خرج علينا ساكي في إحدى محاضرات "الكوفيرتشانو" مطلقاً كلمات أثارت وما زالت تثير الجدل حتى يومنا هذا: "دائماً ما تذهب الفرق التي تتبنى أسلوب لعب واحد بعيداً في كرة القدم".
ليرد عليه المحنك أليغري ضاحكاً: "ماذا لو أوقفك قاطع طريق، ما الطريقة التي ستتعامل بها معه؟ بالتأكيد ستكون مختلفة عن تلك الطريقة التي ستتعامل بها مع جورجي أرماني، هذه هي فكرتي في اللعبة، الخصم وما أملك من لاعبين، كلها أمور تتحكم في طريقة تفكيري قبل كل مباراة".
فكّرت في كلامهم جيداً، ورغم أن كليهما نقيض للآخر، فكلاهما على صواب، نظرة أليغري واقعية جداً وبسيطة، عليك التلون لأن الخصوم لا تشبه بعضهم. وكلمات الأسطورة ساكي صحيحة؛ برشلونة في عهد بيب غوارديولا، وآي سي ميلان في زمان ساكي وليفربول نسخة كلوب وغيرهم، ذهبوا بعيداً في اللعبة بأسلوب كل منهم الفريد.
قبل أن يقطع حبل أفكاري ويثير انتباهي الألماني الشغوف يورغن كلوب ويقول: "حلمي دائماً أن نلعب بأي قميص عشوائي، وإذا شاهدتنا تعرفنا وتقول هؤلاء ليفربول، أن تكون هويتنا واضحة لأي شخص يرانا وهذا ما نحاول فعله".
حقاً لأسلوب اللعب تميّز وتفرّد، ترسيخ الهوية هي الانتصار الأعظم في اللعبة، السعي خلف النتائج بطرق البراغماتية نشوته مؤقتة، تختفي بانتهاء مراسم التتويج وبدء الموسم الجديد. وها هو جيامباولو يدلي بدلوه ويقول: "الارتجال هزيمة، عدم تقديم أسلوب الفريق هزيمة".
هذا هو الفرق بين الأيديولوجي والبراغماتي، الأول هويته لا تمس، وتأتي قبل أي شيء. والثاني النتيجة الإيجابية همّه الأوحد، تأتي بأي طريقة كانت، بالقتال أو بالرقص.. لا يهم، المهم أن تأتي، البراغماتي كافر بالأسلوب الموحّد.
اعتلى النجم السويدي زلاتان إبراهيموفيتش المنصة، وقال دعوني أخبركم بتحويلي الجذري، عندما انتقلت من أياكس للسيدة العجوز أخبرني كابيلو بكلمات لا أنساها: "أريد أن أهزم أياكس الذي بداخلك، لست بحاجة إلى الأسلوب الهولندي في تناقل الكرات، والاستعراض واللعب بفردية وتخطي كل الفريق، أحتاج للأهداف.. هل فهمت، عليّ أن أقحم الطريقة الإيطالية داخل عقلك، عليك أن تمتلك غريزة القاتل فقط".
كسر كابيلو ريشة السويدي، ووضع محلها رشاش في يده.
لا يوجد في تاريخ تلك اللعبة من هو أكثر براغماتية من كابيلو، فهو رجل لم يترك بصمة في عالم التكتيك كغيره من أبناء مذهبه، لكنه كان عاشقاً للربح مهما كانت الوسيلة، ورغم ذلك قال في إحدى الندوات: "هناك ثلاث نوازل أقاموا ثورات في كرة القدم: الأولى هي قانون التسلل، والثانية ميلان مع ساكي، والثالثة هي برشلونة بقيادة بيب".
ياله من اعتراف مدوٍّ من زعيم البراغماتيين.
جلست أفكر لماذا يتحدثون عن جيل هولندا في كأس العالم 1974 ولا يتحدثون عن البطل، لماذا برازيل 1982 عالقة في الأذهان أكثر من حامل اللقب. تذكرت استنفار وغضب الجمهور الهولندي من أداء المنتخب في كأس العالم 2010، رغم وصولهم للنهائي، وكانوا قاب قوسين أو أدنى من الظفر باللقب. لماذا لم يتعاطف أهل البلد مع فريقهم المغدور به في النهائي، وبقي فريقاً مكروهاً في الأراضي المنخفضة عكس منتخب السبعينات، هنا أتذكر مقولة كرويف: "للأسف لقد لعبوا بطريقة قذرة جداً".
يتحدث ساكي ثانية: "النتائج تدوّن في الدفاتر، أما أسلوب اللعب فيبقى عالقاً في الأذهان". فيرد أحدهم: "من أراد المتعة فليذهب للسيرك"، ليقطعه مدرب أياكس إيريك تين هاغ ويقول: "أكبر إنجاز لنا ليس في التغلب على ريال مدريد ويوفنتوس، الإنجاز الحقيقي أن الناس استمتعوا بطريقة لعبنا".
