زوجي لا يقول لي كلاماً حلواً

عدد القراءات
3,554
عربي بوست
تم النشر: 2020/06/26 الساعة 14:58 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/06/26 الساعة 14:58 بتوقيت غرينتش

في عصر مفتوحٍ على مصراعيه، صارت فيه البيوت مفضوحةً على ألسنة ساكنيها، والعلاقات مكشوفةً بحديث أطرافها، والعيون تنظر إلى أبعد مما تطاله الأيدي، بدت المشكلات أكثر من الحلول الممكنة، والكوارث في الأساس ناتجة عن توافِه كان بالإمكان أن تُحَل في هدوء، دون الحاجة إلى إذاعتها في عالم مثالي، يقول لأصحاب الشكاوى قبل أن يعرفوا التفاصيل: "اتطلّقوا"، بالمنطق نفسه الذي يقول: "الصباع اللي واجعك.. اقطعه".

وصار التعبير عن الحب مثالياً، لا يجب أن يتم إلا بصورة معينة، وأن يصاغ بألفاظ محددة، وأن تُستخدَم فيه البلاغة  بضرورة ملحّة كأن كلمة "أحبك" لم تعد كافية بمفردها، وكأن الذي يقول "اشتقتُ إليك" يحب أكثر مِن الذي يقول "وحشتني"، والذي يجلس على ركبة ونصف في الشارع ويفاجئ صديقته بعرض الخطبة، يستحق القبول أكثر من الذي يرسل إليها طلبه في رسالة، وكأن الحب صار شيئاً كريهاً، صار ثقيلاً، صار مرهقاً على الإنسان، مطلوباً منه أن يؤديه كممثل من الدرجة الأولى، لكن حين يكون ذلك الإنسان حقيقياً على طبيعته ويقول ببساطة: "أحبك"، فإنها للأسف لن ترضى بأن تكون أقل من فتاة يتقدم لها محبوبها أمام برج "إيفل".

وتتصور الفتاةُ الحبَّ قصيدةً لنزار، وتتخيله رسائل من الرافعي، وتريده قصة أفلاطونية خالدة، لمَ؟ لأن الجميع يفعل ذلك، أو يقول إنه يفعل ذلك، والكل يحب بالدرجة نفسها وبالشكل نفسه، كأن العالم كله لا بد أن يتحول إلى أدباء، حتى لو لم يجيدوا كتابة النثر ولا نظم الشعر ولا صياغة الرسائل، وكأن كل دلائل الحب لا تكفي، وكل كلماته لا تشفع أن تدخل القلب، وكل أفعاله تقليدية باهتة، وذلك لأن القلب –يا سيدي- يعشق كل جميل، والـ"جميل" في نظرة حضرتها له معالم حددتها هي وصديقاتها أمام أحد الأفلام، فإن لم يكن كذلك؟ "يغور" الحب.

والسيد هو الآخر ليس بريئاً كما تتخيل، الباشا الثقيل جداً، الذي لا يريد أن يقول كلمة حلوة لأنه رجل، بل لأنه سيد الرجالة، وكما نعرف فإن الكلمة الحلوة تنقص من فحولة الذكر منا، وتصوره "مدلوقاً" على حبيبته، ويتصور الفتاةَ ماكرةً تستغل تعبيره عن حبها في استعباده، فهل يبل ريقها بكلمة حلوة؟ أبداً، هل يفكر في الأمر باتزان؟ لا، لا بد أن يريها النجوم في عز الظهر، أن "ينشّف" ريقها حتى تتمنى أن تسمع ولو نصف كلمة ولا يُسمِعها، أن يعطّشها لعبارةٍ واحدةٍ منه، ولا يُعبّر.

ومن هنا يبدأ الصراخ "إلحقوني"، وتشتعل المشكلة التي كان من البسيط جداً أن تنطفئ بشِق كلمة، وكما قلنا سابقاً: "يختنق الإنسان بكلمةٍ يود سماعها، من إنسانٍ يختنق بكلمة يود قولها". ولو خرجت الكلمة لنجا القائل والمستمع.

وأرى في هذه المسألة أننا نتجاهل الأصل، ونبحث عن المشكلة في مشاكل أخرى، والحبّة تصبح قُبة، وننسى أو نتناسى أن العلاقات تقوم على الرفق. والكلمة رفق، والكلمة لين، والكلمة سحر، فلمَ نستكثر على الطرف الآخر حلاوة اللسان؟ كأنه مخزون سينفد، ويا ليته يا سيدي ينفد قبل أن يصبح اللسان نفسه بلا وزن ولا معنى. لكننا نحبسه في صندوقه، ولا نخرجه من جِرابه إلا وقت إعلان الحرب وإشهار كل أحرف اللغة البليغة في اللوم والعتاب. يا أخي! ما دام لسانك طويلاً في الأساس فلماذا لا تستخدمه في أشياء مفيدة؟

ثم نغفل أنه على السيد والسيدة أن يفهما جيداً، أننا نأخذ الذين نحبهم "شروة" واحدة، بكل ما فيهم من عيوب ومشكلات، ما دمنا ارتضينا المجمل العام، وعرفنا الملامح وعرفتنا، ثم نبحث عن المعوجّ ونقومه، ونقول: هذه نصلحها ببعض الكلام الحلو، وتلك نصلحها ببعض الاهتمام، وذلك سيكون أفضل حين نفعله معاً.

