والصحفيين المتعاونين مع أهل الشر لنقل حقيقة الأوضاع المُتردية على الأرض في أزمة كورونا.

كما لا ننسى أنّ السيسي قطع عزله الصحيَّ لحضور جنازة "مبارك"، ليؤكد على استمرار تقاليد نظام يوليو العسكري الجمهوري، ممعناً في تثبيت الحدود الرمزيّة بين السلطة والمجتمع، التي حاولت ثورة يناير تفكيكها، وأنه استغلّ الأزمة لإعطاء شركات المقاولات الّتي فشلت في إنجاز مشروعات العاصمة الإداريّة الجديدة التي كان مقرراً افتتاحها نهاية الشهر الجاري، رغم العمل بكامل طاقتها خلال الحظر وافتتاحه عدداً من المشروعات الّتي أُنجزت بالفعل، مهلةً طويلة للعام القادم، مع الإيحاء -كذباً- أن هذه المهلة منحةٌ منه للعمال الملتزمين بالتباعد الاجتماعي.

البحث عن العقار

أمام هذه التصلُّب الرّسميّ المدمر، يبدو أنّ السيسي، ومؤسسة الرئاسة، قد اضطلعا بدور جديد يهدف إلى تخفيف حدّة الأزمة الداخليّة عبر التواصل مع العالم الخارجيّ.

فمنذ منتصف مارس/آذار، وظهور السيسي الأوَّل على الهواء (كما قيل حينها) أجرى السيسي عدداً كبيراً من الاتصالات الهاتفيَّة مع قادة دول العالم الكبرى، في أوروبّا وآسيا وأمريكا، وحضر أربع قمم إفريقيَّة، ومؤتمراً عالمياً، وكلها أنشطة عُقدت تحت وسوم وكلمات مفتاحيَّة: "كورونا، دعم دولي، مساعدات، لقاح".

ليس مستغرباً بحال أن يقوم رئيس الدولة بهذه المهام في ذاتها أبداً، ولكن المُستغرَب أن يقوم بها حصراً في ظلّ تردّي الأوضاع داخلياً بشكل مخيف، بحيث تصبح هناك فجوةٌ واضحة بين ما يقوله النظام وما يحدث على أرض الواقع من تفاعل بين طرفي الأزمة الأساسيين: المجتمع، والأطباء. وأن يوليها الرئيس هذا الاهتمام، رغم إمكانية تفويض أيٍّ من الوزراء المعنيين للقيام بها (الخارجية/ الصحة)، خاصة أنه لم يعقد إلا لقاءً يتيماً مع مسؤولي مستشفيات العزل.

ومن الواضح، أنّ هذه الأنشطة، الّتي لم تخلُ من أهداف سياسيّة تتقاطع مع مصالح النِّظام أكثر من تقاطعها مع مصالح المجتمع، كانت تهدفُ إلى تأمين حصّة مصر من "اللُقاح/ العلاج" المنتظر، كدولة صديقة تطوّعت بالمساعدات للدول الكبرى في وقت المحنة، أو كدولة نامية مستحقة للدعم، في سياق التقليد الرّسميّ الموروث في ترك الأمراض والأوبئة تتراكم، ثم علاجها دفعةً واحدة بثمن رخيص (تجربة علاج شلل الأطفال أيام مبارك، وفيروس سي مطلع حكم السيسي) وهو مسعى -السعي إلى الحصول على حل ناجز- محمود في ذاته، ولكنّه مكروه إذا كان بديلاً متعمداً عن المسارات العلميَّة الّتي اتفق عليها العالم كلّه.

مستقبل الفتح

يُشبه قرار الحكومة المصريّة بفكّ الحظر الجزئيّ، والّذي بدأ منذ مطلع أبريل/نيسان بالمناسبة، عبر تخفيف الحظر ساعة بعد ساعة، بالنظر إلى عدم التزام نفس الحكومة بالكود الرباعيّ العالميّ للتعامل مع الأزمة: إغلاق مبكر، حظر تام مؤقت، توسع في الفحص، استخدام التكنولوجيا للضبط والرصد؛ يشبه مشهد الفنان المصري أحمد حلمي في أحد الأفلام أثناء محاولة التشبُّه بالمظهر الشكلي لعدد من العابرين لإحدى بوابات الأندية، ظناً منه أن ذلك -وحده- يُخوِّل له العبور، فالأصل أن رفع الحظر كإجراء ضروريّ لأغراض اقتصاديّة، لم يكن ليحدث في هذه الدول، لولا تحقيق سيطرة نسبيّة على المرض، أو تقديم تجربة مُرضية في إدارة الأزمة.

ولمَّا كان التعامل مع الأزمة مختلاً غير ناضج منذ البداية، بالإنكار، والخطاب الرّجعي، رسمياً وإعلامياً، وبالاستغلال للسياسيّ للأزمة؛ كان لزاماً أن تكون السرديّة التبريريّة للفتح مضطربة، بين الادّعاء الكاذب بنجاح التجربة المصريّة تارة، أو بإلقاء مسؤوليّة الفشل على الطرفين الأضعف: المجتمع غير الواعي، الذي كان يجلب الضحايا إلى المستشفيات في وقت متأخر، أو الأطباء، غير الملتزمين، الذين ساهموا في ارتفاع الوفيات، تارة أخرى. 

المؤسف أنّ عدد الضحايا والإصابات سيزداد زياداتٍ كبيرة خلال الفترة القادمة، بالنَّظر إلى الجوع الشعبيّ العام لفكّ إجراءات التباعد، وتكدُّس ملايين المصريين في وقت واحد داخل المواصلات، خاصّة في ظلّ الإصرار على عقد امتحانات الثانوية العامة والسنوات النهائية للجامعات في مواعيدها، وفي ضوء الحقيقة الّتي صرنا نعرفها مؤخراً عن أن إجراءات التباعد، أصلاً، لم تعزز تحقق مناعة القطيع بالشكل المطلوب، وأن الأعداد المسجلة، في ظلّ الحظر الجزئي، وبعد ترشيد التحاليل في مصر، تجاوز 60 ألف إصابة، و2500 حالة وفاة.

 ويبدو أن الحكومة التي حاولت زيادة أعداد الكوادر الطبيّة، بتحويل الصيادلة لأطباء، منذ مايو/أيار الماضي، تعلم ذلك جيداً. وهو ما ينبئ، للأسف أيضاً، بمزيد من الأزمات الاجتماعيَّة بين الطرفين اللذين اعتادا ممارسة "العنف السلبي" تجاه بعضهما البعض: الأطباء والأهالي.

وعلى الأرجح، سيتحقق لمصر مبتغاها في الحصول على علاج مؤقت للمرض، وربما على المصل المنتظر خلال وقتٍ سريع من إنتاجه، بفضل كفاءة صناعتها الدوائية، وجهود الحكومة الّتي حصلت بالفعل على عينات ورخص لتصنيع عقاري "أفيجان"، "وأمديسفير"، ولكن ما إن يحدث ذلك، فإن كثيراً من الضحايا سيسقطون بسبب غياب "الديمقراطيّة"، لا بمعناها الإجرائيّ فقط، ولكن بمدلولها الرّمزيّ: أن يكون بمقدور المجتمع انتخاب ممثلين عنه، قابلين للمحاسبة، في سياق يحمل الحدود الدنيا من الرشاد والمؤسسيّة.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد سلطان
كاتب مصري مقيم بأستراليا
كاتب مصري مقيم بأستراليا
تحميل المزيد