يسرق الميكروفون العبقري خوانما ليو ويقول: "النتائج مجموعة من البيانات لا تناقش، هل تذهب لملعب المباراة ٩٠ دقيقة كاملة لمشاهدة لوحة النتائج أم لمشاهدة المباراة نفسها، الهدف في الرحلة يقع في العملية، في الجهد المبذول، إذا كنت الأول لأميال في سباق ما، وقبل النهاية بخطوات سقطت، هل ذلك يعني أنك فاشل؟".
يتحدث ساكي مرة أخرى: "في إيطاليا نعتقد بأننا نفهم كل شيء، مع ذلك ندافع بـ10 لاعبين ونهاجم بلاعب واحد، عادة ما تسمعهم يرددون أن النتائج هي الأهم، حقاً النتائج تُكتب في التاريخ، لكن الأداء يبقى عالقاً في الأذهان إلى الأبد، نتذكر هولندا السبعينات أكثر من إيطاليا الثمانينيات، كرة القدم تشبه المسرحية من الأفضل أن تنتهي بشكل جيد، لكن هذا لا يعني التغاضي عن السيناريو الكامل".
يكمل إنييستا السطو على الميراث الإيطالي ويقول: "في إيطاليا عندما يعود الطفل إلى منزله بعد المباراة يسألونه: هل فزت اليوم؟ أما في إسبانيا فيسألونه: هل لعبت جيداً اليوم؟ هذا هو الفرق بين مَن لديه هاجس الفوز، ومَن يملك ثقافة الأداء، لذلك نحن في المقدمة في السنوات العشر الأخيرة".
ينتفض خيسوس من مكانه ويقول: "نحن نختلف في نظرتنا لأهمية المتعة في كرة القدم، لكننا لا نختلف أبداً حول أهمية النتيجة ورغبة الجميع في الحصول عليها". فيرد عليه كرويف: "أن أخسر وأنا مقتنع بأفكاري أفضل من أن أخسر وأنا مقتنع بأفكار الآخرين".
يرد خيسوس: "كرة القدم لعبة معقدة جداً، أنا مثلاً ألعب للهجوم وأريد أن أفرض أسلوبي، لكن كل هذا لأجل النتيجة".
فيتحدث بيب: "يوماً ما سأتولى قيادة فريق صغير لا يمكنه الفوز بالبطولات، لكنني أعدكم بأن الكرة ستكون معنا".
يكمل خيسوس بضحكة ممزوجة بالنرجسية: "المدرب الذي يهاجم يعتقد بأن الهجوم هو الأقرب للفوز من الدفاع، هو لم يهاجم من أجل المتعة بل من أجل الفوز".
ليرد أخيراً بيب: "نحن نحمل أفكار كرويف، خوانما ليو، سيزار مينوتي، أنخيل كابا، بيدرنيرا، برازيل 70، أياكس، وعظماء المجر، إننا ورثتهم، هناك عديد من المدربين يلعبون بتحفظ اليوم، أحترمهم بشدة وأقدر ما يقومون به، لكننا مختلفون، لأننا اخترنا الطريق الأصعب، وقررنا وضع السؤال، بدلاً من الإجابة عليه، بكل تأكيد سنخسر في أوقات، لكن ستشرق الشمس من جديد، وسنحلم ونعيد الحلم مراراً و تكراراً".
خرجت من المحاضرة والصراع مستمر في رأسي، مع يقين بأن الأيديولوجية والبراغماتية لن يتقاطعا سوياً ولا أرضية قادرة على جمعهم، سيكولوجيا كل مذهب مختلفة تماماً. لكني اقتنعت بأن الأيديولوجي صاحب النفس الطويل، والمشاريع العملاقة، والبراغماتي صاحب المناورات الصغيرة، فهو كعامل باليومية، يعمل اليوم بيومه بل الساعة بساعتها، عليه أن يتلون كلما وجب عليه التلون حتى لا يعلن إفلاسه. يحضر لكل مبارة وكأنها نهائي قاري، لكنه لا يأخذ وقتاً طويلاً للتأقلم، أما الأيديولوجي فيأخذ وقتاً أطول حتى يتشرب لاعبوه من أسلوبه.
خرجت في حيرة بين المذهبين.. أيهما أصح؟ حتى صادفت المهووس الأرجنتيني مارسيلو بيليسا وقصصت عليه كل ما دار هناك، ضحك قليلاً ثم قال: "كل الطرق تؤدي للفوز وكل الطرق تؤدي للهزيمة".
أبلغ جملة سمعتها، حسمت الزخم في رأسي، فالنتيجة لا أب لها ولا أم، إيطاليا فازت بالمونديال بالقتال، وإسبانيا فازت بنفس المونديال بالجمال.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.