ثم رسالتي إلى أصدقائي في معسكر التستوستيرون: نعلم جميعاً أن المرأة مهما كانت تأكل بفمها ألف وجبة في اليوم، ومهما دفعها الإستروجين إلى تقلب المزاج ألف مرة في الساعة، ومهما انفتحت شهيتها على مصاريعها لتلتهم الثلاجة بما فيها، فإن ذلك كله يبقى نقطة في بحر، بجوار ما يمكن أن تأكله بأذنيها. مع العلم أن الكلمة كالفيتامينات، حبة واحدة تكفي طوال اليوم.

فتستطيع يا صديقي أن تجعلها ملكة زمانها في حرف، وأميرة مكانها في كلمة، وسيدة نساء أهل الأرض في جملة، وأسعد امرأة في الدنيا- برسالةٍ من سطرين. وأنت تعلم ذلك، وأنا أعلم ذلك، وهن يعلمن ذلك، فلمَ البخل يا سيدي؟ ولمَ لا نخرج الكلام المخنوق بداخلنا في كلمات؟ ليس مطلوباً منك كتابة مقال ولا نظم معلقة، وإنما بعاميّتك الدارجة، أو بعربيتك الفصحى، أو بإنجليزية مكسّرة، أو بأي لغةٍ تستطيعان فهمها، اكتب لها، أو اتلُ عليها ما تيسر من رزق الله بلسانك.

ورسالتي إليكِ يا سيدتي أن الاهتمام يُطلَب، والله، أنا آتٍ إليكِ من المعسكر الآخر، وأفشي لك أسراره الخطيرة، وأقول إنه يمكنك الفوز بالطرف الآخر نفسه لا بالحرب وحدها، إن أخبرتِه مرةً عما يجعلك سعيدة، عما تنتظرينه منه في المرات القادمة، عما هو غافل عنه، وعن خطورة أن تجف أذنك ويجف حلقه، فتشقق الأرض الخصبة بينكما، ويبور الحب.

ومن طرفي، أقول لكِ إنه سيجتهد، سيتعلم، لا بد أن يجتهد ويتعلم، أن يرسل إليكِ أغنيةً تقول كلاماً لم يستطع صوغه، وأن يبعث إليك برسالةٍ بين عاشقين وجدها بليغةً فقال إنها تعبر عنكما، وسيرسل إليك بيتاً يغازلك فيه، وسيقول لكِ ببساطةٍ حين تضيع الأحرف وتوضَع الأقلام، إنك أجمل ما رأت عيناه، وسيقبل يدك حين يدخل البيت، وسيقبل رأسك حين تدمع عيناك، وسيصدق القول بالفعل، ويُغني الفعل بالقول.

وأرجوكما، كلمةٌ في آذانكما، أن تحفظا لكما من أنفسكما شيئاً يخفى على الناس، أن يكون فوقكما سقفٌ ساتر، وخلفكما بابُ مغلق، وبينكما أسرارٌ كبيرة وصغيرة، ليس للـ"سوشيال ميديا" نصيبٌ فيها، لأن المعازيم حين يحضرون الفرح لا يدخلون معكما المنزل، وإنما ينصرفون وتبقيان وحدكما، لكن اليوم الأمر مختلف، وأرى المعازيم حجزوا غرفةً في بيتكما، أو أنتما حجزتما لهم غرفة، بها منظار يرى كل شيء، يرى القبلة واللمسة والهمسة، ومذياع يسمع الكلمة والضحكة والدمعة، ويعرفان عنكما كل شيء، مقابل نجومية عالمٍ افتراضي، بينما تدفنان النجوم كلها مقابل إرضاء فضول الناس.

والمبتعد -بتفاصيل بيته- عن الناس مستريح، لأن الله حين صور العلاقة استخدم لفظ "لباس" ليصفها باختصار، أي يستر بعضكم بعضاً، ويخبئ بعضكم بعضاً، فلمَ الهروب من المعنى إلى اللامعنى، والفرار من الستر إلى الفضيحة، والانصراف عن اللباس إلى التعري؟

وأخيراً وباختصار، الحياة ساحة حرب والخندق الذي يجمعكما ملجأٌ من القصف، سيموت الناس بالخارج بينما ستبقيان على قيد الحياة إن أردتما، وحين تنفد المؤَن والذخائر لن تعانيا من الظمأ، لأن حلقيكما رطبان، ولأن أذنيكما مرتويتان، وبينما يصارع العالم في القاع لينجو، لا تعبآن بشأن الموت والحياة، لأن الذي بينكما يمنح الخلود.

ببساطةٍ يا أخي ويا سيدتي، أنتما في سلامٍ ولستما في معركةٍ، وإن كنتما في معركة فشرط الفوز بها أن يربح الطرفان.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
يوسف الدموكي
كاتب وصحفي مصري
كاتب وصحفي مصري، تخرج في كلية الإعلام، قسم التلفزيون والسينما، يعمل بالصحافة وكتابة المحتوى والسكريبت، نُشر له 3 كتب مطبوعة، وأكثر من 200 مقال.
تحميل المزيد