قد تلقي الأساطير في مخيلتنا بعض الأمور اللامنطقية، قد نتقبلها على عواهنها ونحن صغار، وقد يكبر بعضنا ويظل صغيراً مُصدِّقاً تلك الأساطير، فلا عجب أن ترى البسطاء في الأحياء الشعبية أو حتى الراقية يتهافتون على دار سينما تعرض فيلماً يطرح قصة خرافية، ويتناقلون سيرتها فيما بعد في جلساتهم، كأنها حقيقة. لكن قصتنا هذه المرة قلبت تلك الموازين، فالأُسرة نفسها لا تقبل بالموازين التي وضعها مجتمعها راضياً أو مرغماً، فلها معايير خاصة في قياس الأمور، قعَّد قواعدها مؤسس الأسرة ومشت عليها الأسرة من بعده ناموساً لا يقبل التغيير، أولى هذه القواعد أن الأسرة كلها رجال.
إنها الأسرة التي لديها القدرة على تحويل المآسي إلى منبع قوة تنطلق من خلالها إلى الأمام، إنها الأسرة التي صنعت تاريخاً مشرفاً، بعدما رضعت الإنسانية في غياهب ظلمات الظالمين فأبت إلا أن تنشره نوراً على المظلومين في الأرض التي عشقوها، فلوَّنت شمسها جلودهم ونحتت أرصفتها أجسامهم.
مولد الأسطورة
تقول الأسطورة إن سِت قتل أوزوريس واغتصب العرش بعد أن قطع جثة أخيه الملك إلى اثنين وأربعين جزءاً ووزعها على أقاليم مصر، ورغم ذلك لم تستسلم إيزيس زوجة الملك المغدور وجمعت أشلاء أوزوريس، ليصبح ملكاً من جديد في مملكة الموت، ويناضل ابنه حورس من أجل الحق والعدل ويصارع سِت ويشتد الصراع ويبلغ مداه من العنف، ومع صبر حورس وجَلده انتصر، وأعاد النظام الذي افتقدته مصر تحت حكم سِت، ليحيا أوزوريس من جديد في مصر العدل والحرية.
وُلد المحامي أحمد سيف في مركز حوش عيسى بمحافظة البحيرة في مصر، ورغم تخرجه في كلية الاقتصاد والعل السياسية فإنه أصر على أن يحصل على ليسانس الحقوق من الجامعة نفسها، جامعة القاهرة، في الفترة التي كان يقضي فيها عقوبة السجن بتهمة الانضمام إلى تنظيم شيوعي مسلح!
إنه الأب المؤسس لعائلة سيف التي تضم زوجته ليلى سويف أستاذة الرياضيات في كلية العلوم بجامعة القاهرة، ومنها أنجب للعالم ثلاثة أطفال كبار لينضموا إلى الآباء المؤسسين وهم: علاء ومنى وسناء.
تجربة اعتقال الأب في سنواته الأولى ألقت بظلالها على سلوك العائلة سواء في سنوات غيابه، أو بعد خروجه من المعتقل، إذ أخذ طريقه نحو تحدي الظلم، فاختار الدفاع عن المظلومين، تشهد له كل التيارات بنبله ووقوفه معهم دون النظر إلى الأيديولوجيا، فالفترة التي كان الأب يقوم فيها برسالته التي وهب عمره لها، كان النظام قد حدد وجهته وصوَّب مدافع ظلمه وأطلق كلابه نحو الإسلاميين، وعلى الرغم من التباعد الأيديولوجي بين الرجل والضحايا فإنه لم يتردد يوماً في الدفاع عنهم.
الابن الأكبر علاء ذاق طعم الاعتقال أول مرة عام 2006 في المظاهرات المطالبة باستقلال القضاء، وبعد خروجه سافر للعمل في جنوب إفريقيا، لكنه عاد في أعقاب ثورة يناير، ليحمل الراية مع والده ليُسقط نظام القمع في بلاده، ومن يومها لم يعرف علاء طعم الحرية إلا قليلاً، ولحقته في الدرب أخته، وكانت من الخلف تدفع الأم ويثبّت الوجدان الأبُ الذي أعياه المرض قبل أن يموت وابنه معتقل، لتكون آخر كلماته: (أشعر بأنني أورثت ابني الزنزانة).
رغم الانقلاب العسكري الذي أطاح بكل ما أنتجته ثورة يناير من ديمقراطية، وأطاح بالحريات التي حاولت الثورة ترسيخها، فإن عائلة سيف لم ترضَ أن يكون القمع ثمناً لمصالح الغرب، ويكون الأحرار قرابين تقدَّم في مذبح التربيطات الدولية وتبادل المصالح، فلم يقبلوا تكميم الأفواه وكانت المواجهة الأولى مع صدور قانون التظاهر، لتتوالى المواجهات، ويكشف النظام عن الوجه الحقيقي، فالهدف ليس تمرير القانون، وإنما الهدف هو محو كل آثار ثورة يناير وإسكات كل صوت يمكن أن يدافع.
وبعد أن أخذ شركاء الثورة القرار وغادروا الشارع، لم تقبل عائلة سيف أن تخرج واستمرت بعد أن أقلع الرجال، والحديث هنا ليس للأفراد المؤتمرين، ولكن الحديث عمن أعطى الأمر بأن يقلع الرجال، وإن كان القرار حتى اليوم غير مفهوم، وعلى غير رغبة الرجال، لكن الآمر قد أخذ القرار، ولأن عائلة سيف رجال، و"لا يقبلون الضيم ولا ينزلون على رأي الفسدة" فإنهم ظلوا في ساحة معركة الحرية وحدهم "مكمّلين".
ملحوظة: عزيزي القارئ أرجو عندما تقرأ هذا المقال أن تنظر للمستقبل قبل أن تنظر إلى الوراء، أن تعيد تذكير نفسك بشعار الثورة (عيش- حرية- عدالة اجتماعية- كرامة إنسانية)، التصالح مع النفس ومع الآخر أول خطوة للاصطفاف في وجه من خطف البلاد وأعادها إلى الخمسينيات والستينيات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.